وجهة نظر

سبع سنوات عجاب بعد الحراك الديمقراطي.. فهل إلى خروج من سبيل؟

الحراك هو النهوض بأسباب الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية، والقطع مع مركب الاستبداد والفساد والتبعية، وتحقيق المساواة، واحترام الحقوق الطبيعية والمدنية، ومحو القداسة عن السياسة، وإسقاط مظاهر الوثنية السياسية .. وفي المحصلة هو مشروع غير مكتمل.

وهو حركة إرادية تنتمي للعالم الإنساني لا العالم الطبيعي الذي يخضع لنظام الضرورة.. وهو ممر تاريخي للتقدم لكن يعوق مساره بعض النوازع والهواجس البشرية، والمصالح الخاصة.. وترجعه المدرسة النفسية إلى الإحباط والحرمان كأساس تولد منه الظاهرة الثورية، وتجمله المدرسة الاجتماعية في اختلال التوازن في جسم الدولة والمجتمع، أما مدرسة العلوم السياسية فتنسبه لتعدد العوامل، ووجود جماعات المصالح والضغط.. ويذهب الكثير من الباحثين إلى تعقد البنية الاجتماعية في الحدث الثوري، وعدم إمكانية اختزالها في العوامل الاجتماعية والاقتصادية.. ولذلك ينبغي البحث عن مولدات الحدث الثوري في النماذج المركبة المتعددة الأبعاد والمستويات، والنأي عن الاختزال والقوالب الجاهزة.

أما من حيث النماذج التاريخية لتجاريب التغيير؛ فهناك ثلاث أقاليم جغرافية شهدت بلدانها في العقود الأخيرة، تغيرات واسعة في أنظمة الحكم فيها، وهي: افريقيا وأميركا اللاتينية وأوربا الشرقية.

ففي أمريكا اللاتينية في منتصف الثمانينيات أدى انهيار قدرة الدولة التسلطية على القيام بالوظائف المجتمعية والعجز عن الخدمات العامة، وتزايد الضغوط والأزمات الاقتصادية والاجتماعية إلى ميلاد مجتمع مدني قوي وفعال، وشهد بعض مخاض عسير خروج العسكريين من الحكم.

وفي افريقيا عرفت منذ منتصف الثمانينيات ”لحظة ثورية“ عبر عنها بظاهرة“ الاستقلال الثاني“، وأخذت عملية الإنتقال من التسلطية إلى الديمقراطية صياغات متعددة؛ كنموذج النضال ضد الأبرتايز، وتحقيق دولة لكل مواطنيها، ونموذج تداول السلطة عبر انتخابات نزيهة، ونموذج العصيان المسلح، ونموذج التحول المشروط أو المقيد.

أما في أوربا الشرقية فقد أدى تفكك الإتحاد السوفياتي، إلى انبعاث ثورات ذات طابع اجتماعي واثني وقومي وديني، وقد حظيت بتأييد ومباركة الغرب.

أما الحراك العربي الديمقراطي فد عرف مسارات متعددة في مداخلها ومخارجها؛ فقد ساهم عنصر المفاجئة وأخطاء الدولة التسلطية والتوافق السياسي النسبي وحيادية الجيش وتآكل قاعدة النظام إلى نجاح نسبي للثورة في تونس، أو بتعبير أدق خلق توازن سياسي بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة، يقتضي بموجبه عدم السماح لقوى الثورة بتحقيق كامل برنامجها الثوري، وعدم السماح لقوى الثورة المضادة النافدة بالتراجع عن كامل المسار الديمقراطي..

كما أدت هشاشة التوافق المجتمعي في مصر وقوة الدولة والفلول بالإضافة إلى شدة التآمر الإقليمي والدولي، إلى تدخل الجيش والداخلية، والانقضاض على السلطة، فكانت الحصيلة إسقاط رئيس وعدم القدرة على إسقاط نظام.. أما في ليبيا فقد أدت عدة عوامل منها؛ بلاهة نظام الاستبداد المتوحش، وعنفه الدموي، بالإضافة التدخل الأجنبي والإقليمي..

إلى تعقد مسار الحراك وغموضه.. ونفس السيناريو عرفه اليمن فبالإضافة إلى تعقد البنية الاجتماعية، وانتشار السلاح وسط المجتمع ووجود تنظيم القاعدة والحوثيين والحراك الجنوبي والتدخل الأجنبي، قد تحول البلد إلى مرتع للحرب الطائفية والأهلية التي لا تبقي ولا تذر.. أما في سوريا فقد أدت الجغرافية السياسية، والبعد الطائفي والدموي للنظام، وتحويل الثورة من الطابع السلمي إلى الطابع العسكري، بالإضافة أيضا إلى التدخل الأجنبي الذي هو قاسم مشترك في كل دول الربيع العربي، إلى إجهاض الثورة وتدمير البلد.. أما المغرب فقد عرف أقل من حراك وأكبر من احتجاج ، ولم تستطع حركة عشرين فبراير المجيدة إخراج المغرب من المنطقة الرمادية وحالة الدولة الهجينة.

ولقد مثل الحراك صدمة كبرى في الوعي، فهو لم يكن صنيع النخب أو الأحزاب بمختلف أيديولوجياتها البائدة. بل ثمرة من الثورة المعرفية وأزمنتها المتسارعة، فالثورة كانت كامنة تحت الرماد، ولكن العقل السياسي العربي التقليدي لم يكن يراها، وبالأحرى أن يستطيع مواكبتها أو التخطيط لها، لذلك فمن فعلها كانوا شبابا عازفين لم تطأ أقدامهم ساحة السياسة بمعناها الضيق والتقليدي، وضاقت عليهم سبل العيش في كبسولة الزمن الماضي، وقرروا أن يخرجوا من تلك الحلقة المفرغة التي تجعل الاستقرار رهين بمنظومة الاستبداد، والتغيير والثورة رهينان بمنظومة الفتنة.

لقد تجاوز الحراك الشعبي على أرض الواقع ثنائية الأنظمة والمعارضة معا، فهو أفقد الأنظمة الاستبدادية مشروعيتها، كما تخطى المعارضة التقليدية.، وأكد على أن الشعوب العربية ينبغي أن تخوض معركة الاستقلال الثانية، للتخلص من الاستبداد باعتباره استعمارا داخليا جثم على صدرها لأكثر من نصف قرن.

لكن الجميع اكتشف عسر المخاض؛ فمعنى أن تطالب بالديمقراطية وتبدأ حراكا مجتمعيا أن تواجه الدبابة والبراميل المتفجرة والتدخلات الأجنبية السافرة وصناعة الارهاب والقوى المتطرفة، فالأنظمة عندما تنزف أخر قطرة من شرعيتها تلجأ إلى استخدام الحرب القذرة، بتحويل المعركة إلى معركة طائفية عنفية وتدويلها من أجل خلط الأوراق، وإثارت الشكوك حول جدوى الثورات.. ومعنى أن تنتصر في هذا الحراك المجتمعي هو دخول المجتمع في حالة فراغ سياسي، تصبح معه الحاجة ضرورية إلى بديل مجتمعي منظم، فنجاح الحراك لا يعني وجود بديل مجتمعي جاهز، مما يتطلب الكثير من التوافقات المجتمعية وممارسة نوعا من المرونة السياسية الذكية، والإبداع السياسي الفائق.

لكن الاستبداد والتدخل الأجنبي؛ أي الطغاة والغزاة لا ينجحون في مشاريعهم المدمرة، إلا بتواطؤ مع حفنة من المحسوبين على القوى الديمقراطية الممانعة، التي تتساقط في زمن الامتحان السياسي، كما تتساقط الأوراق في فصل الخريف.. فتعيد نشر أصواتها النشاز، وإقحام المجتمع في حروب الصراع على الغنائم، مما يسهل عمليات إجهاد المسار الحراكي.

الحراك لا سبيل أمامه للخروج من السنوات العجاف التي دخلها، بلياليها الطويلة، وشتاءها وطقسها البارد، وخريفها الجارف، إلا بوعي انتفاضي جديد، يقوم على أرضية المراجعة والنقد الذاتي، وصياغة تفاهمات تاريخية بين كل قوى الممانعة الديمقراطية، فالتغيير السياسي الشامل له ضريبة كبيرة، فينبغي في مثل هذه الظروف الصعبة، أن نلملم جراحاتنا، ونخرج من تحت أنقاضنا، وقد ملأنا جعبتنا بالكثير من الدروس التي تطور الحراك وتعقلن مساره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *