الساسي يكتب: حراك الريف .. خصوصية الاختبار (الحلقة الرابعة)

المقاربة “الأمنية” تعقد المشكل عوض حلهالمقاربة “الأمنية” تعقد المشكل عوض حله
في الأنظمة السلطوية عموماً، تنزع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية نحو الاستقواء، وتتصور بأن بإمكانها حل جميع المشاكل السياسية وغير السياسية، وأنها كأجهزة ليست في حاجة لغيرها، فهي تكفي ذاتها بذاتها، وأنها تملك ناصية العبقرية والمعلومة والدهاء والدربة، وبالتالي القدرة على حسن تدبير أكثر الملفات استعصاء ومعالجة كل القضايا، حتى الشائكة منها، وحماية النظام القائم. ولكن التجربة التاريخية تتبث لنا بأن قوة الأجهزة الاستخباراتية والأمنية لا تستطيع أن تمنع الأنظمة من السقوط، وما سُمِّيَ بالربيع العربي يعطينا أكبر دليل على ذلك.
مأزق التعاطي الأمني
التعاطي “الأمني” مع حراك الريف وجد نفسه في مأزق بعد أن تأقلمت الساكنة مع القمع. كان الهدف هو توقيف الحركة الاحتجاجية، فأبدع النشطاء من الوسائل ما أَمَّنَ استمرار هذه الحركة، وظهرت حدود المقاربة القمعية. ذلك أن السكان ردوا بوسائل مختلفة، كالطنطنة، وإطفاء الأضواء، والأعلام السوداء، ومقاطعة صلاة الجمعة، والإضراب العام، وتشغيل منبهات السيارات، والنزول إلى البحر، والمسيرات الصغيرة في الأزقة.
وكلما واصل السكان أنشطتهم الاحتجاجية المتنوعة الأشكال والألوان، زاد النظام في منسوب القمع والاعتقال. لكن عندما يصل عدد المعتقلين إلى حد معين، يصبح عبئا على النظام نفسه، لا يمكن التخلص منه بسهولة. هكذا وجد النظام نفسه مُوَرَّطاً في حلقة الرد على ما يعتبره تحدياً بمزيد من التحدي. واكتشف أنه قد فتح عليه جبهة جديدة، هي جبهة عائلات وأسر المعتقلين، وكلما اتسع القمع، تتعزز هذه الجبهة وتختار لها أشكالاً نضالية تنضاف إلى نشاط الساكنة في عين المكان. وأصبحنا أمام صيغ نضالية جديدة، مثل التخلي عن إظهار مظاهر الفرح المألوفة بمناسبة العيد، والاستغناء عن الطقوس الاحتفالية، واكتفاء العديد من عائلات المعتقلين بنحر أضحية واحدة والتصدق بها فقط…
ورغم شراسة القمع وضخامة الترسانة الأمنية التي تمت تعبئتها لمواجهة الحراك، فإن سكان المنطقة واصلوا التشبث بقادة الحراك، وظهر بأنه لا شيء يمكن أن يقع بمعزل عن إرادة وقرار هؤلاء.
إذن، في جميع المراحل الخمس التي مر منها السلوك الرسمي في التعاطي مع الحراك، استمر الحراك، وظلت قضية الريف مطروحة، وتحدى النشطاء المنع والتهديد، وأصبح النظام منشغلاً بالسؤال حول الكيفية التي سيتم بها تدبير استمرار الاعتقالات وحصول محاكمات وصدور أحكام في حق قادة الحراك.
الصمود العالي للمعتقلين، في حد ذاته، اليوم، كافٍ لإثبات استمرار الحراك. صحيح أنهم تلقوا إشارات بقرب انفراج الوضع فتفاعلوا معها وأرسلوا، من جانبهم، إشارات التهدئة، ولكن النظام الذي يدعو الآخرين إلى التهدئة يمارس هو التصعيد، ولذلك فإنهم واعون بأن حصول أي شرخ في جدار صمودهم وتعبئتهم ونضالهم كمعتقلين وعائلات ونشطاء، سيفضي إلى المزيد من التغول والاستئساد من طرف صقور المنحى السلطوي.
ما توخاه النظام، إذن، من مقاربته القمعية، لم يحصل حتى الآن، ولم تَجْرِ الأمور بالطريقة التي كان مخططاً لها، وأصبحنا أمام واقع جديد عنوانه، صمود الحراك، واستمراره بأشكال مختلفة.
وما نعاينه، اليوم، هو نزوع أصحاب تلك المقاربة نحو خيار الهروب إلى الأمام في محاولة لإخفاء الفشل. وفي مثل هذه الظروف فكل شيء ممكن الوقوع، وتجارب العالم تؤكد لنا أن الأمنيين قد يلجؤون إلى شتى السبل، بما فيها الرعناء أحياناً، لإثبات صواب تصورهم ومقاربتهم !
التعامل مع الحراك كملف من ملفات الإرهاب
يجب التأكيد في البداية على حقيقتين اثنتين، الأولى أن المغرب، مثله مثل كثير من البلدان، مستهدف من طرف الإرهابيين. وخطر حصول عمليات إرهابية في المغرب ليس قصة من نسج الخيال. الحقيقة الثانية أن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، حققت نجاحات ملموسة وجوهرية في محاربة الإرهاب. فمنذ عدة سنوات لم نشاهد حصول عملية إرهابية في بلادنا، وهذا شيء يتعين الاعتراف به. طبعاً، هناك تنويه دولي بمجهود المغرب في محاربة الإرهاب، وهناك دول كبرى تقر بفعالية الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المغربية. وفي مثل هذه الوضعية يُخشى، دائماً، أن يتمتع الأمنيون، شيئاً فشيئاً، بنظام امتيازي يعطيهم نوعاً من راحة البال وحرية الحركة والنشاط، فيقعون في تجاوزات وإخلالات بالقواعد النظامية التي يجب أن تتم في إطارها مبادراتهم وعملهم ومجهودهم.
الخطأ الذي، ربما، يكون النظام قد وقع فيه، هو اعتقاده أن النجاحات التي حققتها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في معالجة قضية الإرهاب، يمكن أن ترافقها في معالجة ملفات أخرى، مثل ملف الحراك. ومن ثمة، نلاحظ بأن هناك من يعتبر أن ملف الحراك يمكن أن يُعالج بالطريقة التي تعالج بها ملفات الإرهاب، وأن ذلك الملف يطرح على الدولة نفس التحدي، ويتطلب نفس الحزم وستتحقق في معالجته نفس النتائج الجيدة التي تحققت في معالجة ملف الإرهاب عموماً.
ولهذا وجد النظام نفسه منساقاً إلى تعميم الآليات والمنطق والأسلوب، الذي يعالج به ملف الإرهاب، على ملفات أخرى من ضمنها ملف الحراك. واستُعيرت بعض الوسائل، المستعملة في حقل مواجهة الظاهرة الإرهابية، لاستخدامها في حقل مواجهة حراك جماهيري يختلف جوهرياً عن الإرهاب.
هنا يطرح التساؤل التالي : هل يمكن في مواجهة حراك الريف، والحركات الاجتماعية والاحتجاجية، بصورة عامة، استخراج نفس المنطق والوسائل والأسلوب المستعمل في مواجهة النشاطات الإرهابية؟ الأمر في نظرنا ليس ممكناً لاعتبارات عدة:
– الإرهاب يتم في الظلام، بينما في حالة حراك الريف، نلاحظ أن هناك نشطاء وقادة يقدمون أنفسهم للناس بوجه مكشوف، لهم مطالب يوضحونها للعموم ويبسطونها، ويتحدثون عنها ويرافعون في سبيلها. ويحددون مواعيد تظاهراتهم ومسيراتهم، ويعرضونها في الساحة العامة، بينما التحضير للعمليات الإرهابية يجري في الظلام.
– إن العمليات الإرهابية ينفذها نشطاء محدودون يعتمدون فيها على قدرات تقنية غير متوفرة لعموم الناس، وتتم مباشرة تلك العمليات من طرف خلايا مغلقة، مجهولة، معزولة عن الناس، لديها وسائل تقنية، ولكن ليس لديها امتداد جماهيري أو تواصل تنظيمي مع عموم الناس. الإرهابي ليس له تجذر، فهو منبوذ من المجتمع، لا يتعاطف الناس معه، ولا يمنحونه أية حماية، ولا يبدون حياله أي تضامن. بينما في حراك الريف لاحظنا بأن النشطاء نجحوا في تعبئة الكتلة الحرجة من خلال فعلهم في الساحة.
– إن الرواية الأمنية والاستخباراتية المتعلقة بالخلايا الإرهابية النائمة، أو اليقظة، لا تجد من ينازع فيها لعدم توفر الناس على الوسائل التي تسمح لهم بالمنازعة فيها. فعندما يَرِدُ في الرواية الرسمية أن فلاناً قد بايع أبا بكر البغدادي مثلاً، فليس لدى المنظمات الحقوقية، أو عموم الناس المتتبعين، في أغلب الحالات، الوسائل الكافية لإثبات عكس ذلك، فلا يستطيعون القول إن فلاناً لم يبايع البغدادي. لكن في حراك مثل حراك الريف، عندما تقدم الأجهزة الأمنية روايتها، عن سير الأحداث، فإن العالم كله يستطيع تأكيد أو نفي تلك الرواية، لأن لديه الوسائل من خلال مواقع التواصل الاجتماعي لمعرفة هل كان الحراك سلمياً، أم لا.
فالصور والفيديوهات تُتَداول، على نطاق واسع، محلياً ووطنياً ودولياً، وتقدم الحقيقة للناس، وتسمح لهم بأخذ فكرة عما يجري، وتقييم مدى صدقية أو عدم صدقية الروايات التي تصدر عن المسؤولين الأمنيين في هذا البلد أو ذاك.
التجاوزات التي قد تتورط فيها الأجهزة، بمناسبة صدها لحراك جماهيري، تكون كلفتها على مستوى الصورة الخارجية للدولة، أفدح وأغلى من كلفة التجاوزات التي تتورط فيها في إطار مواجهتها للأعمال الإرهابية. وفي الحالة المغربية، يجب أن ننتبه، دائماً، إلى الكُلفة الإضافية التي نضطر إلى تأديتها، على مستوى قضية الصحراء المغربية، وخاصة عندما نحاول إقناع الرأي العام العالمي بأن حقوق الإنسان محترمة على مستوى هذه القطعة من ترابنا الوطني، بينما يصعقه حجم الانتهاكات المقترفة في جزء آخر من التراب ذاته.
يمكن لنا، بسهولة، أن نستشف، من بعض مظاهر السلوك الرسمي، ما يفيد بأن التعامل مع حراك الريف تمَّ بنفس أسلوب التعامل مع ملفات الإرهاب. يتجلى ذلك، مثلاً، في مشهد الطائرة التي نقلت المتابعين، ونزولهم منها شبه حفاة، وبلباس خفيف، مما يعني بأنه لم يُمنح لهم الوقت الكافي للاستعداد للخروج، وضخامة وتنوع الفرق الأمنية التي تحيط بهم، وكنس رؤوسهم، وظهور بعض الأمنيين الذين يرافقونهم بوجوه ملثمة، والإحالة على الفرقة الوطنية بالدار البيضاء، واعتماد طريق المداهمات، وكسر الأبواب، وهو الإجراء الذي يُبَرَّرُ، في حالة معتقلي الإرهاب، بالخوف من أن يكون سكان البيت متمنطقين بأحزمة ناسفة.
غياب التمييز
المعروف أن دعاة القبضة الحديدية، لا يميزون بين حراك جماهيري سلمي وبين عمل إرهابي، إنهم يعتبرون بأنه في الحالتين معاً، تُوجد الدولة أمام نفس الإشكالية. وفي المغرب، أيضاً، كما في بلدان سلطوية عدة، تُستعمل، تحت ستار الحرب ضد الإرهاب، وسائل غير نظامية كثيفة للتضييق على الحريات، وخنق الحقوق الديمقراطية وتصفية الحساب مع معارضين سلميين. ولاحظنا، منذ عدة سنوات، كيف تَتِمُّ متابعة صحفيين مزعجين، ولا علاقة لهم البتة بإيديولوجية الإرهابيين واستراتيجيتهم، بموجب قانون الإرهاب نفسه.
أصبح لدينا في المغرب توجه يصل إلى حد إعطاء الدروس للدول الديمقراطية و”تنبيهها”، إلى أن تمسكها بالمساطر الديمقراطية، هو بمثابة تقصير منها في التجاوب مع اقتضاءات محاربة الإرهاب، ولهذا فإن بعض الكتابات الصحفية تذهب، بصدد أعمال إرهابية، إلى أن “هذه الأفعال المشينة تصبح قاتلة. والرد عليها يجب أن يمتح من معجم الردع. التضييق على حرية الأشخاص لضمان الأمن، لم يعد نقاشاً ولا حتى اختياراً. لقد أضحى ضرورة في مواجهة إرهاب همجي وأعمى”. هذا يعني أن محاربة الإرهاب تتم بجميع الوسائل، وأن الذي يهم ليس هي نظامية وشرعية هذه الوسائل، ولكن هي النجاعة والنتائج الملموسة التي يتم تحصيلها لفائدة الأمن في المغرب وبلدان أخرى.
أصبح، إذن، يتأسس، في الفترة الحالية، نزوع رسمي، في المغرب، نحو تبني الفكرة القائلة إن أجهزتنا الأمنية والاستخباراتية، مادامت تنجح في تقديم المعلومات الثمينة، والتي لا غنى عنها لمحاربة الإرهاب، إلى مختلف بلدان العالم، وأصبح صيت هذه الأجهزة ذائعاً وإنجازاتها مشهودة، فإنها منحت المغرب نوعاً من الريادة الاستخباراتية، وجعلته يرقى إلى مصاف الدول العظمى القادرة على تقديم الفتاوى.
وبالتالي، فإن أجهزة أوصلت المغرب إلى هذا المستوى العالمي، لا يمكن أن تقف عاجزة أمام ملف كملف الحراك، وأمام المقاربة القمعية فإن العالم سيصمت، لأن الدور الذي لعبه المغرب في محاربة الإرهاب لصالح الدول الغربية، سيمنحه حصانة، وأن هذه الدول ستتجاوز عن أخطائه ضماناً لاستمرار دعمه الاستخباراتي.
هذه الفكرة تتجاهل بعض المعطيات المستجدة التي تجعل، اليوم، الحكومات غير قادرة على الحسم لوحدها، إذ هناك مجتمع مدني ضاغط يمكن أن يجبر الحكومات على اتخاذ مواقف قد تبدو في غير مصلحتها. في قضية الصحراء، مثلاً، لم نستطع تقدير حجم تدخل المجتمع المدني في توجيه مواقف كثير من الحكومات كالسويد، مثلاً. غابت عنا هذه الحقيقة وكانت تنائج ذلك ضارة بحقوق المغرب.
وأكثر من هذا، بدأ الترويج لأطروحة مفادها أن بعض معاهد البحث الغربية أصبحت تعتبر بأن حراك الريف يمكن أن يكون مدخلاً لتقوية الإرهاب في المنطقة. وبناءاً عليه، يجب الاستمرار في سياسة القبضة الحديدية والتشدد الأمني. إذن، أصبح هناك تسويق واسع لفكرة مؤداها أن تلك السياسة تستند إلى وجود معلومات وخطط تُدَبَّرُ في الخفاء للمس بالاستقرار في المغرب والاستقرار في المنطقة والعالم بأسره، وأن هذا من الأمور التي لا يدركها عموم الناس، بل وحتى عموم النشطاء، ربما.
وتحدثت وسائل إعلام عديدة عن “الثورة الهادئة” التي هي في طور الوقوع في الحقل الأمني المغربي، والتي تَعِدُ المغاربة بأوضاع جيدة وتفتح أمام بلادنا ليس فقط سبل الحفاظ على الأمن العام، بل تأمين كرامة المواطن والاستجابة لكثير من حاجياته وفتح صفحة جديدة في بلادنا. والإيمان بحدوث هذه الثورة، يقتضي منا أن نوفر شروط نجاحها، وذلك بالتخلي عن كثير من حقوقنا والابتعاد عن كل نشاط يمكن أن يمثل، من وجهة نظر الأجهزة، عرقلة لعملها أو تبخيساً لمجهوداتها أو تقييداً لحرياتها.
اترك تعليقاً