منتدى العمق

من مضايق التقليد.. إلى رحابة التجديد

إن من الآفات التي ضربت جذور المجتمعات العربية والإسلامية، وعطلت السير الإيجابي لها و عرقلت عجلة التقدم والتطور الحضاري فيها، آفة التقليد، التي طبعت جل المجالات سواء الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية و الفنية وحتى السياسية، الشيء الذي أفرز عوامل الإخفاق الحضاري المستمر ومراوحة المكان، أصبحت معه معالم الجمود والتحجر ميسما ثقافيا مهيمنا على المجال العام، وعنصرا بنيويا ثابتا في الأنساق الثقافية لهذه المجتمعات، يتجلى في صور التعابير اللغوية والأمثال المتداولة، وأنماط التربية المعتمدة، وما ينتجه المجتمع من تقاليد فكرية وفهوم دينية وقيم سلبية كابحة للتغيير والتقدم.

ويبقى إشكال التقليد منبعا للعديد من الأسئلة المركبة والمزعجة، وكل جواب يطمح إلى أن يصيب فيه؛ ويقدم أسس تجاوز التقليد ومضمراته الفكرية والنفسية والثقافية الكامنة، إلى تحقيق ثقافة بانية لقيم إيجابية دافعة للإبداع والتجديد؛ لأن مسألة التجديد في الأفكار و المفاهيم المرتبطة بشكل مباشر بصناعة الحضارة أمل كل البشرية اليوم، وهي ترتبط بمنعطفات تاريخية حاسمة ومخاضات عسيرة ومؤلمة وتحولات معقدة وشاقة، والناظر في مسلسل التاريخ و المتأمل في أحداثه، يجد أنه يفصح أن كل تلك الحركات الانتقالية ومختلف الثورات التي قادتها المجتمعات والسبل التي اتخذتها من أجل تغيير أحوالها، و النهوض بمستوى تنمية مجالاتها و أفرادها وبناء حضارة جديدة، قائمة على ثوابت متشبعة بقيم التجديد وداعية إلى الإبداع و المغامرة و الإقدام على تجربة الجديد دون تهيب ولا خوف، والتمرد على الأوهام والأغلال التي تقيد حرية الانطلاق، وذلك من أجل إبراز قوة هذه المجتمعات العربية وإثبات وجودها الحضاري في كل جانب، لتصل إلى ثمرة الفكرة التي صنعت هذه الأمة ، مؤرخة لتاريخها في كتاب أسطره من ذهب يصف تفوقها التاريخي على أزماتها وعدم استسلامها للواقع والحكم على ذاتها الجماعية بالقصور واليأس، لتواكب ركب الحضارة الكونية، و لتكون مفخرة للأجيال التي بعدها، وتحقيق إضافة نوعية للحكمة الإنسانية . ومن هنا تنسج مجموعة من الأسئلة خيوطها لنعرف أولا :ما هو التقليد ؟ وما أسبابه وسماته؟ وما الآثار الناتجة عنه؟ وإذا اعتبرنا الإتباع محمودا والتقليد مذموما. فما تجليات الفرق بينهما؟ وإذا كان التجديد هو الحل. فما مفهومه في الإسلام؟ وأين تتجلى أهميته؟ وكيف السبيل إليه؟ .

مفهوم التقليد

إن التقليد في مفهومه العام ، كما عرفه المفكر المقرئ أبو زيد الإدريسي أنه: «نسج على منهج جاهز بالاقتداء والاقتفاء والتعلق بالنتائج الجزئية التي ينتجها هذا المنهج دون الانتباه إلى روحه العامة» .

أي إن التقليد هو السقوط في فخ عبادة الوسائل، حيت يصبح المقلد ذو عقلية جاهزية تؤمن بالشيء الجاهز بالطريقة الثابتة القارة، تعمل ضد الإبداع والتجديد، وأيضا تخلط بين الغايات و الوسائل كما أنها غير مستوعبة لسنن التطور وسبل التغيير، ولذلك تجد المقلد يستأنس بالموجود وليس له الرغبة والقدرة على إضافة وابتكار شيء جديد، والأدهى من ذلك السقوط في تطبيع و مصالحة نفسية مع الواقع كما هو، و الانبهار بالنماذج التي تصل إلى درجة التقديس المعلن أو المضمر للعادات و الأشخاص و الأفكار و للآباء و القبائل و النظم الاجتماعية و الثقافية ،مما يفقد معه الاجتماع البشري القدرة على مغالبة نفسية التقليد و الثورة ضد العوائد البالية التي يستكين إليها ،وكشف الحقائق مهما كانت مؤلمة ،و مواجهة أسئلة التاريخ و الإنسان و الحضارة .

أسباب التقليد وسماته :

ولعل أهم أسباب التقليد؛ تكمن في تقديس الماضي، والانبهار بالتجارب الناجحة و المتألقة وأيضا تكمن في تعظيم الإنسان للإنسان مثل: “تقديس الآباء والزعماء والسياسيين وشيوخ الطرق الصوفية…”، وتجدر الإشارة إلى أن تقليد الإنسان إنما هو تحجر واستصنام له، فالذي يقلد حضارة أو فكرا أو إنسانا فإنما هو يعبده لأن الانبهار يستدرجك إلى التعلق، ومنه إلى الخضوع، وصولا إلى فعل العبودية، ثم إن المقلد هو إنسان غير محصن، إذا الريح مالت مال حيث تميل، فتراه تارة حداثيا وتارة أخرى أصيلا، لكنه في الحقيقة شخص منغلق متقوقع، وبتدقيق أكثر هو إنسان هش ويمكن في أي لحظة من اللحظات أن ينقلب كليا على ماهيته، ويعتبر التقليد عائقا من العوائق الذاتية فيصبح المقلد عدو هدفه و عدو هويته و خصم عقيدته؛ لأنه دائما مرتبط بما هو مادي وموجود وجاهز، حيث إن جوهر بعض الأشياء لا يحفظ إلا بالتغيير، وهذا ما نفهمه عندما نتحدث عن الثابت و المتغير، فالصواب أن المتغير أو المتحول هو متحول لخدمة الثابت حتى يبقى ثابتا.

وتجد من لا يقلد ضابطا و مستوعبا لكل ما يفعل، ويعرف غايته وسبب المسائل والأمور التي يقبل عليها، ويدرس أبعادها ويفهم مرجعها وأصل منبعها ،تجده لا يحركه عن قناعته شيء ولو كان غزوا فكريا أو طوفانا حضاريا، تجده متمسكا و مستمسكا بما في جعبته من مبادئ وقيم وأفكار وقناعات..، ونعرض هنا مثال المرأة التي تلبس الحجاب بشكل تقليدي، وتجد نفسها في لحظة ضوئية تنقلب إلى الجهة الأخرى بجرأة كبيرة، غير مبررة بمنطق معين، وغير مدركة لروح الحجاب وفلسفة الزي، ومنطقه الرمزي والروحي في التصور الإسلامي ورؤيته للعالم، وهذا يفسر لنا خطورة التقليد والخضوع دون فهم، لكن المرأة التي تلبس الحجاب باقتناع وفهم و رؤية تجديدية وترى الحجاب ثورة على نمط الإكراه، و نمط التفكير و السلوك الغربي اتجاه الحجاب في الفضاء العمومي المحكوم برؤية علمانية شاملة حسب تعبير المفكر عبد الوهاب المسيري ، فيقينا لن تخلع حجابها ولو تحت التهديد والمضايقات لأنها تفكر بالطريقة التجديدية الحرة و الواعية، فالحرية قيمة مقدسة تشتغل ضد التقليد، هي جوهر التعبد والاختيارات الدينية والعقدية في الإسلام ومختلف الأديان .

بين عتمة التقليد ونور الإتباع :

إن التقليد ليس هو الإتباع والفرق بينهما شاسع وواسع وقد عرفه الباحث في اللسانيات المقرئ أبو زيد أنه : ارتباط والتزام واع ومنفتح و مرن لمنهج عام وليس بتفاصيل وجزئيات دقيقة و صغيرة و إذا كانت هناك تفاصيل فإنها تفاصيل توقيفية قارة وثابتة في العقيدة و العبادة، جاءت من الوحي وليس مصدرها الإنسان. وقد أشاد القران الكريم بالإتباع وبين ذلك في آيات عديدة. قال تعالى :”{وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد}(1)، {واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق و يعقوب .. }(2)، {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا. وما كان من المشركين}(3)، فهذا التمييز بين المفاهيم أمر ضروري لبناء رؤية صحيحة في التعامل مع الآخر والأشياء والأفكار، فالإتباع إذا شيء محمود، قد يتبع فيه الإنسان الآخر في أشياء ويحاكي أفكارا ومناهج لكن وفق منهج واع ومتبصر، يتبع ليبدع ويركب الأفكار ويستكشف ويستوعب ماهو كائن ليتجاوزه نحو الممكن، أما التقليد فهو مذموم ومرفوض، يعطل التفكير واستخدام العقل ويشل الإرادة، وتخفت معه القدرات والرغبات، ويشكل حاجزا بنيويا يحول دون فتح مسالك الإبداع والتجديد، و بدون إبداع لا تجديد و لا تنمية ولا تقدم .

التجديد قانون الحياة :

إذا كان الكون يتجدد ويتغير وفق قوانين الطبيعة، فحري بالإنسان أن يتغير هو أيضا إلى الأفضل و الأحسن، فالتجديد يقتضي أن لا يقنع الإنسان بما هو فيه وعليه، ويستأنس بما هو جاهز و موجود ويركن إلى واقعه المعيش كما هو الشأن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي أصبح التقليد فيها ثقافة، بل عليه بالمبادرة في ترك بصمته كل حسب مجاله، والتجديد في مفهومه اللغوي يعني الجد وهي نقيض البلى، ويقال شيء جديد، وتجدد الشيء صار جديدا وهو نقيض الخلق، وجد الثوب يجد “بالكسر” صار جديدا، و الجديد مالا عهد لك به .”(4)، ومادام أن المجتمع ركن إلى التقليد فقد شاعت الخرافة والطائفية والنزعات القبلية والعصبيات المقيتة والاستبداد، واستشرت مظاهر تبخيس العقل وتغييبه، ورفض الإبداع والخوف من التحديث والاحتراز من الأسئلة والنقد، وتجريم الأخطاء، وممارسة الرقابة على كل جديد خوفا على ضياع الهوية، وهو خوف وهمي مزعوم، وفهم منغلق للهوية سقيم مذموم.

نقتصر الحديث في هذه المقالة عن التجديد في مجاله الديني و مفهومه في الإسلام، وإلا فالحديث عن التجديد عامة وفي الفكر الديني تعيينا يستوجب مباحث ومساحات أكبر من هذا الحيز، لذلك نختصر الحديث في هذا المجال بالضبط نظرا لأهميته من جهة، و خطورته من جهة أخرى، فأهميته تتجلى في حاجة الأمة إلى إصلاح ديني وثقافي، يعمل على تجديد الفهم للدين وإبداع فكر ديني مجدد ومخصب للفعل الحضاري، ومفجر للطاقات وموجه لها ومحقق للفعالية الاجتماعية للفكرة الدينية، كما تحتاج إلى بروز قيادات إسلامية متميزة تجدد للاجتماع المسلم أمر دينه، وخطر من حيث تزايد و تكاثر الآراء الضالة والمفاهيم المنحرفة التي ألحقت بالدين.

لابد لنا من التعريج على مفهوم التجديد في الاصطلاح الشرعي، تعريجا غير مسهب؛ لأن الإسهاب في هذا الموضوع، له مبحث مستقل بذاته. فالتجديد في الاصطلاح الشرعي هو: اجتهاد في فروع الدين المتغيرة المقيد بأصوله الثابتة، تجديد يقوم على العلم النافع و الاستزادة من علم الشريعة ، وتوظيف العلوم الاجتماعية والإنسانية ومستجدات الفكر البشري بما يساعد على حسن فهم وتفعيل منظومة الوحي في واقع الإنسان المعاصر، إذ الوحي هو الضابط المنهجي لحركة الفكر والسلوك، وتجديد العلوم الإسلامية، وإحياء ما غاب عن الناس من مفاهيم معتدلة و مستقيمة، وكذا إحياء ما اندرس من العمل من الكتاب والسنة، وأيضا الرد على أهل الباطل وأهل البدع وإلجامهم بالحق، وفق خطاب جديد وبناء حجاجي وعقلانية علمية مستوعبة، ثم تعديل أوضاع الناس و سلوكهم حسبما يقتضي هذا الدين، وهذا دور العلماء و دعاة الإسلام والمثقفين وأهل الخيرة المعرفية الموثقفة في كل مجالات الفكر الحديث. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها”.(5) قال المناوي : يجدد لها أمر دينها أي يتبين السنة من البدعة، ويكثر العلم وينصر أهله، ويكسر أهل البدعة و يذلهم “(6).

وقول النبي “يبعث لهذه الأمة”أي إن المبعوث لم يعد شغله و همه رهين بنفسه فقط، بل ارتقى ليقود سفينة هذه الأمة في بحر الحياة، والمقصود “بالرأس” في الحديث قال بعضهم يعني في أول السنة وقال آخرون في آخرها، ومنه ما رواه البخاري من حديث بن عمر قال: صلى بنا النبي عليه السلام العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال :”أرأيتم ليلتكم هذه فان رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد”(7). والظاهر بعدم تحديد المقصود بالرأس هو أمر مقصود لحكمة فيه، ذلك أن المجدد يظهر كلما دعت حاجة الناس إليه، ثم إن تجديد الدين أصبح ضرورة و فريضة في هذا العصر لكثرة التحديات التي تواجه الأمة، ولحجم التطورات المعرفية والعلمية في الفضاء الكوني، من أجل ضمان بقائها و الحفاظ على هويتها و الاستمرار في بناء حضارتها، فالحفاظ على أصالة الهوية لا يتم إلا بالتجديد والإبداع والثورة ضد الجمود والتقليد للأمر الواقع.

انطلاقا مما سبق يمكن الوصول إلى حقيقة مفادها أن مسؤولية مجتمعاتنا تتمثل في صنع مناخات ملائمة تساهم في تشكيل البيئة الصالحة و التربة الخصبة، لإنجاب عقل لا يحيد عن طريق الفطرة التي فطر الناس عليها، والتي من صميمها التجديد والتغيير و التطور و مسايرة متغيرات هذا الوجود، لذلك فالحاجة ماسة اليوم إلى التجديد في مختلف المجالات ونشر ثقافة التجديد في حد ذاته، عن طريق المجتمع المدني والتعليم والإعلام وباقي مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وتجاوز حالة الخوف الوهمي على ضياع الهوية، فهو خوف يقود لا إلى حفظ الهوية ولا إلى إتقان تقليد الآخر، وهو ارتباك واضطراب حضاري ينتج التناقضات والصراعات بين الأفراد والجماعات، الأمر يتطلب بناء هوية جديد منفتحة وحوارية ومرنة، تتأسس على الإبداع وصناعة المعرفة والإنجاز وتحاور الآخر وتستوعبه وتدرك مساحات الائتلاف والاختلاف معه وتفيد منه.

فالمعركة الحقيقية التي تواجه أي أمة في أي حقبة من الزمن، ليست معركة احتلال أرض، إنما هي معركة احتلال عقل وفكر، وهي ليست إحلال شعب مكان شعب، بل إحلال الفكرة مكان الفكرة، و المبدأ مكان المبدأ، و العقيدة مكان العقيدة، فالإنسان هو قوة هذه الحياة وهو دائما في تدافع ومواجهة لذاته وللطبيعة والتاريخ. ونختم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يدعوا إلى التجديد باعتباره مطلوبا شرعا فقال:”من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ،ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء”(8) ومنه أيضا ما رواه عنه أبي هريرة في حديث آخر في نفس السياق ،قال الإمام النووي :”هذان الحديثان صريحان في الحث على استحباب سن الأمور الحسنة والتجديد فيها بما يخدم مصالح العباد ويضمن لهم الحفظ و السلام، وتحريم الأمور السيئة.”(9)

الهوامش:
1)- سورة غافر/ الآية:38
2)- سورة يوسف /الآية:38
3)- سورة النحل /الآية:123.
4)- لسان العرب لابن منظور، طبعة دار المعارف مصر، جزء1 ص:(562-563).
5)- ينظر سنن أبي داود كتاب الملاحم ،باب ما يذكر في قرن المائة .رقم (3740)،وصححه الألباني في الصحيحة برقم (599) .
6)- فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي دار المعرفة 286/2
7)- رواه البخاري.كتاب العلم ،’باب السمر في العلم’ برقم (116).من حديث ابن عمر/281 .
8)- صحيح مسلم بشرح النووي .كتاب العلم ،’باب من سن في الإسلام سنة حسنة ‘، رقم (6675) .
9)- شرح صحيح مسلم ،النووي، تحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض الطبعة 2 سنة (2001م).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *