وجهة نظر

القول الدقيق في ضحايا (خنشة) الدقيق

يعرف المغرب ثقافة الازدحام كباقي دول العالم الثالث، ليس من جراء ارتفاع عدد السكان فحسب ولكن بسبب غياب الوعي بثقافة التنظيم والانتظام، وإلا ماذا يمكن أن نقول عن المجتمع الصيني الذي يعرف كثافة سكانية عالية، وماذا عن سكان ولاية نيويورك عندما ينتشرون في الصباح الباكر في الشوارع ومحطات القطار والحافلات دون أن يؤذي أحدهم أحدا،  أسئلة عديدة تطرح أين الخلل في وطننا؟ لماذا نفتقد ثقافة النظام في بيوتنا وفي إدارتنا وفي حياتنا اليومية بشكل عام، علما أن الإمام يخطب فينا خمس مرات في اليوم سووا صفوفكم يرحمكم الله فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة؟؟ هل ينحصر الدين في جدران المسجد؟ أم جاء لنمارسه في حياتنا اليومية ؟

ثقافة الازدحام بين كوكبين:

كم من مرة حاولت أن أكتب عن ثقافة الازدحام لأنها في الحقيقة إشكالية كبيرة نعاني منها في وطننا العزيز، فبمجرد ما تدخل الجناح المخصص للرحلات المغربية بالمطار الدولي بنيويورك وأنت تقصد زيارة الوطن إلا وتشعر بالفوضى والأنانية وغياب التنظيم وكأن هذه القيم الايجابية ليست من صميم الإسلام، وهنا أذكر للقارئ(ة) أن أحد الزائرين للمغرب من أمريكا قال لي ذات يوم: ( زرت العديد من المدن بالمغرب ولاحظت الفوضى في كل مكان والناس يجرون وراءك من أجل درهم واحد …)

إن ثقافة الازدحام ترتبط بقصور الإدارة على القيام بدورها في تنظيم الناس، وانهيار قيم احترام الآخر وغياب الشعور بهيبة الدولة وسيادة الأنا عند المواطن، ولمعرفة أن الأمر يتعلق بمرض مرتبط بعقلية دول العالم الثالث التي تمثل الاستثناء تكفينا نظرة واحدة في أحد شوارع بكين في ساعات الصباح الأولى فنرى الملايين من المواطنين الصينيين يسعون إلى أعمالهم في نظامٍ ودقة وترتيب يدعو إلى الإعجاب والاحترام، وعلى نفس النهج يمشي سكان بلاد العم سام فالآلاف من المواطنين يستيقظون كل صباح يتوجهون إلى القطار في انتظام واحترام، فلا تكاد تلاحظ من يتحرش بالنساء، ولا من يحاول استغلال فرصة الاكتظاظ ويسرق الناس كما هو الحال في حافلاتنا وشوارعنا، إن ثقافة الازدحام ليست تعبيرا إنشائيا نستهلكه، إنه ثقافة حضارية ينبغي أن نهتم بها ونربي عليها الأجيال الصاعدة، لأن الصورة التي عليها المغرب في هذا الجانب تعطي للغير أن البلاد تعمها الفوضى، فما معني أن تذهب للإدارة المغربية  وتجد الناس لا يحترمون الترتيب الأول فالأول وهكذا، وأذكر لكم قصة واقعية، ذات يوم كنا في المقهى بالولايات المتحدة الأمريكية وأراد أحد الأصدقاء أن يعطي شرطيا أمريكيا كأس قهوة متجاوزا الزبائن فرد عليه أحدهم قائلا: إنها أمريكا دعك من المحسوبية حتى ترجع إلى وطنك الأصلي لأنكم اعتدتم هذا الوضع فأما هنا فكلنا سواسية. ثم اعتذر الشرطي من الزبون وانتظر كباقي الزبائن حتى يصل دوره، هذا هو القانون في الدول المتقدمة كل الناس سواسية لا فرق بين هذا وذاك.

تفعيل مؤسسة الزكاة وتشجيع العقلية الاستثمارية سبيل النجاة:

للزكاة دور هام في تحقيق التنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر والبطالة، فالزكاة في الإسلام هي الضمان الاجتماعي الذي يحفظ كرامة المواطن الفقير، فأنا هنا ليس بصدد تعريف الزكاة ولا عرض الخلافات الفقهية في الموضوع، ما يهمني هنا هو عرض فلسفة هذه الفريضة في الإسلام، فمن اتهم الإسلام بالظلم الاجتماعي فقد أخطأ في حكمه، فالزكاة تعني التوزيع العادل للثروة، فقد فرض الإسلام أربعة أخماس من الأرباح، وتسعة أعشار من الموارد التسعة، والقصد من ذلك هو القضاء على الطبقية وإيجاد التوازن بين طبقات المجتمع، فمن ينظر في واقع الأمة اليوم سيجد أن ما يعيشه العالم العربي والإسلامي من فقر وبطالة بسبب تعطيل فريضة الزكاة، فثروة الأمة تتركز في يد فئة قليلة لا تعطي حق الله في ما تملك من المال، مع أن الله تعالى يقول: (خذ من أمولهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم، والله سميع عليم). فالزكاة طهارة للنفس والمال، وما شح وقسوة بعض أغنياء الأمة إلا بسبب تخليهم عن هذه الفريضة فتجد الواحد منهم يملك البر والبحر وما تحت الأرض وما فوقها دون أن يراعي حق الفقير فيما يملك.

فما يقوم به بعض المحسنين اليوم من أعمال الصدقة كتوزيع المال أو بعض المواد الغذائية من سكر ودقيق وزيت لا يعد أسلوبا كافية لمعالجة الفقر والبطالة، كما يقول المثل الشهير (لا تعطيني سمكة ولكن علمني كيف أصطادها) – رغم أهمية فعل الخير-

فثقافة مد اليد لا يمكن أن تساهم في تنمية العقلية الاستثمارية للأمة، فلكي نبني اقتصادا وطنيا قويا لا بد من إعادة النظر لمفهوم الاستثمار والصدقة، وخير ما يمكن أن نستثمر فيه هو العنصر البشري وذلك بصناعة المواطن الصالح، فإذا تكفل أحد المحسنين بتربية وتعليم يتيم أو فقير وجعل منه مشروع طبيب أو مهندس أفضل من توزيع ألف قفة من المواد الغذائية.

إذن لا بد من إعادة النظر في مفهوم الاستثمار ، فبدل أن نركز اهتمامنا على تنمية الحجر والشجر والبقر وجب علينا الاستثمار في البشر من أجل صناعة المواطن الصالح الذي يخدم البلاد والعباد.

عين على فاجعة الصويرة:

إن ما حدث بمدينة الصويرة تدمع له العين ويتألم له القلب، أن يموت الإنسان بسبب الزحام الشديد وذلك من أجل عشرة كيلو غرام من الدقيق ولتر زيت وقطع من السكر يعني قمة الفقر، فإني لا أرى في مثل هذا التصرف إلا سياسة إذلال واستعباد للمواطنين، ففي تقديم الصدقة لابد من الإحسان فيها وذلك بالإبداع في طريقة إعطائها كأن ترسل لمستحقيها بطرق يجتنب فيها الازدحام الشديد المفضي لفقد الأرواح. وإذلال كرامة المواطن بتصويره وهو يأخذ الصدقة (خنشة الدقيق).

ولابد من تسجيل مجموعة من الملاحظات حول هذه الفاجعة المؤلمة:

ـ التنمية البشرية لا تتحقق بتوزيع المواد الغذائية، فهذه الفاجعة تعكس حجم الفساد الذي يعتري مشروع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية…

ـ ضرورة طرح سؤال جوهري حول الغلاف المالي  الذي خصصته الحكومة للعالم القروي، فما هو نصيب فقراء جماعة (سيدي بوعلام) من 55 مليار؟

ـ لا شك أن هذه الفاجعة كشفت لنا عن المستور في المغرب العميق، ، حيث الفقر، وانعدام الشروط الضرورية للعيش، كالمستوصف، والمدرسة والطرقات…

فلابد لعقلاء الدولة من التفكير في وضع حد لهذه الكوارث التي تتناسل بكثرة، لأن المغاربة سئموا ما يحل بإخوانهم، فبعد الحسيمة عطشى زاكورة، وها نحن الآن على وقع نازلة أخرى من المغرب العميق بمنطقة الصويرة، إلى غير ذلك من الكوارث التي حلت بالوطن.

فالمغاربة قاطبة يعيشون على الحلم بمغرب متقدم متطور تحفظ فيه الكرامة وتتحقق فيه العدالة الاجتماعية، فمن ينظر في كل الأشكال الاحتجاجية سيجد مطالب موحدة ترمي إلى النهوض بالمواطن والوطن وحماية مقدساته التي تتجلى في الدين والملك والوطن الذي يجب أن نعيش فيه بكرامة وحرية وحقوق مكفولة من القانون.

ـ لا ينبغي أن تكون الفاجعة فرصة لتصفية الحسابات الإيديولوجية وذلك بمنع التبرعات وسد باب الإحسان على الناس، وأعتقد أن هذه الكارثة فرصة لإعادة النظر في مفهوم التبرع والصدقة، فمن وجهة نظري من يريد أن يتبرع بمال عليه أن ينظر إلى طلبة العلم والمعرفة من الفقراء ويتكفل بدراستهم لأنه في نهاية المطاف مشروع منقذ لمجموعة من الأسر المغربية.

صفوة الكلام :

ما يشهده المغرب هذه الأيام القليلة صور مصغرة تعري التناقض الذي تعرفه الخطابات السياسية داخل البلد، فمن الأحزاب من تروج لمغرب متقدم متطور ( القمر الصناعي، القطار السريع ….) وفي المقابل واقع فعلي مرير، مغرب 2017 والناس يسجنون من أجل شربة ماء، ويموتون من أجل (خنشة دقيق)، ويسجنون ويعذبون من أجل مطالبهم المشروعة ببناء الجامعات من أجل العلم، والمستشفيات من أجل التطبيب.

فعلى الدولة أن تعيد النظر جيدا في رسم سياستها اتجاه الوطن لأن المغرب في الطريق إلى المجهول، فالمغرب يجمعنا ملكا وشعبا وكل منا يتحمل مسؤوليته اتجاهه، فمادام الفساد والمفسدون بيننا فإننا سنعيش تحت وطأة الكوارث، ولكن إيماننا ويقيننا بالله عز وجل يجعلنا نتدافع مع الفساد وأهله حتى يعود العدل والسلم والسلام ويحيا الوطن الذي ساهم فيه الوطنيون المخلصون بالصلاح والإصلاح.

والله تعالى أسأل أن يحفظ الوطن ملكا وشعبا ويهلك الفساد والمفسدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • هشام
    منذ 6 سنوات

    اللهم أمين ونسأل الله التوفيق والسداد والاخلاص في القول والعمل

  • هشام
    منذ 6 سنوات

    بارك الله فيك اخي الكريم وبناء الوطن مسؤوليتنا جميعا

  • الحسن
    منذ 6 سنوات

    أحسنت سي هشام بارك الله في علمك وعملك

  • العربي بلعيدي
    منذ 6 سنوات

    جزاكم الله خيرا عن هذ النص في الحقيقة اخي الكريم كل ما قلته فهو كلام في محله ويجب علينا تربية أبنائنا عن هاذ النظام الذي نفتقده في بلدنا. لان التربية تبدأ من بيوتنا ومدارسنا لكي ننتج جيلا منظما يحترم نفسه والآخرين. فأين نحن من هذا.اشكرك اخي الكريم.