سياسة

مركز «كارنيغي» يقدم كشف حساب فترة حكم البيجيدي منذ 2011

نشر مركز «كارنيغي» للدراسات الشرق أوسطيّة ورقة بحثية درس فيها علاقة الإسلاميين في المغرب بالقصر الملكيّ والشارع المغربي بعد وصولهم للسلطة سنة 2012، حيث خلصت الدراسة التي أعدتها الباحثة بالمركز “انتصار فقير” إلى أن حزب العدالة والتنمية استطاع أن يمارس سلوكًا سياسيًا جديدًا على الساحة السياسية المغربية، فهو لم يكن خصمًا للقصر، ولم يكن في يدها، وأظهرت تجربة الحزب في الحكم أن الشعب والجماهير مُهمّون تمامًا كالملك والقصر.

وفي مايلي تلخيصٌ وتحريرٌ لأهم ما جاء في هذه الورقة البحثية الصادرة باللغة الانجليزيّة في 28 دجنبر 2017، والتي قام موقع “ساسة بوست” بترجمتها إلى اللغة العربية:

مع انطلاق موجة الربيع العربي والغليان السياسي الذي أصاب المنطقة العربيّة، وعدَ القصر الملكيّ المغربي، مُمثلًا في الملك محمد السادس، بإجراء إصلاحات دستورية تجعل العملية السياسية في المغرب أكثر انفتاحًا ودينامية، وقد كانت هذه الإصلاحات إيذانًا بفتح الساحة السياسية للأحزاب لتمارس دورًا أكبر في حكم البلاد من خلال تشكيل الحكومات.

لكن كيف تفاعلت الأحزاب السياسية المغربية مع هذا النَفَس الديموقراطيّ الجديد؟ تُقدم «انتصار فقير»؛ الباحثة في مركز «كارنيغي» لدراسات الشرق الأوسط، والمهتمة بشؤون المغرب العربي وقضاياه الاجتماعية السياسية تحديدًا، مُراجعة شاملة لفترة حكم حزب «العدالة والتنمية» ذي التوجّه الإسلامي، ومن خلال اهتمامها بالقضايا الاجتماعية – السياسية في المغرب العربي؛ تدرس الباحثة كيف أثّرت هذه الفترة السياسيّة على علاقة الأحزاب بالقصر الملكيّ وبالشعب، وتُقيّم إنجازات حزب العدالة والتنمية بعد سبع سنين من الوعود الانتخابية التي أطلقها أثناء انتخابات 2012 البرلمانية.

الإسلاميون في المغرب: الصعود والهبوط

وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في 2012، وبقاؤه فيه حتى 2016، في جو من الانفتاح السياسي؛ سمح للحزب بتحقيق تقدم ملحوظ في مجالات مختلفة تحت قيادة عبد الإله بنكيران، رئيس الحزب ورئيس الحكومة آنذاك، فكانت إنجازات الحزب سببًا في فوزه المشهود في الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2016.

وترى الباحثة أن هذا الفوز المعتبر جاء نتيجة رؤية الشعب لـ«العدالة والتنمية» على أنه حزب قادر على الحكم، ولكن الفوز لم يكن دون ثمن؛ فقد دفع القصر الملكي ليرى الحزب بمنظور مختلف، فاعتبره مصدرًا للتهديد. كما أن الأداء الجيد للحزب هدّد الفكرة المنتشرة سابقًا، والقائلة إن التدخّل الملكي مطلوب بسبب ضعف اللاعبين السياسيين؛ ما دفع القصر ليدشّن «مناورة سياسية» – حسب الباحثة – لمنع الحزب من تشكيل حكومته كما يريد، مُتلاعبًا بالأحزاب المُعارضة للحفاظ على شعبية الحزب في مستوى محدود ومتحكّم فيه؛ يحفظ للقصر مصالحه السياسية والاقتصادية.

لقد كان مفتاح النجاح لحزب العدالة والتنمية – كما ترى الباحثة – من خلال التواصل الفعّال مع الجماهير، مع الحفاظ على علاقة ممتازة مع القصر الملكيّ، فاستطاع أن يناور أمام الخطوط الحمراء للقصر دون أن يتخطّاها، ويبقى في ذات الوقت مُتصلًا بالجماهير.

لم تستمر هذه الحالة طويلًا؛ إذ أمر الملك بإعفاء بنكيران من مهامه رئيسًا للحكومة بتاريخ 15 مارس 2017، واستبدل سعد الدين العثماني به، الرجل الذي انتُخب أمينًا عامًا للحزب أيضًا مكان بنكيران؛ ما أنهى طموحات بنكيران السياسيّة تمامًا داخل الحزب وخارجه في الحكومة كما ترى الباحثة. ومن هنا وضع القصرُ الملكيّ الحزبَ في ظروف صعبة ليحكم البلاد؛ فالحزب منقسم داخليًا، ومُجبرٌ على بناء تحالفات واسعة وصعبة على الصعيد المحلي، وقيادته الحالية ممثلة بالعثماني، أضعفُ من قيادة بنكيران.

وقد فاوضت حكومة بنكيران القصر على مساحات أوسع للتحرك الحكومي والبرلماني، وتوافقت هذه الجهود مع ما أورثته موجة احتجاجات 2011 عند الشعب من اهتمام بالوضع السياسي ومستقبله في البلاد، وأكَّد ذلك حراك الريف الأخير الذي طالب بالشفافية وتحسين الأوضاع الاقتصادية.

وتؤكّد الباحثة أنّ المغرب شقَّ مساره السياسي الخاص بعد 2011؛ إذ تجنَّب موجة الثورات العربيّة، واستطاع القصر أن يحافظ على الاستقرار والسلام في مملكته بفتح فضاء سياسي يُعطي أملًا بمزيد من الرخاء والمشاركة السياسية للأطراف الفاعلة، لكن يظلُّ القصر الملكيّ يسعى لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والأمني، ولو أّدى ذلك لتعطيل العمل السياسي، من خلال تدخل الملك والقصر في مؤسسات الدولة وتعطيلها، بحسبها.

وعكس غيرها من الملكيات العربيّة، فإن للسياسة المغربية تاريخًا طويلًا من الأحزاب السياسية بأطياف فكرية مختلفة، من الشيوعيين إلى الإسلاميين، لكن يظلّ القصر الملكيّ فوق جميع الأطراف السياسية الأخرى؛ إذ يُتيح تعددًا حزبيًا؛ ليضمن عدم سيطرة أي حزب على الساحة؛ بما يضعف سلطة القصر.

ينشط اليوم في المغرب 33 حزبًا على اختلاف شعبيتهم وتأثيرهم، وعلى رأسهم العدالة والتنمية؛ أقدم حزب في المغرب، وذو المخزون الوطني الكبير، إذ كان رأس «حركة الاستقلال»، يليه حزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» الذي ترّأس صفوف الحركات المعارضة للملك الراحل الحسن الثاني. وعلى الكفّة الأخرى أحزاب تميلُ إلى القصر: كـ«التجمع الوطني للأحرار»، و«الاتحاد الدستوري»، والوليد الحديث في السياسة المغربية: حزب «الأصالة والحداثة»، الذي أسّسه فؤاد عالي الهمة، صديق الملك المقرّب ومستشاره المعروف بحساسيّته تجاه الإسلاميين.

بصعود محمد السادس إلى العرش عام 1999، ورثَ عن أبيه نظامًا قادرًا على تفتيت النخب السياسية وتشويهها لدرجة تُفقدها أهميتها، وذلك من خلال أساليب دقيقة يمارسها القصر، أبرزها: تعزيز الخلافات داخل الأحزاب؛ بغرض تشتيت مجهوداتها، بالإضافة إلى تقليد ملكيّ راسخ من خلال تفضيل القصر لحزب على حساب الأحزاب الأخرى؛ مما يجعل قوتها مستمدة من القصر، لا من برامجها، أو أفكارها، أو توجهاتها الأيديولوجية، حسبما أشار البحث.

ومع استمرار هذا التقليد، صار القصر الملكيّ مركز جذب للأحزاب؛ إذ تقترب منه على اختلافها مُرغمةً على ذلك؛ لتحفظ بقاءها السياسي؛ فتفقدَ اتصالها بالشارع ومطالبه، ويفقدُ الشارع ثقته في مُمثليه، وفي السياسيين عمومًا، خصوصًا فئة الشباب.

في مارس 1998 شكّلت الأحزاب اليسارية المُعارضة، بقيادة «الحزب الاشتراكي»، حكومةً ائتلافيّة من ستة أحزاب لتنفيذ خطة إصلاح طرحها القصر، ودعا إليها، وعلى الرغم من تضييق القصر على هذه الحكومة، فقد تولَّدت آمال بأنها قادرة على الإصلاح، وسرعان ما دمّر القصر هذه الآمال الكبيرة بفعل تدخلاته، وبسبب الخلافات الداخلية بين الأحزاب.

شوّهت هذه التجربة – تضيف الباحثة – سمعة الحزب الاشتراكي السياسية؛ بفشله في تحقيق الإصلاحات الاجتماعية التي كان يريدها؛ فمع صعود محمد السادس للمُلك، تجاهل كافة أجندة حكومته اليسارية، والتي كان من بينها ملفّ حقوق الإنسان، وتمكين المرأة، ومبادرات اقتصادية أخرى. إذ رمّى بها الملك الجديد عرض الحائط، وقيّد القصر يد الحزب، فظهر أمام الشعب على أنه وحكومته بلا جدوى. إذ كان الحزب ملزمًا على التعامل مع وزراء يُريدهم القصر، وأبرز هؤلاء في حكومة 1998، كان يدَ الملك الحسن الثاني ووزير داخليّته القوي؛ إدريس البصري.

عزّز هذا السلوك تصوَّر أن القصر هو الأقدر على فهم مخاوف الشعب ومعالجتها، وقضى بذلك على احتمالية بروز تساؤل من الناس حول ضرورة وجود الملكية في ظلّ قدرة الأحزاب السياسية على تسيير شؤون البلاد، دونَ القصر.

تشير الباحثة إلى أن محمدًا السادس قد حظي بسمعة ممتازة؛ أشعرت الناس بأن حقبة جديدة من الانفتاح والازدهار قادمةٌ بإرادة القصر، فهُمِّشت الأحزاب السياسية، وعزّز ذلك اعتراف الملك بوقوع انتهاكات لحقوق الإنسان في الحقبة الماضية، وعمله على معالجة قضايا الفقر والتنمية. وعلى رأس أعماله الإصلاحية: تعديلات مدونة الأحوال الشخصية، التي منح بموجبها المرأة المغربيّة حقوقًا مختلفة، مثل رفع سن الزواج إلى 18 عامًا، مع قدرة المرأة أن تشترط على زوجها عدم الزواج عليها، وأطلق في 2005 برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة لمبادرات خيرية شخصية، مثل مؤسسة «محمد الخامس للتضامن» التي أنشأها في 1999.

علاوة على مشروعاته الجديدة، كانت نظرة الداخل والخارج لمحمد السادس إيجابية؛ إذ قُورن حكمه بحكم والده القمعي، حسب الباحثة، وقد رحّب الشعب بالمبادرات الملكية، على الرغم من تعطيلها للعمل الحزبي السياسي، وفي استطلاع رأي أجري عام 2009؛ أظهرت نتائجه أن 91% من المغاربة يرون سنوات حكم الملك العشر إيجابية، لكن – شيئًا فشيئًا – خفَت وهج الملك؛ عندما اتضح أن محاولاته الإصلاحية كانت رمزيّة فحسب.

القصر الملكيّ يقتسم السلطة مع الوافد الجديد

ثم جاءت احتجاجات 2011 لتجمع المغاربة على اختلاف مشاربهم وأفكارهم في ساحة واحدة، فبرزت حركة «20 فبراير» مطالبةً بإيجاد حلول للقضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المُلحة، مثل الفساد وانعدام الكفاءة الحكومية، وكان القصر المغربي أكثر حنكة وبصيرة من جميع الأنظمة العربية التي أسقطتها الثورات؛ إذ خرج الملك في التاسع من مارس 2011 بخطاب يعدُ فيه بإصلاحات دستورية، وقد أدّى الخطاب الغرض المطلوب منه؛ إذ امتصَ كثيرًا من الغضب الشعبي، وبدأ وهج الحراك يخفت أمام ووعود الملك الإصلاحية.

لكن، وبحسب الباحثة، لا يمكن إنكار حقيقة أن حركة «20 فبراير» كانت المحرّك الأساسي والدافع لهذه الإصلاحات الدستورية التي لم تواكب آمال الناس، ولكنهم بالرغم من ذلك شاركوا فيها، وصوّت 98% من الناخبين على تأييدها، وبمشاركة تصل إلى 70% من المؤهلين للانتخاب، ما أكّد رغبة الشعب الحقيقية والعميقة في التغيير. وقد تحقّق من خلال هذا التعديل الدستوري السماح للبرلمان بدور أكبر في العملية التشريعية، وتوسيع نطاق سلطات رئيس الوزراء، وظلّ دور الملك وصلاحياته كما هما: الملك!

على الرغم من أن التعديل الدستوري فتح الأبواب للأحزاب السياسية، إلا أن الإسلاميين وحدهم مَن استفادوا منها، إذ استطاعوا أن ينتفعوا من تغيّر المناخ السياسي في كافة دول الربيع العربي، على عكس الأحزاب والقوى السياسية التقليدية.

على كلّ حال، ظهرَ حزب العدالة والتنمية على أنه الحزب الأقل فسادًا، ولو أنه ابتعد عن حراك «20 فبراير» وتميّز بالجو الديمقراطي الداخلي، ونُظر له على أنه بديلٌ جيد للقوى التقليدية، في جو من التشكيك بكل ما له علاقة بالسلطة سابقًا، فالحزب لم يفز بأغلبية أو بمقاعد كثيرة في أي برلمان سابق، ومشاركته في الحكومات كانت محدودةً جدًا.

اختلف الحزب بعد 2011، وبدأ يعمل على زيادة كفاءته ومصداقيته الحكومية، مع تأكيد حضوره في الشارع ومع الجماهير. وقد كان الحزب نشطًا من قبل من خلال حركة «التوحيد والإصلاح»، التي امتدّت في الجامعات والمدارس، وكل مكان يمكن أن تصل إليه، وعُدَّت الذراع الديني للحزب، كما كان لها تأثير كبير عليه، إذ صدّرت الحركة العديد من قادة العدالة والتنمية.

وترى الباحثة أن العلاقة بين العدالة والتنمية، الحزب السياسي، وبين التوحيد والإصلاح كحركة دعوية دينية، تثير التساؤلات حول طبيعة الحزب السياسية. من هنا يمكن أن نلحظ – حسب الباحثة – تغيّرًا هائلًا في سلوك الحزب وخطابه، إذ إنه كلما تقدم خطوة للأمام في عمله السياسي، تخفّف من طابعه الديني. عمليًا عملَ الحزب كأي حزب علماني آخر، وبنكيران الذي كان يُعدُّ محافظًا صلبًا، أدركَ أن أجندة المُحافظَة الاجتماعية ستعزل الحزب وتفقده الناس، وكان التحوّل في طبيعة الحزب صارخًا وواضحًا في خطاب بنكيران عندما اعتلى رئاسة الوزراء، إذ قال في أحد تصريحاته: « لن نهتم أبدًا بحياة الناس الخاصة، خلق الله الناس أحرارًا. لن نهتم أبدًا إذا ما كانت امرأة تلبس تنورة قصيرة أو طويلة».

علاوة على ذلك، أكّد الحزب تأييده واحترامه للدور الديني والسياسي للملكية، الاحترام الذي لا يمكن للحزب – دونه – أن يبقى في اللعبة السياسية.

العدالة والتنمية في السلطة 2011-2016

شكل الحزب حكومة ائتلافية ضمّت أعضاءً من حزب الاستقلال، والحركة الشعبية، وحزب التقدم والاشتراكية، وبذلك دخل في مرحلته الأولى الممتدة منذ مطلع 2012 وحتى منتصف 2013، خائضًا تحدي الحكم في نموذج سياسي جديد، ودستور جديد، لم تكن للحزب خبرة في أيّ منهما. وانتهت هذه المرحلة السيئة، حسب الباحثة، بخروج حزب الاستقلال الذي مالَ إلى القصر كثيرًا من الحكومة، وانطلقَت الحكومة بمرحلتها الثانية لتحقيق أجندتها بسهولة أكبر، ثم جاءت المرحلة الثالثة، الإعداد للانتخابات المحلية والإقليمية لعام 2015، والانتخابات الوطنية في 2016.

رأسان وكرسيّ واحد: بنكيران والملك وجهًا لوجه

في الفترة الأولى من حكم العدالة والتنمية، ترى الباحثة أن الحزب حاول أن يفهم حدود حكومته: أين يمكن له أن يضغط، وأين عليه أن يتراجع، وحاول الحصول على ما استطاع من النفوذ، وفي المقابل كان القصر يجتهد ليحد من ذلك النفوذ مع الالتزام بالتعديل الدستوري الجديد.

أظهر الحزب التزامًا بالتغيير دون أن يزعج القصر، وكَسبَ لصالحه وزارات هامة وأساسية، كوزارتَيْ العدل، والشؤون الخارجية والتعاون الدولي، وظلَّت يد القصر الرقابية حاضرة كحكومة ظل، مُستخدمةً الطيّب الفاسي الفهري وصديق الملك المقرّب، فؤاد عالي الهمة.

وعلى خلاف غيره من رؤساء الوزراء، لم يتوانَ بنكيران عن الإشارة إلى تقييد القصر للحكومة وتضييقه عليها، على أنه لم يُسئ للملك أو يطعن فيه.

سلّط بنكيران الأضواء على القصر كما لم يحدث من قبل، وحاول الاستفادة من تدخلات القصر في عمل حكومته ليُبرّئها من الفشل أو القصور في أدائها. وبدلًا عن الوقوف مكتوف اليدين؛ استفاد من صراعه مع القصر بتعامله المزدوج معه، فكان مصدر الشرعية لحكومته، وفي نفس الوقت سببًا لمكاسب سياسية، إذ أظهر نفسه كمُقاتل أمام القصر يسعى لتقديم الأفضل للمواطنين.

وأشارت الباحثة إلى أن محاولات القصر للحفاظ على سلطاته لم تتوقّف؛ إذ سحب من البرلمان ورقة تنظم عمل لجان المراقبة والتحقيق، وحوّلها إلى الأمانة العامة للحكومة، وهي الأمانة التي تُشرف على كتابة النصوص القانونية حتى اكتمالها ونشرها رسميًا، وتعمل باتصال مباشر مع القصر، وأُحبطت بذلك جهود برلمانيي العدالة والتنمية لاكتساب مساحات جديدة، لا وجود للسلطة الملكية فيها.

لقد تحدث بنكيران في أيّامه الأولى على رأس الحكومة علنًا عن التوتر مع القصر الملكيّ، وأكّد دومًا أنه سيكون صريحًا مع شعبه في ذكره للتحديات التي يواجهها، ولكنه لم يفتأ يؤكد على تفانيه للملك وسعادته لخدمته.

الحكومة المغربية مطالبة – حسب الباحثة – بأن تخلق توازنًا دقيقًا في علاقتها مع القصر، ثم توازنًا آخر مع الأحزاب السياسية البارزة والقوية، إلا أنّ بنكيران، تمامًا كما لم يُقصِر في انتقاد الملك، فإنّه لم يتردد في الرد بقوة على المُعارضين، ومنهم حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، الذي أبدى حزبه تخوفه من برامج الحكومة التي ابتعدت عن الأهداف التي اتفقت عليها الأحزاب نحو أهداف العدالة والتنمية.

في 2013 وقع حدثان مُربكان: انقلاب 30 يونيو الذي أزال الرئيس المصري محمد مرسي، القادم من جماعة الإخوان المسلمين، وقرار «حزب النهضة» التونسي بالانسحاب من الحكومة. بعد ذلك بدأ التفكير في هزّ حكومة بنكيران أو إسقاطها كليةً، فالموجة طالت الإسلاميين في كل مكان. وراجت الشائعات بأن حلفاء المغرب والمانحين الخليجيين، وتحديدًا الإمارات، مستاؤون من وجود حزب إسلامي في السلطة، هنا برز شباط في مناورة لتشويش الأوضاع، فأعلن وزراء حزبه رغبتهم في الاستقالة من الحكومة، ثم انسحب الاستقلال تمامًا من الائتلاف الحكومي، فتوقف برنامج الحكومة.

ومع تعرض الإسلاميين عبر المنطقة للضغط، وبالإضافة لعدم وجود دعم خارجي للحكومة؛ انطلقَ بنكيران نحو حضن القصر واثقًا فيه مصدرًا لحماية حق الحكومة في الاستمرار، لقد كانت تلك اللحظة المناسبة ليُسقط الملك الحكومة. إذ لم تزل شعبية العدالة والتنمية مرتفعة، وكان الناس ينظرون إلى حكومة بنكيرن باعتبارها ضحيةً لتشويش المعارضة ومناوراتها السياسية؛ ما زاد من تعاطفهم معها، ودفع القصر ليتراجع عن قرار حاد كإسقاط الحكومة.

ترى الباحثة أن استراتيجية العدالة والتنمية قد أظهرت في هذا الموقف نجاحًا جيدا، وبدت كأنها تُوفّر مرونة سياسية معقولة، فبعد تعافي بنكيران من هذه النكسة وتخطيه للائتلاف السابق الفاشل، لمعت صورته كسياسي حاذق ماهر، وتحسّنت علاقته كرئيس للوزراء بالقصر، وبدت حكومته جاهزةً للعمل على البرامج التي توقفت أو لم تبدأ أصلًا.

العدالة والتنمية يفي بعهوده

بعد تثبيت أقدامه وتخلصه من المعارضة، اتجه الحزب نحو الحكم والوفاء بوعوده الانتخابية، ففي حملته عام 2011 وعد بإصلاحات طموحة وحلول للمشاكل المغربية العامة، وتحسين الاقتصاد بشكل عام، وركّز على خفض معدلات البطالة والفقر.

التتبّع لإخفاقات ونجاح الحزب في تحقيق بعض وعوده يُبيّن – حسب الباحثة – إلى أي حد يمكن للحزب أن يقنع الشعب بأنه قادر من خلال الحكومة والبرلمان على تدبير الأمور مُقابل يد القصر الثقيلة، ويُسلط الضوء على إجابة السؤال الهام: هل كان الحزب قادرًا على ممارسة إرادة سياسية كافية لإحداث الإصلاحات؟ أم أن القصر قيّده عن ذلك.

لتجيب الباحثة على هذا التساؤل كان عليها تتبّع ثلاثة مجالات: استقلال القضاء، والفساد، والإصلاحات الاقتصادية الهيكلية.

1- مكافحة الفساد

كان الوعد بمكافحة الفساد رنّانًا في حملات العدالة والتنمية، وكان المطلب في قلب المطالب الشعبية في احتجاجات 2011، والوقوف في وجه الذين استفادوا من علاقتهم بالقصر لجني ثرواتهم، وضد سيطرة القصر المعروفة على قطاعات اقتصادية واسعة. رفع العدالة والتنمية آمال التغيير لكونه حزبًا يتمتع بشفافية عالية وجو ديمقراطي داخلي؛ ما أعطى الناس أملًا بتحقيق ذلك في الحياة السياسية العامة، ولكن ذلك لم يحدث؛ إذ خسر الحزب معركة الفساد سريعًا، ولم تتحسن رتبة المغرب في مؤشرات مكافحة الفساد العالمية أي تحسن يُذكر. ولم يُعرف إذا ما كان سبب ذلك انعدام الإرادة السياسية في هذا الاتجاه أم قوّة شبكات المصالح.

وحتى نهاية عام 2014، كانت جهود مكافحة الفساد رمزية فحسب، كتوزيع كتب للأطفال على طلاب المدارس عن مكافحة الفساد، وتوفير خط مجاني للإبلاغ عن الفساد.

لكن الإخفاق الأكبر كان في إنفاذ تعديلات 2011 الدستورية على المستوى المؤسسي في الدولة. وفي محاولة لذلك، حُلّ الجهاز المركزي لمكافحة الفساد، واستُبدل بهيئة وطنية للنزاهة والوقاية، أُقرَّ قانونها عام 2014. وتتكون الهيئة من 12 عضوًا دون الرئيس، يُعين الملك أربعة منهم، ويعيّن رئيس الوزراء أربعة آخرين، واثنان يعينهم رئيس البرلمان، واثنان من رئيس مجلس المستشارين (وهو مجلس يُعيّن أعضاءه بالانتخاب). وقد وقع خلاف حول منح حق التحفّظ على هوية المُدعين، وطولب بالسماح للهيئة بإنشاء فروع لها في أنحاء البلاد. أما النشطاء السياسيون فقد انتقدوا الهيئة لعدم وجود ممثلين مدنيين فيها من المجتمع المدني، وطالبوا أن تكون قادرةً على تنفيذ تحقيقاتها باستقلالية كاملة.

وما أن أُقرَّ قانون الهيئة، حتى أثار انتقادات أخرى تُشكك في استقلالية الهيئة في قراراتها، إذ يُعيّن القصر والحكومة أعضاءها، وبرزت تساؤلات عن استقلاليتها المالية، وفي المُحصلة، ظهرت الهيئة أضعف من الجهاز المركزي المُنحل.

وحسب الباحثة، فإن تراجُع العدالة والتنمية عن إيفائه بعهوده في ملف الفساد شكّل خيبة أمل كبيرة لناخبيه. على كلّ حال، في عودة الحزب إلى ساحة المواجهة، أطلقت حكومته في مايو (أيّار) 2016 استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، بخطة من 239 مشروعًا مُفصلًا في 10 فئات، على أن تُنجز الخطة بحلول 2025، بالتعاون مع «الاتحاد العام لمقاولات المغرب (CGEM)»، أكبر جمعية تمثل القطاع الخاص في البلاد، وخُصصت ميزانية بقيمة 190 مليون دولارًا لهذه الهيئة التي لم تبدأ العمل إلا في يونيو 2017، بعد وصول العثماني للرئاسة بشهور.

وفي سابقة لم تتكرر، نشرَ وزير النقل عام 2012 قائمةً بأسماء المنتفعين من صفقات النقل، وفيها أسماء شخصيات سياسية وثقافية عامة، مؤكدًا من خلال هذا الفعل قدرة الحكومة على تحقيق الشفافية. لكن يبدو أن الواقع كان قاسيًا على بنكيران وحكومته؛ ما دفعه ليقول:«الواقع عنيد.. أنا لا أحارب الفساد، بل الفساد يحاربني».

2- إصلاح القضاء

إصلاح القضاء مرتبط بإصلاح الفساد؛ ما يعني أن المعركة التي خاضها بنكيران – كما ترى الباحثة – كانت معركة واحدة، ولكن تبدو النتائج في إصلاح القضاء على الورق، لا الواقع، أفضلَ منها في مجال الفساد.

من أجل تبيان واقع القضاء المغربي، سنشير إلى مسح الشفافية الدولية لعام 2016، صرّح فيه 49% من المغاربة أنهم يدفعون الرشاوى في المحاكم، ولم يسبق المغرب في المؤشر من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المُدرجة في الدراسة، وهي تسعة دول، إلا مصر واليمن.

ولسنوات طويلة خرجت مطالبات بإصلاح القضاء، حتى من داخل النظام القضائي نفسه، حتى احتجاجات 2011 دعا الملك نفسه رسميًا في 2009 إلى إصلاحات قضائية.

وقد تقرّر في إصلاحات التعديل الدستوري لعام 2011، الاستعاضة عن المجلس الأعلى للقضاء بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وإعطائه صلاحيات موسعة واستقلاليةً مالية أكبر. شُكّل المجلس الجديد في أبريل 2017، برئاسة الملك كما كان سابقًا، ولكن ينوبه في رئاسته رئيس محكمة النقض، وليس وزير العدل، ما يعني أن المنصب لا يكون بالتعيين السياسي، وإنما يتحصل عليه بالمسيرة المهنية للقاضي. وقد امتدحت لجنة الحقوقيين الدولية جهود إصلاح المجلس الأعلى، واعتبرت معايير اختيار أعضائه «عادلة وشفافة ومتسقة مع أحكام القانون».

لكن هناك أمرًا آخر أهم بكثير من هذا المجلس، وهو تكليف الدستور بإنشاء محكمة دستورية، فسابقًا كان للمجلس الدستوري حقّ استعراض القوانين وتصديقها قبل اعتمادها، أما المحكمة الدستورية الجديدة فيحقُّ لها الاعتراض على القوانين ومراجعتها حتى بعد نشرها واعتمادها، ويعمل في هذه المحكمة 12 عضوًا يُعيّن الملك نصفهم.

لكن ماذا فعلت حكومة بنكيران لتدفع جهود إصلاح القضاء؟ حمل لواء هذه المهمة وزير العدل مصطفى رميد، محامٍ ممارس ذو سمعة جيدة، ورئيس سابق لمنتدى «الكرامة» لحقوق الإنسان.

وبدأ العمل، ففي مايو 2012، أطلق الملك اللجنة العليا للحوار حول الإصلاح القضائي، لتعمل في القصر الملكي بهدف تحديد نطاق الإصلاحات الوزارية، مُثقلًا العملية الإصلاحية برمزيّة الملك.

بعد عام من انطلاق اللجنة، أعلن رميد عن ميثاق يضمّ 353 توصية مُفصّلة بوضوح، كتمرير قوانين معينة أو تعديل الميزانيات، وعلى سبيل المثال؛ حدّد الميثاق ميزانية سنوية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وحدّد مكانًا لعقد اجتماعات المجلس.

وفي آخر 2016 أعلن رميد عن تحقيق 78% من أهداف الميثاق، وأعلن حزب العدالة والتنمية عن عدد من الإصلاحات الملموسة للمواطنين: تحسين أجور القضاة؛ ليترفعوا عن الرشوة، واتخاذ إجراءات تأديبية مع القضاة الذين لا يستطيعون تفسير الزيادة المُفاجئة في ثرواتهم ودخلهم، وكذلك انخفضت فترة انتظار المحاكمات.

معظم الإصلاحات التي ذكرتها الباحثة سعت إلى إعطاء القضاء استقلالية أكبر، لكنها ظلَّت حبرًا على ورق من الناحية العملية؛ فالسلطة القضائية مرتبطة بالمصالح السياسية الراسخة وأصحابها، وعلى رأسهم القصر. وإن توفرت في النظام ضمانات تسمح بمكافحة الفساد ومساءلته؛ إلا أن الإرادة السياسية لفعل ذلك ليست موجودة.

3- الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية

وضع العدالة والتنمية على رأس أجندته إصلاح المشاكل المالية العامة للمغرب، وتحديدًا ميزانيته المتضخمة التي كلَّفت البلاد ضغطًا دوليًا من المقرضين الدوليين، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي.

إذ ارتفع الدين العام 12 نقطة مئوية منذ 2008 وحتى 2012، كما أن تطبيق إصلاحات اقتصادية من خلال إلغاء الدعم الحكومي للمواد الأساسيّة قد يسبب اضطرابات اجتماعية، وأحيانًا، تراجعًا في نِسب المؤيدين من الناخبين للحزب الحاكم؛ ما يُهدد فوزه بالانتخابات المحلية.

اتخذ الحزب استراتيجية هادئة وتدريجية؛ فاستهدف دعم الطاقة، الذي كان يُكلّف أكبر حصة من نفقات صندوق الدعم المغربي، الذي يُسمى بـ«صندوق المقاصة»، وأُسقط الدعم خطوة بخطوة، وساعد على تنفيذ ذلك: انخفاض أسعار النفط العالمية. وكانت البداية في زيادة أسعار الوقود في يونيو 2012، ثم في 2013 بزيادة أسعار البنزين والديزل بنسب متفاوتة، وفي مطلع 2014 أُزيل الدعم بشكل كامل عن البنزين والوقود الصناعي. وحاولت الحكومة تعويض المواطنين بدعم وسائل المواصلات والنقل نقديًا، وخاصة سيارات الأجرة (التاكسي). وكان بنكيران وحزبه يؤكدان على أن هذا الخفض للدعم يستهدف الشركات لا الأفراد، فالمواطنون الأفراد المستفيدون من الدعم الحكومي للطاقة هم 15% فقط من مجموع المستفيدين.

مرةً أخرى – كما ترى الباحثة – برز التخوف من حدوث اضطرابات شعبية أو من خسارة الجماهير، فأُلغي رفع الإعانات عن غاز الطهي وعن الدقيق والسكر قبل الانتخابات البرلمانية لعام 2016، وما زال رفع الإعانات مُعلّقًا دون تنفيذ حتى الآن.

لقد واجه الحزب مشكلةً أخرى غير القصر الملكي، وهي الاتحادات العمالية والنقابات؛ كنقابة المعلمين. فبعد مفاوضات مع هذه النقابات المعارضة؛ أقرّ البرلمان قانونًا لإصلاح الرواتب التقاعدية، على أن يُرفع عمر التقاعد تدريجيًا من 60 إلى 63 سنة، مع زيادة مساهمة العمال ومُشغليهم في تمويل صندوق التقاعد؛ مُجددًا يستخدم الحزب سياسة التدريج.

الأرقام بشكل عام تبدو إيجابية حسب الباحثة، فقد انخفض عجز الموازنة من 7.2% إلى 3.5% من إجمالي الناتج المحلي منذ 2012 وحتى 2016، وانخفض إنفاق صندوق المعونات «المقاصة» من 4.2 مليار دولار في سنة 2013، إلى 2.6 مليار دولار في سنة 2014، ثم 1.1 مليار دولار في 2015.

وقد روّج الحزب لنفسه في حملة إعادة انتخاب الحكومة بذكره لما أنجزه من توسيع التغطية الطبية، لتشمل شريحة أوسع من الفقراء، ومساعدات الأرامل والمطلقات، وزاد على ذلك الإصلاحات الاقتصادية التي ذكرناها.

كيف حمى الإسلاميون انتصارهم الانتخابي؟

ترى الباحثة أن بنكيران وحزبه – قبل خوضهم للانتخابات – اعتقدوا أن نتائج عملهم الحكومي الملموسة ستكون سببًا في فوزهم في أيّ انتخابات قادمة. وفي حين سعت أحزاب أخرى لتوثيق روابطها بالقصر؛ سعى العدالة والتنمية ليوثق روابطه بالشارع. وامتاز هنا الحزب عن غيره باتخاذه أسلوبًا مختلفًا للترويج عن نفسه، فلسان خطابه الإعلامي يُكرّس لرواية نجاح الحزب في الحكم، بطريقة مبسطة وغير سياسية، عبر منصات التواصل الاجتماعي، «فيسبوك» تحديدًا؛ ما يجعل رواية الحزب سهلة الوصول للجميع.

ومن المُثير ذكر تصريح رئيس لجنة الانتخابات في الحزب، عبد الحق العربي، إذ اعتبر أن تجهيز الحزب للانتخابات ليس موسميًا، مُشيرًا بذلك إلى أسلوب الحزب في الترويج: الحملات الدائمة، والتأكيد على نجاحات الماضي ووعود المستقبل وإظهار المشاكل التي تمنع الحزب من إحداث الإصلاح.

كان فوز العدالة والتنمية في انتخابات المجالس الإقليمية والمحلية إشارة هامةً وفارقة، وعلى الرغم من فوزه بالمركز الثالث بعد حزب الأصالة والمعاصرة وحزب الاستقلال، ظلّ هذا الفوز مؤشرًا لاختراق الحزب لمناطق ريفية ظلَّت تاريخيًا تابعة للأحزاب الموالية للقصر، وكانت هذه المرة الأولى التي يدخل فيها العدالة والتنمية في انتخابات كهذه، حاصدًا 5 آلاف مقعد من أصل 31 ألفًا. وبالطبع بدا هذا الفوز علامةً على نجاعة منهج الحزب في الحكم في عيون الناس.

واشتعلت الحرب قبل الانتخابات البرلمانية عام 2016 بتصريحات سياسية نارية؛ ففقد اتّهم إلياس العمري، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، بنكيران وحزبه بما سمّاه «أسلمة المجتمع والدولة»، وردّ العدالة والتنمية متهمًا العمري بالتورط في عمليات مالية غير نظيفة. وارتفع سقف هذه التراشقات الإعلاميّة، فبلغت أصابع الاتهام عددًا من مستشاري الملك بالتدخل و«التحكم» والتلاعب السياسي، وبدا وكأن القصر انجرف نحو بؤرة الصراع؛ فأصدر الملك بيانًا رسميًا ينفي فيه ذلك، ويدافع عن صديقه عالي الهمّة، مؤسس حزب الأصالة والمعاصرة.

على الرغم من ذلك، جاء انتصار العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية قويًا وواسعًا، حاصلًا على 125 مقعدًا بدلًا عن 107 في آخر انتخابات عام 2011، وتلاه في المقعد الثاني حزب الأصالة والمعاصرة. ولكن سرعان ما خفت هذا النصر الملحمي؛ إذ سقط بنكيران بإعفاء ملكي بعد مفاوضات طويلة لتشكيل الحكومة، واستُبدل حكومة ضعيفة به – حسب الباحثة – بقيادة سعد الدين العثماني.

صعود بنكيران، كرمز ذي شعبية عالية داخل وخارج الحزب، حوَّل الحزب وزعيمه إلى هدف مقصود، فعملَ القصر ووسطاؤه على إفشال جهود بنكيران لعمل حكومة ائتلافية. ولم يكن الظرف مواتيًا لبنكيران هذه المرة: فهو لا يملك أغلبية برلمانية؛ ما يمنعه من تشكيل الحكومة لوحده، ولا الأحزاب الأخرى ترغب في التعاون معه، وطبيعة النظام السياسي المغربي وقوانينه تعملان على منع أي حزب من التفرّد بالحكم أو الساحة.

بدأ جدال حاد داخل الحزب عن خيانة بنكيران والتخلّي عنه بسهولة أمام ضغط القصر، وطالت الانتقادات الأسلوب الذي شكّل به العثماني حكومته، واعتبر كثيرٌ من الشباب أن ما حصل ميلٌ لحساب القصر قد يُفقد الحزب سمعته ونزاهته؛ بسبب ضعف الحكومة بشكل أساسي وإجبارها من البداية على عقد تحالف مع أحزاب مُعارضة كثيرة.

ونفى بنكيران سعيه للحصول على ولاية ثالثة في أمانة الحزب، وأكّد أنه مستعدٌ لفعل أي شيء يريده الحزب، سواء أن يكون أمينًا عامًا، أو حتى أن ينسحب إلى الأبد. ومن المرجح أن البراجماتيين في قيادة الحزب فهموا قلق القصر من بنكيران، ولم يرغبوا في إرسال رسالة تحدٍ للقصر بإعادة انتخاب بنكيران؛ فانتُخب العثماني، وانتهى دور بنكيران القيادي تمامًا.

كما هُيّئت الظروف لبنكيران كي يبرز بعد 2011، هُيّئت هذه المرة للملك ليُهشّم حكومة العثماني، وقوة العدالة والتنمية، ويحدّ من نفوذها؛ ليصعد هو وحده بدلًا عنها، فجاءت حادثة بائع السمك، الذي صادرت القوات المحلية أسماكه ورمتها في ناقلة النفايات، فقفز ليأخذها؛ وتهشّم في الناقلة، ومات على إثر ذلك؛ فانطلقت موجة من الاحتجاجات في ريف شمال وسط البلاد وامتدّت طويلًا. وهنا قفز الملك ليستغل هذه الأحداث، بخطابٍ ملكي حاد في 31 يوليو 2017، توعّد فيه بـ«زلزال سياسي» قادم لإصلاح الشؤون السياسية في البلاد.

وجاءت الهزّة السياسية؛ فأُقيل فيها وزير التربية والتعليم العالي محمد حصاد، وهو وزير الداخلية السابق في حكومة بنكيران. وأُقيل وزير الإسكان نبيل بن عبد الله، ووزير الصحة الحسين الواردي، وآخرون من كبار المسؤولين الحكوميين، وظهرَ الملك، على حساب كباش الفداء من السياسيين، بمظهر المُهتم بمطالب شعبه، وعزّزت فعلته صورة الملكية الحاكمة فوق السياسيين، وبالطبع، قوَّضت قوة الحكومة.

خاتمة

استطاع العدالة والتنمية أن يمارس سلوكًا سياسيًا جديدًا على الساحة السياسية المغربية، فهو لم يكن خصمًا للقصر، ولم يكن في يدها، وأظهرت تجربة الحزب في الحكم أن الشعب والجماهير مهمون تمامًا كالملك والقصر.

ترى الباحثة أن ما حدث في السنوات الأخيرة يؤكّد أن الشعب قابلٌ للتعبئة والتحرّك من أجل التغيير؛ ما يعني أن تدخّلات الملكية الثقيلة في شؤون الحكومة وعرقلتها لها آثار وعواقب قد تكون وخيمة على القصر لاحقًا؛ إذ يهدم بهذا السلوك مصداقية أية جهة سياسية مستقلّة عن الملكية، ومن ثم سيصبح القصر مُطالبًا بتحقيق مطالب الشعب، وفي حال فشله سيكون السخط مصبوبًا عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *