وجهة نظر

أي مصير ينتظر مقاتلي داعش وأطفالها ونساءها بعد نهاية دولتهم؟

منذ بداية الحديث عن تأسيس ما سمي حينها بدولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام (داعش)وتنصيب أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين، وأنا على يقين أنإعلان نهاية هذه “الدولة” أمر محتوم بل ووشيك، لن يتأخر كثيراعن إعلان بدايتها. ولا يمكن أن يرى عكس هذا إلا سقيم الفكر عديم النظر.إذ كيف يمكن لعاقل أن يصدق أن بضعة آلاف من الأشخاص عالةعلى غيرهم في كل شيء (في مأكلهم ومركبهم كما في سلاحهم)، أن يحاربوا العالم كله ثم ينتصروا عليه؟نعم، أقول العالم كله، لأن داعش أعلنت الحرب المقدسة ضد العالم كله ولم تستثن من المخالفين لها حتى إخوة “الجهاد” الذين قاتلوا إلى جنبها ضد نفس العدوّ!

كان المغرّر بهم من جنود داعش والمتعاطفين معها يمنّون النفس بفتواحات وانتصارات وهمية تمكن لهم في الأرض وكانوا دائما يتحدثون عن تمدد “دولة الخلافة” واتساع نفوذها هنا وهناك. وقد بلغ الغرور بالقوم مداه عندما تم تعيين ولاة تابعين لداعش في بعض الدول الإسلامية، كخطوة إعدادية تستبق فتح هذه الدول وخضوعها لسيطرة “دولة الخلافة” لاحقا.ويبدو أن الذين صدّقوا هذه الرؤيا لا يفرقون بين الخيال والواقع ولا بين رؤى الأحلام واليقظة ولا بين الأماني والحقائق كما أنهم لا يفقهون شيئا عن سنن الله الكونية وربط الأسباب بالمسببات.

عنندما كان يُطرح عي السؤال حول سبب صمود داعش كل هذا الوقت وعن السر وراء تحقيقها بعض الانتصارات، كنت أقول: إن السبب هو عدم اقتناع (الكبار) بجدوى القضاء عليها في ذلك الوقت بالذات.لأن رؤيتهم الاستراتيجية تقتضي إطالة أمد الحرب لأسباب يعرفونها هم وقد نجهلها نحن ويجهلها قادة داعش أنفسهم. لكن، أن يصدق أحد أن العالم بغربه وشرقه، ببوارجه الحربية وصواريخه العابرة للقارات والتي يُتحكم فيها على بعد آلاف الكيلومترات وطائراته الحربية وقنابيله الذكية المدمرة… عاجز عن القضاء على حفنة من الأشخاص يقاتلون في فضاءات جلها مكشوف بطرق بدائية وأسلحة بالية وخبرات قليلة أومنعدمة، فهذا عين والخبل والجنون!

الآن وبعدما اقتنع المتحكمون في الميدان (الكبار) أن داعش يجب أن تنتهي، انتهت بالفعل أو تكاد. وإذا كانت لم تنته بعد كتنظيم وفكر، فقد انتهت في الواقع كدولة، بعد فقدانها السيطرة على جل ماكان بيدها من المناطقوانتهت معها بطولات رجالها وخوارقهم وانتهت كذلك أحلامهم وأحلام المتعاطفين معهم في إنشاء دولة الخلافة الإسلامية (على الشكل الذي يتصورونه بالطبع).

وإذا كانت داعش قد انتهت أو تكاد، فالحقيقة المرة أنها لم تنته إلا بعدما خلفت وراءها الكثير من المآسي والجراح التي لن تندمل على الأمد القريب. حيث ومنذ نشأةالتنظيم وإلى غاية الآن، قتل وهُجّر عشرات وربما مئات الآلاف، ناهيك عن الدمار المادي والمعنوي الذي لحق البلاد والعباد جراء الحروب التي شنتها داعش أوالتي شُنّت عليها.

إن الحديث عن الظالم والمظلوم في هذه الحرب وعن المتسببين فيها والمستفيدين منها والمتحكمين في خيوطها حديث تتشعب أطرافه ويصعبالوقوف على كل حقائقه، نظرا لكثرة الافتراضات والأسئلة المطروحة حولمن كان يقف وراء هذه الحرب حقيقة ومن كان يمول ويؤمّن ويسلّح هذا الطرف أو ذاك. وإذا اختلف الناس حول الأسباب والدوافع والغايات وراء داعش وحروبها، فإنه لا يختلف اثنان حول النتائج الكارثية لهذه الحروب وخاصة على المناطق والدول التي تواجد بها التنظيم وأصبحت ساحات حروب وميادين صراع بين القوى العالمية الكبرى.

ورغم أن الدول التي تواجد بها التنظيم كسوريا والعراق تحمّلت ولا تزال تتحمّل العبئ الأكبر من تبعات حروبه، إلا أن هذه التبعات لم تقتصر على هذه المناطق فحسب، بل أصبحت الكثير من الدول عبر العالم كله ترى في داعشخطرا على أمنها واستقرارها بسبب الهجمات التي يهدد التنظيم بشنها في هذه الدول والتي نجح بالفعل في شن الكثير منها، مخلفا خسائر جسيمة في البلاد والعباد.

بعد توالي الهزائم العسكرية لداعش وطرد التنظيم “الدولة” من معظم الأماكن التي كان يسيطر عليها، بدأت أسئلة كثيرة تطرح نفسها حول ما بعد نهاية “دولة الخلافة”، ومن بين هذه الأسئلة سؤالان مهمان وهما:

أولا: أي مصير ينتظر مقاتلي التنظيم وغير المقاتلين من الشيوخ والأطفال والنساء الموالين له، بعد ما سيفقد مقاتلوا التنظيم السيطرة الكلية على ما تبقى من مناطق قليلة تحت أيديهم والإعلان بصفة رسمية عن نهاية دولتهم؟

ثانيا: أي درس استفاده أو يجب أن يستفيده المسلمون من رفع رايات الجهاد والدعوة إليه دون روية، بعد الوقوف على المآلات الكارثية لما كان يعتبره البعض جهادا في سبيل الله داعين إلى نصرته بالنفس والنفيس؟

من خلال هذه المقالة، سأحاول الإجابة على السؤال الأول وسيكون الجوب على السؤال الثاني محور المقالة القادمة بإذن الله، فأقول:

كما هو معلوم، فإن جيش داعش يتكون من مقاتلين ينحدرون من الدول التي يتواجد بها التنظيم (سوريا والعراق وليبيا) ومن مقاتلين أجانب، هبوا من كل حدب وصوب لتلبية داعي “الجهاد” ولنصرة “دولة الخلافة”.وأرى (والله أعلم)أنه عندما يضيق الخناق على قادة التنظيم ومقاتليه ويشتدّ الضغط العسكري والغذائي والسياسي بشكل أكبر وتنقطع وسائل الاتصال بين القيادة والجنود، عندئذ، ستفقد قيادة التنظيم بوصلة التوجيه والتحكّم في المقالتلين والأتباع، مما سيحدث فوضى وارتباكا بين الجنود سيؤثر لا محالة على معنوياتهم. إذ ذاك، سيفكر الكثير من المقاتلين في النفاذ بجلدهم والبحث عن إنقاذ الذات بعد فقدان ما تبقى من أمل في إنقاذ “دولة الخلافة”.

قد توجد فئة قليلة من جنود “الدولة الإسلامية” مستعدة للقتال إلى آخر رمق، حتى وهي مقتنعة بحتمية الهزيمة واستحالة النصر، لأن مبادئ التنظيم تعتبر هذا النوع من المواجهةالغير متكافئة بطولة والموت على إثره استشهادا.لكن أكثرية المقاتلين ستختار الحل الآخر المتمثل في الهروب والنفاذ بالجلد ما دامت فرص النصر قد انعدمت تماما، وهذه طبيعةالبشر.

هذا الحل (الفرار)، قد يكون متاحا بالنسبة للمقاتلين المنحدرين من نفس الدول التي يتواجد بها التنظيم، حيث بإمكان المقاتلين من أبناء البلد متى قرروا التوقف عن القتال أن يضعوا أسلحتهم ويغيروا من هيئاتهم الداعشية ثم يندسّوا وينتشروا وسط أهلهم وعشائرهم الذين لن يبخلوا عليهم في الغالب بالمأوى والمأكل. ولأنهم أبناء البلد يتكلمون لهجته ويعرفون تقافته وتضاريسه، فإن عودتهم إلى الحياة الطبيعية وإلى مرحلة ما قبل الحرب واندماجهح في مجتمعاتهم من جديد أمر ممكن جدا كما أن فرص العفو في حقهم تبقى واردة.

وإذا كان قرار الفرار متاحا وممكنا بالنسبة لهؤلاء، فإنه مستحيل أو شبه مستحيل بالنسبة للمقاتلين الأجانب، الذين سيجدون أنفسهم في العراء وبالعراء عندما يفقد التنظيم سيطرته على كل ما تبقى تحت يده من المناطق. لن يستطيع حينها المقاتلون الأجانب الاختباء وسط المجتمع، فلا أهل ولا عشيرة ولا أرض لهم تؤويهم. كما أن ملامحهم ولهجاتهم ستفضحهم. وبالتالي، ففرص البقاء والاندماج داخل تلك المجتمعات شبه منعدمة. وإذا أرادوا العودة إلى الدول التي قدموا منها، فإنها تبعد عنهم بمئات وربما بآلاف الكيلومترات وطريق العودة شاق ومليء بالمخاطر. وحتى من استطاع العودة إلى بلده التي قدم منها، فإن تهمة الإرهاب وما يترتب عليها من عقوبات قانونية ومجتمعية ستظل تلاحقه بعد عودته.

هذا المعطى يرجّح فرضية نشوب خلاف وشيك قد يتطور إلى حرب بين المقاتلين الأجانب من جهة وبين المقاتلين المواطنين من جهة اخرى، أي: بين دعاة الصمود والقتال إلى آخر رمق وبين دعاة الاستسلام للأمر الواقع. وكلما اشتد الخناق على التنظيم سرّع بنشوب هذا الخلاف. وسبب هذه الخلاف المتوقع كما قلت هو أن المقاتلين الأجانب سيختارون المواجهة والصمود إلى آخر رمق لأنهم لا خيار آخر لهم. بينما سيميل المقاتلون المواطنون إلى الحل الآخر المتمثل في الهروب من ساحات القتال والاندماج في المجتمع.

عندما تظهر صورة هذا الخلاف على السطح، سيتحول إلى تهم وتهم مضادة بين الفريقين وسيسم دعاةُ الصمود الآخرين بالخونة الفارين من الزحف وسيدافع أصحاب خيار الفرار عن موقفهم وقد يتهمون المقاتلين الأجانب بكونهم سببا في المشكل وليسوا جزء من الحل… ولأن اعتماد السلاح حلا للخلافات أمر مألوف عند أصحاب هذا الفكر، فلا أستبعد نشوب قتال دام بين الفريقين.هذا الصراع المحتمل، سيزيد من إضعاف ما تبقى من التنظيم وسيسهل لا محالة على أعدائه حسم المعركةلصالحهم بشكل نهائي. لكن، بأي ثمن سيتم هذا الحسم وما حجم المآسي والكوارث الإنسانية التي ستترتب عليه؟

بالنسبة للمقاتلين الذينستثبت مشاركتهم في القتال إما باليقين أو حتى بالشك، فلا شيء ينتظرهم غير الإعدام والتنكيل والإهانة وربما التمثيل بالجثث، حتى وإن استسلموا! خاصة مع تغلغل الأحقاد الطائفية بين أطراف هذه الحرب وغلبة الرغبة في الانتقام. ولا أستبعد حدوث إعدامات جماعية تستهدف كل من ألقي عليه القبض من جنود داعش. وقد يُستدرج العشرات وربما المئات من المقاتلين إلى أماكن محصورة ليتم قصفهم بالطائرات والصواريخ ثم تظهر العملية على أنها قتل جنود في ساحة الحرب وليست إعداما للأسرى!

وإذا كان الموت إما في ساحة الحرب أو بالإعدام هو المصير المحتوم الذي ينتظر مقاتلي داعش وخاصة الأجانب منهم، فماذا عن مصير الأطفال والشيوخ والنساء وغيرهم ممن لم يشاركوا في القتال والذين يعدّون بعشرات الآلاف؟هل سيتدخل العالمللبحث عن حل لأزمتهم الإنسانية التي ستكون قاسية وأليمة جدا؟ أم سيُتركون للجيوش المنتشية بالنصر تفعل بهم ما تشاء؟ هل ستقام لهم مناطفق عازلة يتم إيواؤهم فيها؟ وهل ستقبل الدول التي قدموا منها عودتهم…؟

رغم تعدد الاحتمالات وكثرة التكهنات والفرضيات فيما يخص الإجابة على هذه الأسئلة، إلا أن الأمر المؤكد هو أن المشهد الأخير من فصول حياة داعش سيكون وبالا على جنود التنظيم وعلى كل المنتمين له من أطفال وشيوخ ونساء وسيكون هذا المشهد مليئا بالأحداث والصور والأضاع الإنسانية الكارثية التي ستصدم العالم كله وتضع ضميره على المحك. هذه الأوضاع الكارثية يتحمل مسؤوليتها أولا: قادة التنظيم بفكرهم وسلوكهم الشاذ المتشدد وبتقديرهم الخاطئ للأمور. وتتحمل مسؤوليتها ثانيا: الأنظمة السياسية لتلك الدول التي هيأت بسياساتها القمعية والظالمة المناخ المناسب لبروز داعش وأخواتها. ويتحمل مسؤوليتها أيضا: كبار العالم الذين لا يهمهم إلا الحفاظ على المصالح وتقوية النفوذ ولو كان الثمن تدمير دول وتشريد شعوب!

أشير في الأخير إلى أن ما توقعته من سيناريو لهذه النهاية، ليس تشفيا ولا تمنيا أيضا وإنما هو حدس واستشراف للمستقبل قد يخطئ وقد يصيب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *