وجهة نظر

الحوكمة.. الحلقة المفقودة بجمعيات المجتمع المدني

لم يكن مصطلح الحوكمة سائدا في مختلف القطاعات إلا في العقود الأخيرة، حيث ظل ومنذ ظهوره منحصرا على القطاع الاقتصادي وعالم المال والأسواق، قبل أن يأخذ طريقه نحو باقي المجالات لما له من أهميه في تجويد الخدمات وتطويرها وتحقيق نتائج مهمة بالمقارنة بالاشتغال بالطرق البدائية التي تجرد عمل القطاعات من العمل الرشيد، بما فيها القطاع الثالث الذي سنقف على مدى الغياب المدوي للحوكمة بمكوناته خاصة الجمعيات، متخذين من الجنوب الشرقي المغربي نموذجا.

أولا- الحوكمة:

1) مفهوم الحوكمة:

من الناحية اللغوية، الحوكمة مصطلح أجنبي Governance مشتق من الكلمة اليونانية Kubernao تعني قدرة الربان بتستير أو توجيه دفة السفينة ومهاراته في اجتياز مخاطر الأمواج العاتية والعواصف البحرية. وفي اللغة العربية فإن الحوكمة تعني الرجوع إلى تحكيم العقل وأحكام التقاليد والعرف والثقافة وأحكام الدين1

واصطلاحا فالحوكمة وفقا لتعريف برنامج الأمم المتحدة للتنمية، “هي ممارسة السلطات الاقتصادية، السياسية، والإدارية لإدارة شؤون الدولة – المؤسسة – على كافة المستويات، والتي تتضمن الآليات والعمليات التي يتم من خلالها حماية مصالح المواطنين والجماعات، وممارستهم لحقوقهم القانونية وأداء واجباتهم وتسوية خلافاتهم مع السلطات.”2

ومن الناحية الديمقراطية، فإن الحوكمة هي “أسلوب لصنع القرار يتمثل في مجموعة القواعد الملزمة والسياسات التي تساعد المواطنين على التحكم في التنظيمات الديمقراطية، بحيث يتمكنون من التمتع بالمساواة والفاعلية في المشاركة في اتخاذ القرار والمسؤولية عن نتائجه”.

2) أهمية وأهداف الحوكمة:

تكمن أهمية الحوكمة في كونها آلية من آليات ضبط العمل داخل المؤسسات، ومن شروط نجاح أداءها وتطويره بما يتماشى مع حاجيات المواطنين، والمتطلبات التنموية التي لا يمكن تحقيقها بالشكل المطلوب بدون حكم رشيد مبني على الديمقراطية التشاركية، التي تصب في مصب الحوكمة وما يدخل تحت إطارها، من احترام لحقوق الإنسان والحريات الأساسية والسماح للناس للعيش بكرامة، وأن يكون للمواطنين رأي في القرارات التي تؤثر على حياتهم، والحق في مساءلة صناع القرار، والعمل على قدم وساق لتحقيق المساواة، وعدم التمييز على أساس العرق أو الجنس أو الأصل أو الطبقة أو أي سمة أخرى 4

ومن الأهداف التي تعمل الحوكمة على تحقيقها، نذكر: تجويد وتحسين خدمات الجهة المعنية مؤسسة حكومية أو غير حكومية كانت، والمساهمة في إيجاد الوسائل الكفيلة لتحقيق أهدافها، ومتابعة أداءها عن كثب واقتراح مراجعة تعديل القوانين التنظيمية لهياكلها، وتقاسم مسؤولية الرقابة بين كافة الأطراف، والوقوف على سيرورة العمل لتدعميه بما تقتضي الضرورة، وتحل المسؤولية في حالة حدوث مشاكل تنظيمية أو مالية تهدد استقرار الكيان المؤسساتي.

3) مبادئ الحوكمة:

تتنوع مبادئ الحوكمة وتتشعب، إلى درجة تجعل من كل مبدأ موضوعا قائما بذاته، سنأخذ في هذا المقام بالمبادئ الإثنا عشر التي وضعها مركز الخبراء لإصلاح الحكم المحلي بمجلس أوربا لحكومة الديمقراطية على المستوى المحلي، وهي: 1) انتخابات نزيهة تراعي مشاركة المواطنين وتمثيلهم تمثيلا عادلا 2) الاستجابة لحاجيات وتطلعات المواطنين 3) الكفاءة والعالية 4) الانفتاح والشفافية 5) احترام القوانين والأحكام القضائية 6) السلوك الأخلاقي 7) تحسين المهارات والقدرات باستمرار 8) الانفتاح على التغيير والابتكار 9) استدامة التنمية 10) الإدارة المالية السليمة 11) احترام حقوق الإنسان والتنوع الثقافي 12) المساءلة والمحاسبة.

ثانيا – القطاع الثالث:

1) مفهوم القطاع الثالث:

بدأ تداول هذا المصطلح الذي يدخل ضمن خانة مرادفات منظمات المجتمع المدني في تسعينات القرن الماضي، وقد استمد اسمه باعتباره يأتي في المرتبة الثالثة بعد القطاعين العمومي (الحكومي) والخاص، ويمكن إجمال التعريفات التي أعطيت له في كونه جملة من مؤسسات المجتمع المدني تتشكل من “مجموعة من المواطنين الذين ائتلفوا، أو نظموا أنفسهم، من أجل دعم أو إنجاز قضية عامة أو قضية مدنية، أو مشروع عام، وتتعدد هذه المنظمات بتناسب طردي مع التركيب والتعقيد المتزايد للعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولذلك فهي تكثر في المدن بالقياس إلى المناطق الريفية، وتتحول كل هذه المنظمات تقريبا إلى مجموعات ضغط للدفاع عن مصالح مختلفة، لا يستطيع الفرد الدفاع عنها وحده في غربة الحداثة، وبخاصة في المجتمعات الكبيرة، ولكن تمثيل هذه المنظمات لمصالح عينية لا يعني أنها تمثل أنانية بالضرورة، فقد تكون المصلحة عامة في منظور بعض المواطنين، وقد يكون في تلبية مطلب مجموعة الضغط مصلحة عامة للمجتمع بأسره”5

2) أهمية القطاع الثالث:

يشكل القطاع الثالث “بما يحتويه من قطاعات ذات صلة يشكل معينا لا ينضب، ورافدا مهما من روافد الدولة وموردا من مواردها، لا يقل أهمية عن غيره، نظرا لما يناط به من مهام وأعمال وانجازات بإمكانها سد ثغرات في غاية الخطورة، ودعم موارد الدولة الأخرى بما يعمل على تحقيق التنمية المستدامة إذا ما أقيم على الوجه المطلوب، وأحسن توظيفه واستثماره”6

ومن أهم مكونات القطاع الثالث، التي تلعب دورا حيويا في حياة المجتمعات، جمعيات المجتمع المدني التي عرفت في مختلف دول المعمور انتشارا منقطع النظير، باختلاف أهدافها ومجالات تدخلها والفئات المستهدفة من برامجها وأنشطتها ومشاريعها، بما فيها المغرب الذي عرف العمل الجمعوي منذ عهد الحماية؛ وبادر إلى تقنينه تزامنا مع المرحلة الجديدة لما بعد الاستقلال، وذلك بإصدار ظهير الحريات العامة بتاريخ 15 نونبر 1958، الذي جاء ناسخا للنص الذي ظل معمولا به في ظل الحماية، وهو الظهير الصادر يوم 24 ماي 1914.

ثالثا- واقع الحوكمة داخل جمعيات المجتمع المدني

عرف العمل الجمعوي بالمغرب تطورا ملحوظا في العقود الأخيرة، خاصة بعد اعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش المملكة سنة 1999 الذي ما فتئ يحث في خطاباته على أهمية الجمعية في النهوض بالتنمية بمختلف مجالاتها، وبدوره شكل دستور 2011 نقلة نوعية في الحياة الجمعوية حيث حظي فيه الجمعيات في مجموعة من فصوله خاصة الفصل 12 بوضع متقدم يسمح لها بالمشاركة في تدبير الشأن المحلي بصفة فعلية.

إلا أنه وبالرغم من هذه الطفرة الجمعوية، حيث بلغ عدد الجمعيات ما يزيد عن 130 ألف جمعية موزعة على جهات المغرب بما فيها جهة درعة تافيلالت بحوالي 10712 جمعية؛ فإن الحوكمة تظل تلك الحلقة المفقودة في العمل الجمعوي، كما سنقف على ذلك في حالة الجنوب الشرقي المغربي.

1) مظاهر غياب الحوكمة بجمعيات المجتمع المدني:

سنتطرق إلى جوانب من مظاهر غياب الحوكمة بجمعيات المجتمع المدني بالجنوب الشرقي المغربي، انطلاقا من مبادئ الحوكمة المتناولة أعلاه، حيث نسجل ضعف أو غياب:

انتخابات نزيهة تراعي مشاركة المواطنين وتمثيلهم تمثيلا عادلا: إذ تمر أغلب أشغال الجموع العامة بدون أدنى شروط الديمقراطية المطلوبة في انتخاب الأعضاء وتأسيس أو تجديد المكاتب المسيرة.

الاستجابة لحاجيات وتطلعات المواطنين: أي المنخرطين الذي سرعان ما يجدون أنفسهم خارج أهداف وبرامج وأنشطة الجمعيات، التي تتعامل معهم بمنطق التمييز بل والإقصاء في بعض الأحيان.

الكفاءة والفعالية: إذ أصبحت الجمعيات بابا مفتوحا في وجه كل من هب ودب، في غياب الكفاءة الجمعوية والتكوين في العمل الجمعوي وما يتصل به من مقتضيات قانونية ونصوص تشريعية.

الانفتاح والشفافية: ويتجلى ذلك في انغلاق أغلب الجمعيات على نفسها، وانفراد أعضاء مكتبها المسير أو بعضهم فقط بالقرارات، وبالتعتيم في خاصة فيما يتعلق بالجانب المالي وما يتصل به من مداخيل ومصاريف.

احترام القوانين والأحكام القضائية: يتم التعامل مع القوانين ذات الصلة بالحياة الجمعوية باستخفاف مثير، يتمثل في عدم الوعي بجوهرها أو تجاهلها، وعدم الاعتبار من الأحكام القضائية التي تصدر في هذا المضمار والاستفادة منها.

السلوك الأخلاقي: حيث لم يعد لأخلاقيات العمل الجمعوي حضورا يعكس عدم توزيع الأرباح والتطوع واستثمار قدرات الأشخاص المتفقين في تحقيق الأهداف المرجوة من وراء تأسيس هذه الجمعية أو تلك.

تحسين المهارات والقدرات باستمرار: ويتجسد ذلك في عدم إيلاء جانب التكوين المستمر وتقوية قدرات ومهارات الفاعلين، لتجويد عطاء الجمعية ووضعها في قلب المستجدات والتطورات التي يعرفها العمل الجمعوي.

الانفتاح على التغيير والابتكار: ويتضح ذلك جليا في استنساخ التجارب الجمعوية والأنشطة والبرامج والمشاريع، بشكل لم يدع مجالا للشك في كون غياب التجديد في الأفكار والإبداع في العمل من العوامل التي تحول دون خروج الجمعيات من قوقعة التقليد.

استدامة التنمية: ومن تجليات ذلك عدم القدرة على بلورة مشاريع تنموية، أو الاكتفاء بمشروع تنموي واحد، بل الأدهى والأمر غياب رؤية واضحة المعالم في الشأن التنموي مبنية على التشخيص والعمل التشاركي.

الإدارة المالية السليمة: ويعتبر غيابها من أبرز النقط التي تفيض الكأس وتؤدي إلى صراعات داخل المكتب المسير أو بينه وبين المنخرطين، مما يحول دون استمرار الجمعية في العمل، أو مواصلة بعض أعضائها لمهامهم داخل المكتب أو باقي الهياكل.

احترام حقوق الإنسان والتنوع الثقافي: وهذا واحد من المشاكل التي لم تأخذ حقها في النقاش الدائر حول المشاكل الجمعوية بالجنوب الشرقي، الذي يتكون من إثنيات متعددة، لم يستطع بعضها التحرر من قيود التمييز والانفتاح على باقي الأعراق والثقافات.

المساءلة والمحاسبة: من البديهي أن يؤدي ما أشرنا إليه أعلاه، خاصة غياب انتخابات نزيهة تراعي مشاركة المواطنين وتمثيلهم تمثيلا عادلا، وعدم الاستجابة لحاجياتهم وتطلعاتهم وغياب الانفتاح والشفافية… إلى تربع المساءلة والمحاسبة على رأس قائمة مشاكل العمل الجمعوي التي تضرب حوكمته عرض الحائط.

وإذا كان أكثر من نصف الجمعيات المغربية لا تتوفر على مقر، بالإضافة إلى كون 80 بالمائة من الجمعيات تعاني من نقص في التجهيزات الضرورية، حسب ما كشفته المعطيات المتعلقة بالحياة الجمعوية الأخيرة، خاصة البحث الوطني للمندوبية السامية للتخطيط حول “المجتمع المدني”؛ فإن ذلك وبدون شك عائق يحول دون تحكيم العمل الجمعوي تحكيما يتناغم مع العمل المؤسساتي بأبجدياته المتعارف عليها.

2) سبل تفعيل الحوكمة بجمعيات المجتمع المدني:

انطلاقا من مظاهر غياب الحوكمة بجمعيات المجتمع المدني بالجنوب الشرقي المغربي، نستنتج أن هذه المؤسسات المدنية في حاجة ماسة إلى العمل على تفعيل الحوكمة في عملها لضمان استمرارها وتحقيق نتائج مهمة على الأصعدة التي تشتغل فيها، ومن بين الإجراءات المقترحة في هذا الصدد.

احترام القوانين الجاري بها العمل في الميدان الجمعوي، والقوانين التنظيمية خاصة الأساسية التي تنص بشكل صريح على الديمقراطية والنزاهة في أشغال الجموع العامة، باعتبارها هي منطلق العمل.

تسطير أهداف تتماشى مع تطلعات وحاجيات المواطنين، والعمل على تنزيلها بأمكن من الوسائل القانونية المتاحة، وإشراكهم (المواطنين/ الساكنة) في جميع مراحل تنزيل تلك الأهداف التي تعنيهم بشكل مباشر أو غير مباشر.

الحرص على العمل في ظل الديمقراطية الداخلية والشفافية المالية وآليات الحكامة الجيدة، وقطع الطريق على الانفراد في القرارات والأحادية في التصرفات، والإقصاء الممنهج أو بشكل من الأشكال.

التشبع بثقافة تتبع المستجدات التي يعرفها العمل الجمعوي، وتكثيف التكاوين والتداريب في التدبير الإداري والمالي للجمعيات وإعداد وتدبير المشاريع والحوكمة وكيفية استثمارها في تطوير العمل بشكل مؤسساتي.

تقوية وتأهيل قدرات الأعضاء المسيرين وكذا المنخرطين الراغبين في اكتساب آليات العمل الجمعوي برؤية حديثة قوامها الفهم الصحيح للجمعية باعتبارها مؤسسة ليست بمعزل في التسيير والتدبير عن باقي المؤسسات والمرافق العمومية.

الإلمام بواقع المجال وبطبيعة ساكنته على اختلاف فئاتهم وأعمارهم ولغاتهم وإثنياتهم ومرجعياتهم، وبحاجياتهم التنموية، واحترام حقوقهم وآرائهم وتنوعهم الثقافي والعرقي، وفسح المجال لهم للمشاركة في هياكل وّأنشطة الجمعية.

تحر التقنين والشفافية والالتزام بمبادئ وأخلاقيات العمل الجمعوي، بما يسمح للمساءلة والمحاسبة في أية لحظة ومع أي كان، وتقبل الملاحظات والانتقادات والتوجيهات والرأي الآخر.

ولا يفوتنا في هذا المقام أهمية استثمار مخرجات الحوار الوطني حول المجتمع المدني والأدوار الدستورية الجديدة المتعلقة بالحياة الجمعوية في تفعيل الحوكمة بجمعيات المجتمع المدني، وكذا تفعيل مقتضيات منشور المجلس الأعلى للحسابات الصادر سنة 2014 حول مراقبة استخدام الأموال العمومية من لدن الجمعيات، احتراما لمبدأ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة.

عموما فان التنظيم المهيكل واحترام المباديء الأساسية للحوكمة واعتماد رؤية ذات أهداف مشتركة، والاستفادة من التجارب الناجحة في المجال، واستلهام الجانب التنظيمي والتعاوني والابداعي من خلال الحياة الطبيعية للعديد من الحيوانات ( النمل، الغربال، الدجاج….) ومحاولة ربطها بواقعنا المجتمعي، حتما سيجدد فينا الطاقة الايجابية والتفاعلية لاعتماد الحوكمة بمختلف أساليبها للمضي قدما بالعمل الجمعوي ليلعب أدواره الأساسية بكل شفافية وأريحية.

ولعل هذا ما تطمح إليه مجموعة من الجهات الفاعلة في مجال المجتمع المدني التي تعمل على إضفاء الطابع المؤسساتي على المنظمات المدنية كمعهد الفضاء المدني الذي يدفع في هذا الاتجاه عبر تنظيم دورات عبر منصته التعليمية لفائدة الفاعلين الشباب بالدول العربية وتأهيلهم بما يتماشى مع حاجيات بلدانهم وآخر هذه المساقات كانت حول ” مفهوم ومباديء الحوكمة” .

هوامش:

1 – صبري أحمد شبلي: مبادئ الحوكمة وتطبيقاتها في دول مختارة الدنمارك ولبنان، الدار العربية للموسوعات، 2000 ص 29

2- حوكمة الجمعيات: دليل تدريبي، المجموعة المتحدة محامون مستشارون قانونيون واقتصاديون 2012 ص 6

3- نفسه: ص 6

4 – نفسه: ص 8

5- عزمي بشارة المجتمع المدني: دراسة نقدية، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط 6، 2012 ص 83

6- القطاع الثالث ودوره في تحقيق التنمية المستدامة، مجموعة مؤلفين، منشورات مركز ابن خلدون للدراسات الإستراتيجية، 2017 ص 58

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *