منوعات

بويخف يكتب.. “الولاية الثالثة” عنوان خسائر فظيعة غير مبررة

اهتممنا بالديموقراطية الداخلية وشرعيتها في ديناميكية الجدل الجارية وسط حزب المصباح، من جهة اولى، لقيمتها الحيوية، إذ التاريخ السياسي حافل بالدروس التي تفيد أن الوحدة والاستقرار ورضى الرأي العام واجتماع الكلمة وغيرها من قيم تماسك الجماعة، تستند إلى عوامل أساسية منها توفر واحترام تلك الديموقراطية. ومن جهة ثانية، لأن طبيعة الخلاف في الجدل الدائر وسط أعضاء الحزب وقياداته مظهر دال على الارتباك الفكري والقيمي معا، ذلك أن الجدل السليم والصحي والراقي في المجتمعات والمنظمات السياسية يكون منظما وفي أجواء من احترام قواعد الحوار وأخلاقياته، ويكون بين توجهات محافظة، وتوجهات تجديدية “تقدمية”. وفي حالة حزب المصباح تم الاخلال بأخلاقيات الحوار وآدابه بشكل فظيع، كما أن ذلك الجدل يتم بين توجه محافظ، يريد المحافظة على المنهجية المعتمدة كما هي، وتوجه نكوصي يمثله دعاة “الولاية الثالثة” يدفع في اتجاه يفرغ الأشكال الديموقراطية من مضمونها الحقيقي وليس في اتجاه تجديده وتقدمه.

والجدل الدائر وسط البيجيدين، وما ميزه من ردة في أخلاقيات الحوار بلغت الدرك الأسفل في لغة الاتهامات، كلف الحزب خسائر باهظة، إن على مستوى التماسك الداخلي ودرجة الثقة في المؤسسات والقيادات، أو على مستوى صورته لدى الرأي العام، أو على مستوى رهانات المؤتمر الثامن القريب.

وفي هذا المقال الثالث من سلسلة مقالات (“البيجيدي” على مفترق الطرق بين السياسة والديموقراطية) سوف نتوقف عند الخسائر المتعلقة برهانات المؤتمر الثامن لحزب المصباح، والذي نرى أن الجدل حول “الولاية الثالثة” جعله بدون رهانات حقيقية، إن على مستوى أطروحته السياسية، أو على مستوى استكمال ديموقراطيته الداخلية، أو على مستوى الابداع التنظيمي في استيعاب قائده المنتهية ولايته، أو على مستوى استقلاليته، إلى غير ذلك من القضايا، وسنكتفي في هذا المقال بمعالجة القضايا الأربعة المذكورة.

1) على مستوى الأطروحة السياسية

هناك ثلاثة ديناميكيات مختلفة تشكل تحد كبير أمام الأطروحة السياسية الحالية لحزب المصباح. الديناميكية الأولى تتعلق بتدهور كبير للسياسة وعلاقات الفاعلين الأساسيين في المشهد السياسي المغربي بها عن المستوى الذي رسمه الدستور الجديد. حيث أبانت التطورات عن تراجعات كبيرة ومقلقة في هذا المجال، خاصة ما يتعلق تراجع الإرادة في الإصلاح وفي احترام مقتضيات الخيار الديموقراطي. ومحاربة الفساد خفتت سواء على مستوى الزخم الشعبي او على مستوى الخطاب السياسي لمختلف الفاعلين، او على المستوى المؤسساتي. وتم إضعاف ممنهج للمجتمع المدني، الحقوقي بالخصوص، وتم التحكم بمختلف الوسائل في الإعلام الذي أصبح يعيش فوضى غير مسبوقة، وتفاقم ضعف الأحزاب واتسعت سيطرة الادارية منها والمدجنة على المشهد الحزبي، وتطرف مستوى التحكم في الأحزاب ( البلوكاج المشهور خير دليل) واتسع نطاق التدخل غير المباشر في توجيه إرادة الناخبين والتحكم فيها(الدوباج الموجه لحزب التراكتور في الانتخابات)، وتفاقم عجز المؤسسات التشريعية عن ممارسة وظيفتها في الحد الأدنى المطلوب، وعجز الحكومة “المنتخبة” عن وضع وتنفيذ سياسات شعبية تتناغم مع شعارات الأحزاب الممثلة فيها وبرامجها … وهذه التطورات أفقدت الخطاب الذي يعتمد فصول الدستور كل مصداقيته، وأفقدت الشعب الثقة في المؤسسات المنتخبة وفي الأحزاب وفي العملية الانتخابية. فكيف يمكن لأطروحة الحزب أن تجيب على ما تفرضه هذه الديناميكية من تحديات وتطرحه من إشكالات؟

الديناميكية الثانية تتعلق بخطاب الرفض الذي تطور داخل الحزب وفي محيطه. والذي نجد له ميزات أهمها أنه من جهة أولى، خطاب يركز بالخصوص على مواجهة التحكم ومحاربته، مما يقتضي تعريفا للتحكم واسراتيجيات تلك المواجهة. وهو من جهة ثانية غلب الأسلوب التعبوي، والذي يصل أحيانا إلى درجة التجييش العاطفي، على الأسلوب التوعوي. وهو من جهة ثالثة شبابي وبحضور إعلامي قوي شبه مستقل عن الحزب خاصة على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، بتأثيرات متنامية على إرادة الحزب (فرض مأسسة التداول حول “الولاية الثالثة). وهو من جهة رابعة، خطاب نقدي لسياسة الحزب وقياداته، ولطريقة وشكل وحجم مشاركته في الحكومة. وهو من جهة خامسة ممتد في الزمان حيث تجاوز بزخمه التعبوي محطات الحملات الانتخابية ليصبح ظاهرة شبه يومية. ومن جهة سادسة، يتمحور حول شخص الأستاذ ابن كيران الذي انتهت مدة انتدابه القانونية وتم إعفائه من تشكيل الحكومة بعد بلوكاج وتعامل يقتضي رد الاعتبار له عند شباب الحزب وقواعده. ومن جهة سابعة، نجد التمايز بين المشاركة في الحكومة ودرجة دعمها قد تفاقم مقارنة مع التجربة السابقة. فالحكومة فقدت الكثير من التعاطف في اوساط الحزب، والأمين العام للحزب في وضعية “المقاطع” لأنشطتها ولاجتماعات الأغلبية، وإعلام الحزب تراجعت وتيرة وحجم ونوع تعاطيه مع أخبارها، وفريقي الحزب في البرلمان يعتمدان خطابات سياسية أقوى من خطابات المعارضة، والتوجه الغالب أصبحت له حساسية مفرطة غير مسبوقة تجاه أية تنازلات سياسية… وإذا اكتفينا بهذه العناصر سوف نجد أننا أمام ديناميكية داخلية على شاكلة تيار مكتمل الأركان، وهذا لا تتسع له الأطروحة الحالية.

الديناميكية الثالثة، تتعلق بالمحيط الاقليمي والدولي، واهم ميزاته أنه فقد الزخم السياسي الذي كان لصالح الإسلاميين، بعد انكسار موجة ما سمي بالربيع العربي، والانقلاب على نتائجه في كل الدول بطرق ودرجات مختلفة. وفي المقابل تنامى التوظيف الاعلامي والسياسي للإرهاب المنتعش خاصة في الغرب. كما تنامى التيار الاستئصالي في المنطقة، وخاصة دائرة مصر الخليج، ونشطت برامج استهداف الاسلاميين ومحاصرتهم او عزلهم على أكثر من صعيد… وهذه الديناميكية تفرض مقاربة خاصة في أطروحة الحزب تضمن مستقبله.

ما سبق يؤكد حاجة الحزب إلى أطروحة سياسية جديدة، خاصة في ظل موقعه المتقدم جدا في المشهد السياسي، والتجربة الكبيرة التي اكتسبها في تدبير الشأن العام في مختلف مستوياته، وتوسع انفتاحه العضوي ليستوعب غير المنحدرين من حركة التوحيد والاصلاح، وعودة السلطوية إلى ممارسات ما قبل دستور 2011 المهددة للخيار الديموقراطي(مسيرة ولد زروال، والدوباج الانتخابي للبام، والبلوكاج …)، والضعف الشديد للمشهد الحزبي وللمجتمع المدني وللإعلام، … وقد كانت الأطروحة السياسية ضمن الأوراش المبرمجة في أجندة المؤتمر الثامن، لكن الجدل حول “الولاية الثالثة” لم يترك فرصة فتح نقاش حقيقي موسع حول الموضوع، وكل ما هو متوقع تأكيد صلاحية الأطروحة القائمة أو تطعيمها بهوامش وتعليقات.

2) على مستوى استكمال الديموقراطية الداخلية

في هذا المستوى نجد عدة أمور تحتاج المراجعة سنكتفي بأمر واحد منها يتعلق بمنهجية ديموقراطية غير مكتملة، مع توقف مع ديناميكية نكوصية تهدد بإفراغ المنهجية الديموقراطية من مضمونها الديموقراطي.

وفيما يتعلق بالجوانب غير الديموقراطية في المنهجية المعتمدة داخل الحزب، نجدها بالأساس في اعتماد الترشيح الجماعي وليس الترشيح الفردي الحر. فالترشيح لتولي المسؤوليات في حزب المصباح، على غرار ما يجري في حركة التوحيد والاصلاح، لا يحق أن يطلبه الأعضاء، بل يُعطى وفق مسطرة تجعل الهيئة الناخبة أو لجنة الترشيح هي من تقترح وتحدد المرشحين حتى ضد إرادتهم. وهذا المقتضى من مخلفات الفكر الإسلامي التقليدي الذي ورثه الحزب من الحركة، وهو فهم يرى أن “مبدأ” “طالب الولاية لا يُولى” قاعدة تعتمد أيضا في المسؤوليات داخل الهيئات الحزبية والمدنية. وهذا المنهج يعتبر نشازا في منظومة سلوك الحزب. فهو أولا يمكن تأويله على أنه ينطوي على التباس مع الفصل السابع من الدستور، والذي يمنع تأسيس الأحزاب على أساس ديني، ذلك أن الترشيح الجماعي المعتمد ليس له أي منطق ديموقراطي أو سياسي خارج الثقافة الدينية التي يتأسس عليها والتي ترفض أن يرشح الشخص نفسه لتولي المسؤولية أو يطلبها. ثانيا، فهو منهج متناقض مع سلوك الحزب نفسه والذي يطلب “الولاية” حين يقدم مرشحين لتولي المناصب العامة وهي المقصودة بالأحاديث النبوية المعتمدة في هذا الباب، ويقوم بالحملات الانتخابية لإقناع الناخبين بهم. وهو ثالثا يناقض مبادئ الديموقراطية وحقوق الانسان التي ينبغي على الحزب الإلتزام بها بصرامة، حيث أنه من جهة يمنع الشخص الذي تتوفر فيه الشروط القانونية من حقه في ترشيح نفسه لتولي المسؤولية ومن حقه في إعلان نفسه ضمن المرشحين لها. ومن جهة ثانية لا يحترم مبدأ تكافؤ الفرص حيث أن الترشيح الجماعي لا يسمح للطاقات خارج القيادات المشهورة للتعريف بنفسها واقتراح كفاءتها. ومن جهة ثالثة، وكنتيجة لما سبق نكون أمام استبداد للجماعة ضد الفرد وهو مناف لفلسفة حقوق الانسان والديموقراطية (عشت تجارب في الحركة يكلف فيها الأفراد رغم أنفهم، ولا تقبل منهم الأعذار، ومنهم من لا ينفعه حتى البكاء والتوسل!). والنتيجة أن هذه الآلية لا تسمح مطلقا بظهور قيادات أخرى خارج المشهورة ولا بتجديدها إلا بشكل بطيء وغير ناجع. كما أنها لا تسمح باستيعاب التعدد في الرؤى داخل الحزب مما يكرس الاحتقان مثل الذي يعيشه الحزب حاليا حول “الولاية لثالثة”. (لنا عودة لموضوع هذا المنهج بتفصيل).

وبذل التوجه نحو استكمال الديموقراطية الداخلية والاتجاه بها نحو ديموقراطية حقيقية، تسمح بتنافس الأعضاء على المسؤوليات فيها على أساس برامج وأطروحات، نجد أن الحزب يتجه بالعكس نحو الإجهاز على مكتسباته في ديموقراطيته الداخلية، وهو ما تجسده الديناميكية النكوصية التي تطالب بـ”الولاية الثالثة” للأستاذ ابن كيران.

وفي إطار تلك الديناميكية النكوصية يمكن رصد عناصر النكوص عن الديموقراطية والتي سبق أن فصلناها في المقال السابق والمعنون بـ” انكسار الديموقراطية الداخلية لا انتصارها” (المقال الثاني ضمن سلسلة مقالات يجمعها عنوان:”البيجيدي” على مفترق الطرق بين السياسة والديموقراطية). ونستأذن القارئ في الرجوع إليها باقتضاب للكشف عن حجم الخسارة الفظيعة في جودة الديموقراطية الداخلية للحزب، والتي يراهن دعاة “الولاية الثالثة” على الجوانب الشكلية فيها لإخفاء الانكسار الذي يتهدد تلك الديموقراطية بسببها، والذي سيصيبها في مقتلها.

لقد أوضحنا في ذلك المقال أن قرار فتح الباب أمام تعديل قانوني يتيح ولاية ثالثة لرئيس الحزب المنتهية صلاحية ولايته قانونا، ليست له شرعية ديموقراطية. وأن كل النتائج المترتبة عنه تخريب للديموقراطية الداخلية لحزب العدالة والتنمية. وأوضحنا أن الإجتماع الشرعي، والنقاش الحر والعميق، والتصويت بالأغلبية أو حتى بالإجماع، عناصر مهمة في وصف أي قرار، مثل تعديل أي قانون، بكونه ديموقراطي من حيث الشكل، لكن تلك العناصر الشكلية لا تكفي مجتمعة حين يغيب عنصر واحد يتعلق بالمضمون وهو الشرعية الديموقراطية التي يستند إليها طرح ذلك التعديل من الأصل. كيف ذلك؟

أولا، تعديل نظام الولايتين لم تمله قناعة داخلية بناء على تقييم موضوعي أكد أنه فقد جدواه، بل التعديل فرضه الضغط الاعلامي، وخاصة الفايسبوكي الشبابي، على خلفية تزامن انتهاء حق الأستاذ ابن كيران في ولاية إضافية على رأس الحزب مع إعفائه من رئاسة الحكومة، وما خلفه ذلك من توترات داخل الحزب.

ثانيا، تعديل نظام الولايتين بعد انتهاء آخر ولاية قانونية للأمين العام القائم، هي تفصيل للقانون على مقاس شخصه، وهذا فساد شبيه بفساد دفاتر التحملات التي تفصل على مقاس فاعل محدد، ولا يرفع عنها تهمة الفساد كونها يتم تبييضها بمرورها عبر المسلكيات القانونية والمؤسساتية.

وهذان الأمران وحدهما كافيان لرفع الشرعية الديموقراطية عن قرار تعديل المادة 16 من القانون الأساسي لحزب المصباح، ولن تضفي عليه المؤسسات بما فيها المؤتمر، ولا الأغلبية أو حتى الإجماع تلك الشرعية المفقودة.

ثالثا، أن فتح المجال للأستاذ ابن كيران للتنافس على أمانة الحزب بعد انتهاء حقه فيها، فيه ظلم كبير لغيره من الأعضاء الذين تتوفر فيهم الشروط القانونية لقيادة الحزب، وأن ذلك تخريب لقواعد اللعبة المعتمدة داخل الحزب والتي من بينها أن تولي المسؤوليات محدد في ولايتين. وهو بالتالي فهو “غدر” بالمتنافسين وانقلاب على ما اجتمع عليه القوم داخل الحزب.

رابعا، أن الجدل الواسع الذي عرفه الحزب وما يزال، ليس في لغة آليات التنافس سوى دعاية للأستاذ ابن كيران وضد منافسيه المحتملين، وأن ذلك يكرس انعدام تكافؤ الفرص بينه وبينهم وقد تعرضوا لحملات تشويه خطيرة، وهو ما يناقض قواعد الديموقراطية.

خامسا، أنه إذا اعتمد التعديل المشار إليه أيضا في المجلس الوطني وأصبح قانونا، سيكون ذ عبد الاله ابن كيران مرشحا فوق الطبيعة مقارنة مع باقي المرشحين المفترضين الذين يبقون في ظهر الغيب قبل اعتماد مساطر الترشيح الجماعي التي ستفقد أي مصداقية. وهذا سينقض منهجية اختيار الأمين العام والأمانة العامة المعتمدة داخل الحزب، والتي تحرم الدعاية لأي شخص، وتعتمد الترشيح الجماعي الذي يكون كل المتوفرين على الشروط القانونية على قدم المساوات من حيث التعريف والدعاية.

وما سبق يبين المستوى الفظيع لتفريغ الأشكال الديموقراطية التي سوف تعتمد من مضمونها الديموقراطي الحقيقي الذي يرتكز على الحقوق والعدالة، و لا ديموقراطية مع المس بالحقوق.

3) على مستوى الابداع التنظيمي

الأستاذ ابن كيران يعتبر حقا وحقيقة شخصية قيادية فريدة، اجتمعت فيها العديد من الخصائص والخصال التي ينذر أن تجتمع في سياسي. وهو لا يستحق أن يواجه عن طريق بلوكاج سلطوي وأن يعفى عن طريق بلاغ صحافي، مقابل كل ما تحمله هو وحزبه من ضرائب سياسية للتمكين لسياسات عمومية لم يجرؤ أحد ممن سبقوه على الاقتراب منها لاعتبارات الحسابات السياسية الضيقة. وهو بذلك يستحق كل التضامن معه، وكل أشكال التكريم والاعتبار. وكان بالإمكان إبداع طرق تنظيمية أخرى لا تخلو التجارب الحزبية من أمثالها من غير موقع الأمين العام الفاقد للشرعية الديموقراطية في “الولاية الثالثة”، مما يعتبر مسا بشخص ومصداقية وصورة الأستاذ ابن كيران نفسه. والعمل بذل ذلك على نحث موقع تنظيمي يناسب قامته العالية، وتسمح باستثمار أنجع لقوته السياسية العظيمة. لكن التفكير تحت ضغط الأحداث، وبطريقة ردود الفعل العاطفية اتجه رأسا إلى الحلول السهلة شكلا والمكلفة ضمنا وعمقا. واستسهل القوم تعديل مادة في القانون الأساسي دون مراعاة طبيعتها ولا الاستحقاقات الديموقراطية المرتبطة بها، على أساس أحد أكبر الأوهام الذي يفيد أنهم إذا اجتمعوا شرعيا وتناقشوا بحرية وقرروا بالأغلبية كانت تلك الديموقراطية!

إن نظام تحديد الولايات في تولي المسؤوليات يرتكز على فلسفة عظيمة، تقضي بمحاربة “الاستبداد الشرعي”، وبدمقرطة اقتسام السلطة والتداول على المسؤوليات، وبفسح المجال للتجديد على مستوى القيادات. كما أن له استحقاقات ديموقراطية في كل ولاية من ولاياته، فإذا اخذنا مثل نظام الولايتين، كما هو في حزب المصباح، نجد أن الانتخابات المؤسسة للولاية الأولى تعني أن المسؤول المنتخب له الحق في الترشح والانتخاب لولاية ثانية وأخيرة، والانتخابات في الولاية الثانية تعني أنه إذا تمت إعادة انتخاب نفس المسؤول فذلك آخر حق له في الترشح لنفس المنصب، وينحصر حق الترشح والانتخاب في غيره. والانتخابات الموالية الثالثة تعني الدخول في دورة جديدة من النظام وهكذا. إنه نظام متكامل لا يمكن تعديله إلا في مرحلة الولاية الأولى لدورته بالنسبة لكل مسؤول منتخب، وإلا سقط التعديل في تفصيل القانون والنظام معا على شخص محدد وهو ما ينقض ديموقراطيته. هذه الفلسفة التنظيمية غابت حين استسهل القوم تعديل المادة 16 لاعتبارات سياسية سوف نناقشها مستقبلا. مما منعهم من الابداع التنظيمي ليسقطوا في أنكر بدعه.

4) على مستوى استقلالية القرار الحزبي

ليس المقصود بالاستقلالية ما يمكن مقابلته بالخيانة والتحكم، بل ما سبق أن نبهنا إليه في مقالات سابقة بعضها يرجع إلى سنة 2013، والتي أشارت إلى ظاهرة مقلقة وهي “التوظيف” المفرط لهيئات الحزب وإعلامه في خدمة الحكومة، والذي كانت أبرز مظاهره انحراف التقارير السياسية للحزب والتي تتلى في المجلس الوطني إلى تقارير حول منجزات الحكومة. وطغيان الشأن الحكومي على حساب الشأن الحزبي الداخلي على اهتمامات قيادة الحزب وفي اجتماعات الأمانة العامة، وهذا نتج عنه فراغ كبير في الاهتمام بالشأن الحزبي. وهذا “الاستلاب” كان نتيجة طبيعية لوضعية تنظيمية كان بالإمكان فتح نقاش مسؤول حولها بمناسبة المؤتمر الثامن. وأثير الموضوع من البعض في سياق يرتبط فقط بالتطورات الأخيرة التي تتعلق بإعفاء الأستاذ ابن كيران من رئاسة الحكومة. في حين أن الأمر يتعلق برؤية خاصة تهم ضرورة التمايز على مستوى الهيئات القيادية بين الوظائف التنظيمية والوظائف الحكومية، للحفاظ على استقلالية الهيئات التنظيمية عن الحكومية، فالأمانة العامة في عهد الأمين العام الأستاذ ابن كيران كان فيها رئيسا للحكومة ومعه فيها قرابة 11 وزيرا من أصل 24 عضو تقريبا! أي ما يقارب النصف. وهذه الوضعية كان لها تأثيرها السلبي على تدبير شؤون الحزب، ولا تسمح له بمسافة معقولة لا تجعله يتماهى مع الحكومة. وهذه المقاربة، كما أشرت إليها عدة مرات مند سنين، تختلف كليا عما يطرحه البعض اليوم ويقاربه من خلال التقاطبات القائمة والتي تتحدث عن “تيار الاستوزار” بمنطق نفعي اتهامي يتعلق بالمناصب، في حين أن “تيار الاستوزار”، إذا كان لابد من اعتماد هذا التوصيف جدلا، كان موجودا في عهد الأستاذ ابن كيران وبقوة أكبر، إذ كان يجمع بين صفتي رئيس الحكومة و الأمين العام للحزب ويرأس أمانة عامة نصفها تقريبا وزراء، لكن نتحدث عنه، تجاوزا، بمنطق تنظيمي مخل وليس بمنطق نفعي اتهامي.

هذه الوضعية التنظيمية ستستمر في الحزب، لأن الجدل حول “الولاية الثالثة” جعل فرص الانصات، وفرص التأمل والتفكير السليم في شؤون الحزب، وفرص إبداع أشكال تنظيمية مناسبة ومستوعبة تضيع بشكل مريع.

وما سبق يبين حجم وفداحة الخسائر الضخمة التي تكبدها وسيتكبدها الحزب، وخاصة بجعل المؤتمر الوطني الثامن بدون رهانات حقيقية، وذلك بسبب الأوضاع التي أفرزتها الديناميكة المنادية بولاية ثالثة للأستاذ ابن كيران. وهي الدينامية التي تطرح سؤال مصدرها وطبيعتها. وهو موضوع مقالنا التالي بحول الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • علي الوطني
    منذ 6 سنوات

    انا واحد من الدين كانو يصدقون انالعدالة و التنمية و الاسلاميين عموما مختلفين عن الاحزاب الاخرا..... الخ . لكن مع الحديث عن الولاية التالثة و عن تعديل القانون ل يتمكن شخص لترشح ....الخ يتبين ان ليس في القنافد املس.... وان ما كان يقال عن الاسلاميين من انهم خطر على الديمقراطية و انهم يستعملون الديمقراطية ك سلم ل السيطر و الهيمن على الحكم صحيح. و الامثلة كثيرة ... السودان... و الان بن كران. مادا لو ان السيد بن كيران تمكن من الدولة( يالطيف يالطيف..) سيغير الدستور......الخ. كل ما يقع ايجابي . ليعرف الشعب مع من هو... الله الوطن الملك