وجهة نظر

عبد المجيد الصغير والانشغال بالتأريخ للفكر المغربي

يمكن اعتبار التأريخ للفكر المغربي وتقويمه، وملاحقة مده وجزره، والبحث في بداياته، هي السمة البارزة التي تميز أعمال عبد المجيد الصغيّر، فبالرغم من تخصصه الفلسفي الدقيق الذي ينحاز لكل ما هو كوني وعالمي، فإن مفكرنا قد اختار أن يتخصص في البحث في تاريخ الفكر بالمغرب، والتنقيب في مراحل نشأته وتشكله، وإعادة تقويم مضمون هذا الفكر في بيئته وانطلاقا من سياقه والظروف التي أنتج فيها، وقد لاحظ أن هذا الفكر يعاني نقصا كبيرا، وفقرا واضحا، نظرا لقلة المصادر من جهة، ولصعوبة الاهتداء إليها من جهة أخرى.

وقد شكلت بحوثه المتنوعة حول الفكر المغربي معالم ومصادر لا غنى عنها لمن يقصد هذا المجال، سواء تعلق الأمر بالأصول أو علم الكلام أو التصوف أو الفلسفة، وهي ليست مواضيع للترف الفكري، أو لتلبية الفضول العلمي، وتسويد الورق، وإنما لبيان ما تميز به الفكر المغربي مقارنة له بنظيره في المشرق، ورصد خصوصياته، والبحث عن مصادر القوة فيه ومصادر الضعف، وقد كان المؤمل أن يتعمق لدى مؤرخي الفكر في الإسلام «الوعي بالعلاقة الجدلية الممكنة بين «العلم» والتاريخ، أي بين مضمونه الثقافي وبيئته وحقبه، فيفهم أحدهما في ضوء الآخر، غير أن التأريخ للفكر وللعلم في الإسلام انتهى في مساره إلى طريق أصبح فيه «التاريخ»، وتاريخ العلم بالتحديد، هو الغائب الأكبر»( )، «ولعل هذا الإغفال للبعد التاريخي والواقعي لحياة العلم والفكر هو الذي رسخ لدى فقهائنا إمكانية تقويم الإنتاج الفكري لعلماء ومفكري الإسلام والخوض في مناقبهم، وتفصيل إشكالاتهم المعرفية، وتدقيق مفاهيمهم ومصطلحاتهم العلمية بعيدا عن كل حديث عن ظروفهم التاريخية وأحوالهم السياسية وأوضاعهم الاقتصادية»( ).

وهكذا اشتغل مفكرنا لملء هذه الفجوة، منقبا ومحللا، وباحثا في تراث المغرب من أصول وفقه وكلام وفلسفة وتصوف، متابعا حقب هذا الفكر، وفترات مده وجزره، وبدايات نشأته وتشكله، واتجاهاته ومساراته، مؤرخا لرجاله الذين كانت لهم بصمات واضحة في رسم معالم الثقافة المغربية، ومساحات الاتفاق والاختلاف مع مثيلتها بالمشرق، ما شكل نهجا مختلفا في التأريخ للمعرفة الإسلامية التي تم تهريبها خارج واقعها، الأمر الذي فوت على الدارسين للفكر الإسلامي الفرصة لفهم علاقة رجل العلم برجل السلطة، وطبيعة الاختيارات العلمية التي تمت في فترات معينة خاصة في عصور انحطاط المسلمين السياسي والاجتماعي والفكري.

وقد اعتمد مفكرنا منهجية مبنية على «شرطين ضروريين، أولهما استقلالية الباحث عن كل الضغوط والاعتبارات الإيديولوجية، والحيثيات الظرفية التي قد تساهم في توجيه بحثه وجهة معينة، وثانيهما ممارسة أدوات تحليل الخطاب التي تمكنه من أن يميز في قراءته بين الصريح والمضمر في الخطاب الفكر موضوع الدراسة»( ).

ويمكن اعتبار رسالته للدكتوراه، «الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام، قراءة في نشأة أصول الفقه ومقاصد الشريعة» نموذجا لهذا التأريخ الذي يمتزج فيه الواقع السياسي والاجتماعي بالفكر والمعرفة، حتى ليشعر قارئ الكتاب، بغوصه في أعماق المجتمع يقلب مسالكه واختياراته، ويقارب سلطه المعرفية والسياسية في تفاعل مستمر، تتراءى أمامه مسارات النخب على اختلاف توجهاتهم وتخصصاتهم، وحركية المجتمع، بين ازدهار وتقدم، وتأخر وانحطاط، حلقات متواصلة تبعث أحداثها على الأسى والحسرة، وسجل يروي كيف استحالت المفاهيم إلى أدوات بيد السلطة تقلبها كيف تشاء، وكيف قاوم رجل العلم إغراء السلطة عبر التصدي لذلك التسيب المفاهيمي بالضبط والتقعيد.

ويمكن التمثيل أيضا، بذلك الكتاب الذي احتفى به مفكرنا، إنه كتاب يؤرخ لعلم الاجتماع السياسي المغربي، وهو كتاب «بدائع السلك في طبائع الملك»( )لابن الأزرق، والذي اعتبره محققه «أعظم كتاب في علم الاجتماع السياسي عند المسلمين»( )، يقول مفكرنا معلقا على أهمية الكتاب: «فبالإضافة إلى كونه شهادة على تكامل علم الاجتماع السياسي عند المغاربة، فهو أيضا كتاب يكشف لنا عن مصادر هذا العلم في الفكر الإسلامي عامة والفكر الإسلامي بالمغرب خاصة»( ).

ويمكن رصد أهم المعالم التي تؤطر انشغال مفكرنا بالمرابطة في مجال التأريخ للفكر الإسلامي عامة، وللفكر المغربي خاصة، من خلال التالي:

1 – جدلية العلاقة بين المعرفة والمجتمع

نهج مفكرنا في التأريخ للمعرفة الإسلامية نهجا يمازج بين فقه النص وفقه الواقع، مستثمرا في ذلك ما وصلت إليه العلوم الإنسانية في تحليل الخطاب وقراءة النصوص، وقد جاء هذا المنهج مغايرا لما درجت عليه الكتابات الاستشراقية في دراستها للفكر الإسلامي، أو ما عرف عن بعض الكتابات العربية من إسقاطات إيديولوجية أو تأويلية، وتنزيلها على التراث الإسلامي عموما، ما يجعل تلك الدراسات «تشكو من تسيب واضح في التفسير وإسقاط غريب في الفهم والتأويل، وذلك راجع إلى أسباب عدة لعل من بينها قلة وضعف الاحتكاك بالمصادر الأساسية، أو انتزاعها من ظرفيتها الضابطة لفهمها، وإخضاعها مع ذلك لرؤى جاهزة في الفم والتعليل»( )، لذلك حرص مفكرنا على ضرورة الانتباه لخصوصية المعرفة في مجتمع الإسلام، لأن «تاريخ إنتاج المعرفة وتدوينها في الإسلام هو تاريخ لذلك المجتمع بشكل من الأشكال، وهذا يعني أيضا ضرورة الالتفات إلى الواقع التاريخي كإطار يتضمن تفسيرا لنشأة المعرفة الأصولية ذاتها، لا باعتبارها تراكما معرفيا ونظريا محضا، بل كمفاهيم أطرها مناخ سياسي واجتماعي متفاعل، ساهم في بلورتها بجانب عناصر أخرى بطبيعة الحال»( )، ولا يمكن وفق هذا الطرح تجاهل العامل السياسي خاصة، باعتبار أن البحث عن الشرعية هدف تتقاسمه كل الفئات المؤثرة في المجتمع، ولأن الانخراط في عالم المعرفة لا يجعل صاحبها بمنأى عن رجل السلطة، الذي تهمه مواقف رجل العلم، فـ «كل طرق المعرفة في الإسلام تؤدي إلى السياسة( )، مهما حاول المفكر ادعاء غير ذلك، «فرجل العلم أو الفقيه هو في الإسلام من يملك معرفة تتمتع بإجماع حول أولويتها وضروريتها، مما يضفي عليها سلطة مؤثرة بكيفية» ( )، وبالتالي لا يمكن تصور رجل العلم بغير موقف يتخذه اتجاه السلطة، فمن نصب نفسه أو نصبه المجتمع مفكرا وإماما وداعية وصاحب مشروع أو رؤية معينة لا بد أن يجد نفسه وجها لوجه أمام رجل السلطة، ولا بد لمن يتصدى للتأريخ للفكر الإسلامي أن يضع العامل السياسي في الاعتبار، وقد نبه مفكرنا إلى العديد من المؤرخين الذين تناسوا أن «مشكلة الفقيه في تاريخ الإسلام تكمن في كونه، حتى لو رغب في ذلك، لا يستطيع اتخاذ موقف الحياد من مشكلة السلطة»( )، وهذا ما جعلهم يؤرخون للمعرفة خارج سياقها لتأتي الأحكام والنتائج غير دقيقة.
وهذا يعني أن لرجل السلطة دورا كبيرا في توجيه المضمون الثقافي عبر مراحل معينة، مما يسمح بإبراز تأثر ذلك المضمون بهذا العامل الذي بقدر ما كان مؤثرا في عملية الصياغة الفكرية والتوجهات الثقافية، كان بذاته إفرازا لوضع سياسي وتاريخي معين، مع أن البعض يتسرع في «إصدار الأحكام القاطعة، والتأويلات التنظيرية الكلية التي تلغي من حسابها دور التاريخ وخصوصية البيئة، فتأتي الأحكام في مثل هذه الأعمال جامعة مانعة، قاطعة كل حوار أو مساءلة عن المبررات التاريخية لتنظيراته العامة»( ).

وهذا ما جعل مفكرنا يدعو إلى تقويم ومراجعة تاريخ الفكر والعلم في الإسلام، في استحضار تام لبيئتها وظروفها، «وأن تتم هذه المراجعة التاريخية في ضوء التحليل اللغوي والدراسات المنطقية واللسانية المعاصرة، ومراعاة مقاصد الخطاب، وذلك بما يلائم خصوصية المادة المتعامل معها، والمتمثلة في تلك النصوص التي تمثل الشهادات الوحيدة عن الحدث الفكري المراد التأريخ له»( ).

لذلك شجع مفكرنا أحد طلبته، لتجلية هذه العلائق بين السياسة والفقه من خلال إعداد رسالة للدكتوراه في الدراسات الإسلامية بوجدة، بعنوان: «نحو مقاربة تاريخية للفقه السياسي: دراسة في التحولات السياسية والتكيفات الفقهية»، سنة 2000م.

2 – البدايات والنشأة

مما عني به مفكرنا أيضا، معرفة البدايات الأولى لتشكل الفكر الإسلامي، وما يترتب عن هذه المعرفة من متابعة دقيقة لتطور الأفكار، وانتقال وترحل المفاهيم عبر حقول المعرفة المختلفة. ومن شأن هذه المعرفة أن تعين في فهم التحولات الفكرية، وإمكانية قراءة تاريخ الأفكار قراءة سليمة، تصل السابق باللاحق وتعين في نهاية المطاف على قراءة الواقع، وتقديم الحلول المناسبة لقضاياه وإشكالياته.

وقد لاحظ مفكرنا أن «البحث في الأطروحات والقضايا الفكرية في الغرب الإسلامي ما يزال بحثا بكرا، ولا تزال حلقات ذلك الفكر تشكو من عدة ثغرات تتطلب الترميم وإعادة التأسيس، كما أن تاريخ الاتجاهات والتيارات السياسية في المغرب خاصة لا يزال هو الآخر يعاني من غموض ينعكس بالضرورة على معرفتنا بتاريخ الأفكار والنظريات، وتحديد خصائص ومميزات الفكر والثقافة في هذا الجناح من العالم الإسلامي»( )، فالتعرف على بداية تشكل فكر ما يعين على تحديد مصادره وروافده، كما يساعد على تتبع تطور هذا الفكر في علاقته مع محيطه، وهذا ما جعل مفكرنا يولي اهتماما بالغا بأحد كبار المستشرقين الألمان، الذي كرس أهم مؤلفاته للبدايات الأولى لتشكل الفكر الإسلامي، في القرنين الثاني والثالث الهجريين، خاصة منه الفكر الكلامي، حيث سيترجم مفكرنا محاضراته التي ألقاها بمدينة الدار البيضاء، هذه المحاضرات التي استخلصها صاحبها من مؤلفه الكبير، والذي لم يترجم منه سوى الجزء الأول حسب علمي( ).

كما لاحظ مفكرنا على أن من مميزات ثقافة الغرب الإسلامي، مقارنة بأختها بالمشرق، كونها «بدأت مكرسة لمعاني الاتباع والتقليد والحفظ والوقوف على الفروع دون الأصول، وهيمنة النزعة البراغماتية العملية المباشرة، دون الاعتناء بالتنظير والتأصيل»( ).

3 – الفكر المغربي وخصوصية البيئة

للبيئة المغربية تأثير خاص على كل ما يفد إليها من أفكار وعادات، كما الحال في أي بيئة أخرى، فبالرغم من أن الدعوة الإسلامية قد انبثقت من المشرق، فإن الطابع المغربي قد طبعها بخصوصية تميزها عن غيرها من البلدان والأعصار، حيث تنصبغ التيارات والمذاهب بصبغة مغربية، وهكذا حرص مفكرنا، وهذه أيضا سمة بارزة في انشغاله واهتماماته الفكرية، أن يجلي هذه السمة، وأن يؤصلها تأصيلا، فـ«الخصوصية» «مطلب إسلامي أصيل، بمعنى أن الحضارة الإسلامية ما كانت أبدا حضارة نموذج وحيد مفروض، مطلوب استنساخه، بل كانت الحضارة الإسلامية منذ تأسيسها القرآني حضارة قيم ومفاهيم، وليست حضارة صور وأشكال، لقد كانت حضارة الإسلام حضارة تنوع واختلاف وتكامل، ومن هنا مشروعية الحديث عن خصوصية مغربية في ظل حضارة القيم الإسلامية، تماما كما يمكن الحديث عن خصوصية فارسية أو هندية أو ملاوية داخل أمة الإسلام الواحدة»( ).

وهكذا فبالإضافة إلى بحوثه ودراساته العديدة، نجد مفكرنا يخصص كتبا بعينها لبيان هذه الخصوصية، وهي على التوالي: «تجليات الفكر المغربي»، و«خصوصية التجربة الصوفية في المغرب»، و«إشكالية الخصوصية الثقافية عند مفكري الغرب الإسلامي»، وهذا يعني أن «البيئة المغربية تأبى إلا أن تؤطر كل من يلجأ إليها بإطار عملي أخلاقي سني، تماما كما حدث قديما للمولى إدريس الأول الذي دخل المغرب شيعيا زيديا، فتحول إلى رجل سلطة سني، مع أن البويهيين، رجال السلطة المتغلبين بالمشرق، كانوا مثله زيودا أيضا، ولكن نفوذهم السياسي في بيئتهم، بيئة الخلاف والملل والنحل، شجعهم على تعميق الخلاف والصراع بين السنة والشيعة»( ).

فعند الحديث عن الفكر الصوفي بالمغرب، لوحظ طغيان السمة العملية على نشاط المتصوفة وإنتاجاتهم، مقارنة برجال التصوف بالأندلس أو بالمشرق، وقد لوحظ هذا الطابع العملي أيضا على باقي مجالات الفكر الأخرى، حتى أولئك الذين يمكن أن تند عنهم بعض الاجتهادات غير العملية، فمواقف ابن عجيبة الفلسفية والأخلاقية تعكس خصوصية الثقافة المغربية في بلورة المؤثرات الوافدة وصبغها بالطابع العام الذي يميز الفكر الإسلامي بالمغرب، كفكر يولي كبير الأهمية للالتزام الخلقي والتطبيق العملي، ويحرص أشد ما يكون الحرص على «الاقتصاد في الاعتقاد»( )، كما أن الاصطدام المسلح والعنف الذي عرفه المشرق لم يجد له صدى حتى في الفترات الحرجة، في مواجهة السلطة الفقهية أو السياسية، حيث «لم يسقط أقطاب التصوف المغربي في العنف السياسي المؤدي للاصطدام المسلح وإزهاق الأرواح( ).

لقد بقي الفكر المغربي معافى من كثير من الأدواء التي عرفها المشرق، فلم تكن بيئته مناسبة لتناسل الملل والنحل بالقوة والحدة التي كانت عليها بالمشرق، فهذا ابن حزم يسجل أن بلاده «لم تتجاذب فيها الخصوم ولا اختلفت فيها النحل»( ). وهذا صاحب «أزهار الرياض»، يؤكد على الطابع العملي، وخصوصية البيئة المغربية، التي تنفر من التنظير والتعمق الذي لا عمل وراءه، حيث انشغل العلماء «بما أخذوا فيه من مدينة العمل، وإثقال التقلل والمجاهدة، وتحري الحلال، والزهد والإقلال، عن تتبع مواد التحقيق، إلى فقد الملكة النظرية من هذا القطر»( ).

وقد استمر هذا التعاطي مع التيارات الوافدة، من خلال تبيئتها، وصبغها بالخصوصية المغربية، «بل إن رواد الحركة الإصلاحية السلفية بالمغرب، أوائل القرن العشرين، قد حرصوا أن يعطوا لحركتهم داخل التجربة المغربية طابعا من الخصوصية تميزها عن سلفية المشرق، تجعل منها لبنة جديدة لإصلاح تلك الثوابت التي تمسك بها المغاربة عبر تاريخ دوله المتتابعة»( )، حيث «أصبحت السلفية في صورتها المغربية، ليست بحثا نظريا، ولا محض كلام في العقائد، ولا رسالة في التوحيد، ولا خوضا في حوار مع المخالفين، بقدر ما أصبحت سلفية سياسية – وطنية تستمد مشروعها العملي هذا من تلك الوحدة الاجتماعية، ومن ذلك الإجماع الذي أكد عليه الفقهاء»( ).

4 – شرعية الحوار والاختلاف ورفض الإقصاء

دافع مفكرنا عن شرعية الاختلاف في الإسلام باعتباره «تجربة معيشة، بل ظاهرة طبيعية، وتجليا من تجليات الحياة الإنسانية، وآية من آيات الله الكونية؛ ومن ثم كان التقويم الأول في الفكر الإسلامي للاختلاف أنه رحمة واسعة، وليس لعنة إلهية كما طرحها الفكر التوراتي»( )، وهذا يزكي ما حفل به النص الأول في الإسلام من تيارات وملل ونحل، مع استعراض لأفكارها دون تحريف أو تبديل، فالقرآن الكريم «لم يثبت شرعية وجوده ويدافع عن اختياراته وبدائله إلا عبر أخلاقيات الحوار والنقاش، بل ربما انفرد القرآن من بين نصوص الأديان الكتابية الأخرى بذلك الحرص القوي، الذي يطبع جل آياته، على محاولة طرح اختياراته الإصلاحية عبر أسلوب الجدال والحوار ومحاولة البرهان على اختياراته وبدائله، وإقناع مخالفيه بها»( ).

ومن هنا كان لا بد من تدبير هذا الاختلاف، ومقاربته بشكل يجعله طبيعيا ورحمة للمختلفين لا لعنة عليهم، «فالإسلام يمتلك في ذاته وبحكم بيئته وخطابه الأساسي، وانطلاقا من صورته التي أتى بها إلى الوجود كمجدد وناقد ومراجع ومصحح؛ يمتلك أكثر من غيره من الوسائل والمبررات التي تجعل ممارسته «الحوار» ضرورة شرعية وأمرا مطلوبا»( ) لتدبير الاختلاف، حتى لا ينشأ عنه أي اصطدام يأتي على الأخضر واليابس، لذلك وجب « التنبيه إلى أن تأسيس المناظرة والحوار لدى علماء الإسلام، إنما بدأ لديهم بمناسبة رجوعهم الدائم إلى النص الذي أصبح «مأدبة» للمسلمين، فوجدوه مصدرا غنيا، ونموذجا ممتازا لممارسة الحوار وطرح آراء الغير ومخالفته»( ).

لقد كان «الفكر الإسلامي في فترات انبثاقه ومراحل ازدهاره قد أشاد بحق الاختلاف وكرسه كممارسة ترقى إلى مستوى الفضيلة الأخلاقية، سواء على المستوى الفقهي أو الأصولي أو الكلامي، أو الفلسفي، ووضع لذلك ضوابط أخلاقية وقواعد منهجية ساهمت في ترسيخ «أدب المناظرة» والحوار الإيجابي بين المختلفين في الرأي، وأقرت بالاعتراف المتبادل بينهم، ومدت جسورا من التواصل بين المفكرين من مختلف المشارب والاتجاهات»( )، لدرجة أن أبا حنيفة سمى علم التوحيد بـ«الفقه الأكبر»، لتأكيد نفس المنحى من خلال اضطلاع العلماء «بتعميق نفس المفاهيم القرآنية وتطوير منهجيته البديلة القائمة على الاستدلال والحجاج والحوار والجدال والمناظرة؛ وهي المنهجية التي تفرد بها القرآن الكريم، وتميز بها عن سائر الكتب الدينية قبله»( ).

وانسجاما مع هذا الطرح «حق لأبي الحسن الأشعري أن يعنون كتابه الشهير المؤرخ لتجليات الخلاف بين المسلمين بـ«مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين»، مما يوحي بأن الاختلافات على مستوى الفهم للنصوص العقدية، بعد الإيمان بها، أمر ممكن تبعا لاختلاف الناس وارتقاء مداركهم في الفهم والقراءة والتأويل»( ).

وقد اعترف أبو الحسن الأشعري، وهو من أكبر مؤرخي الفكر الإسلامي، أن تاريخ هذا الفكر يشهد قلة إنصاف الخائضين فيه وكثرة تحاملهم على خصومهم وإرادة التشنيع عليهم وقلة بضاعتهم المعرفية حولهم، يقول: «ورأيت الناس في حكاية ما يحكون من ذكر المقالات، ويصنفون في النحل والديانات، من بين مقصر فيما يحكيه، وغالط فيما يذكره من قول مخالفيه، ومن بين معتمد للكذب في الحكاية إرادة التشنيع على من يخالفه، ومن بين تارك للتقصي في روايته لما يرويه من اختلاف المختلفين، ومن بين من يضيف إلى قول مخالفيه ما يظن أن الحجة تلزمهم به، وليس هذا سبيل الربانيين، ولا سبيل الفطناء المميزين»( ).

وهذا يعني أن الاختلاف في الاجتهاد العقدي والكلامي مثله مثل الاجتهاد الفقهي تتوزعه فهوم ومذاهب دون أن يعني ذلك أكثر من وجهات النظر، وبالتالي «وجب التمييز بين العقيدة الإسلامية وبين الاجتهاد الكلامي في العقيدة، تماما كما يتم التمييز بين المقاصد الشرعية الكلية القطعية وبين المذاهب الفقهية القائمة على الاجتهاد والأحكام الظنية، وكما أنه من الخطأ اعتبار مذهب فقهي معين، وحده المعبر عن جوهر الشريعة ومراد الشارع في باب المعاملات؛ فمن الخطأ كذلك، وبشكل أقوى، اعتبار تأويل كلامي معين، دون غيره، الرأي المطابق للعقيدة الإسلامية»( ).

لكن للأسف الشديد، لم يتم التعامل في كتابة تاريخ الفكر الإسلامي بهذا المنطق، بل كان الإقصاء هو سيد الموقف، حيث عانى التأريخ لهذا الفكر، خاصة في تجلياته الكلامية والفلسفية والصوفية من عوائق إيديولوجية تجلت في «تلك الرؤى التأريخية والتأويلية القائمة غالبا على نزعة الإقصاء لكل من اعتبر خارجا عما سمي تاريخيا بمذهب «أهل السنة والجماعة»؛ حيث تم في إطار هذا الموقف الإيديولوجي إبعاد وإقصاء كل الإنتاج الفلسفي والكلامي المخالف، خاصة ما كان من هذا الأخير منتسبا إلى الجهمية والمعتزلة والشيعة، مثلما أقصي إنتاج واسع من الفكر الصوفي ذي التوجه «الإشراقي»»( ).

وقد هيمنت هذه الروح الإقصائية على جل الأعمال القديمة التي حاولت التأريخ للحركات الفكرية والاتجاهات الكلامية في الإسلام، تجلت من خلال تلك «التخمة في التقييمات والأحكام الغليظة والنزعة الإقصائية، أكثر مما عرفت استقصاء وبحثا موضوعيا للمواقف الكلامية والفلسفية والصوفية…»( )، حيث «كان معتمدها الإيمان بحتمية الافتراق والاختلاف والخوض من ثم في «إحصاء» الملل والنحل وتعيين الفرقة الناجية منها؛ كل ذلك انطلاقا من تأويل حديث افتراق الأمة( )، الذي نعلم مقدار ما يحوم حول تاريخ تدوينه ومتنه وسنده ومضمونه والزيادات فيه من شك كبير»( )، حيث نجد أن ابن حزم بعد إيراده لحديث آخر يقول: «ذكروا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة، وحديثا آخر: تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة، كلها في النار حاشى واحدة، فهي في الجنة.
قال أبو محمد: هذان حديثان لا يصحان أصلا من طريق الإسناد، وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد، فكيف من لا يقول به»( ).

وهذا ابن الوزير، يطعن في الحديث عامة، يعلق على تلك الزيادة الواردة في الحديث بقوله: «وإياك والاغترار بـ «كلها هالكة، إلا واحدة»، فإنها زيادة فاسدة، غير صحيحة القاعدة لا يؤمن أن تكون من دسيس الملاحدة، وعن ابن حزم، أنها موضوعة، غير موقوفة ولا مرفوعة، وكذلك جميع ما ورد في ذم القدرية والمرجئة والأشعرية، فإنها أحاديث ضعيفة غير قوية»( ).

وقد استشكل يوسف القرضاوي هذا النص، ففي الحديث «إشكال في الحكم بافتراق الأمة أكثر مما افترق اليهود والنصارى من ناحية، وبأن هذه الفرق كلها هالكة وفي النار إلا واحدة منها، وهو يفتح بابا لأن تدعي كل فرقة أنها الناجية، وأن غيرها هو الهالك، وفي هذا ما فيه من تمزيق للأمة وطعن بعضها في بعض، مما يضعفها جميعا، ويقوي عدوها عليها، ويغريه بها»( ).

وقد اعتمد مؤرخو الفرق هذا الحديث لتصنيف الاتجاهات وتقسيمها، وقد ظهر التعسف البالغ «في وضعهم فروقا وأصنافا داخل التيارات الرئيسية حتى يستطيعوا الوصول إلى 73؛ وفاتهم أن افتراق المسلمين لم ينته عند عصرهم، وأنه لا بد ستنشأ فرق جديدة باستمرار»( ).

لكن هذه الروح الإقصائية ستستمر في العصر الحديث، لكن بلبوس جديد، خاصة مع الاستشراق الذي كان له الفضل في الكشف عن التراث الكلامي والفلسفي والصوفي، لكنه لم يسلم من النظر إلى هذا التراث بروح متعالية، لذلك جاءت «المعرفة الاستشراقية المغلفة بتأويلات إسقاطية فرضتها إذ ذاك التوجهات الإيديولوجية للمركزية الأوروبية، حيث صارت الفلسفة في الإسلام مجرد «شرح» للعبقرية اليونانية، والتصوف الإسلامي مجرد «ثورة روحية» ضد التوحيد الإسلامي بالمشرق، مثلما صار التصوف الطرقي «ثورة»، ولكنها ثورة وثنية عرقية ضد المخزن العربي الحاكم»( ).

وهذا يعني ضرورة الحذر من العديد من الدراسات التي تتناول مذاهب وتيارات وأعلاما، لما يمكن أن يرافقها من إسقاطات وتأويلات وأحكام، لذلك أشاد مفكرنا بأحد طلبته الذي تعامل مع محيي الدين بن عربي بتجرد وإنصاف، حيث «نجح في أن يضع بين قوسين كل تلك الأحكام المسبقة التي خاضت في تقييم فكر صاحب الفتوحات»( ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *