رمضانيات

“من الوهابية إلى الإسلام” .. لشهب: 2003 الصفعة التي أيقظتني (الحلقة التاسعة)

ضمن هذا الشهر الكريم، نعرض عليكم متابعي جريدة “العمق” سلسلة جديدة مع الكاتب خالد لشهب. يروي فيها تجربته من “اعتناق” مذهب بن عبد الوهاب إلى مخاض الخروج إلى رحابة الإسلام، بما يبشر به من قيم الجمال والتسامح والرحمة …

السلسلة هي في الأصل مشروع كتاب عنونه مؤلفه بـ «من الوهابية إلى الإسلام»، حيث يُحاول من خلال عرض تجربته بأسلوب يزاوج بين السرد والاسترجاع والنقد.

جريدة “العمق” ستعرض طيلة هذا الشهر الفضيل، الكتاب منجما في حلقات، يحاول من خلالها الكاتب نثر الإشارات التي قد تكون دافعا ووازعا لكثير من الشباب للخروج من ظلمة الوهابية إلى رحابة الإسلام عملا وظنا.

الحلقة التاسعة: 2003 الصفعة التي أيقظتني

لقد قضيت ما يزيد عن الخمس سنوات على مذهب ابن عبد الوهاب في الفروع والأصول، خمس سنوات لا تأتي بأي جديد إلا ترسيخا لأمور هي محسومة أصلا. ففي المذهب السلفي الوهابي يتوقف الزمن ويصبح الإنسان وظيفته فقط تثبيت نفسه ظنا بأمور فرضت عليه فرضا.

قبل أن تجيء أحداث الدار البيضاء الإجرامية، كان لي صديق حميم يقطن في حي قريب منا، وكنت فقط تعرفت عليه عن طريق المسجد، وبحكم تقارب السن بيننا وتشابه الطباع حصلت بيني وبينه ألفة وصداقة، رغم أنه ليس من ساكنة الحي الصفيحي.

كان اسمه عبد الله، وقد انقطعت عني أخباره لما يزيد عن العقد، وقد أنبئت أنه بعد انتقال أسرته للعيش في حي آخر قريب مرض مرضا نفسيا أذهب عقله. كان كما أذكره بحسرة راجح العقل، حسن الطباع، حلو الكلام، كريم الدار. كان صديقي هذا كلما التقيته ونجلس للمذاكرة يحدثني عن الفلسفة بحكم أنه درسها في المرحلة الثانوية، وكنت أنا ما أزال في المرحلة الإعدادية، كان يستظهر علي بعضا من آراء الفلاسفة في ما أصبح يعرف بمرحلة ما بعد الحداثة، فكانت هذه هي الشرارة الأولى التي اتقدت في نفسي وما تزال إلى اليوم، فبغير وساطة هذا الصديق العزيز الذي أرجو من الله صادقا له الشفاء، ما كنت لأتصل بالفلسفة أصلا مادام أن المذهب كان يقوم أساسا على معاداة العقل والنظر.

كنا نجلس لساعات نناقش آراء الفلاسفة، وكان بعضها يتسلل خفية إلى نفسي دون أن أشعر بذلك. وأذكر أن قول سارتر في الوجود السابق على الماهية قد أحدث في نفسي شغلا، لولا أني كنت أتحاشاه بالدعاء والتعوذ بالله من الشيطان الرجيم والزيغ والضلال، وقد استمر هذا الحرج في نفسي سنة كاملة. وقد زامن هذا أن سألني أحد الإخوة عن الفلسفة فخشيت أن يصيبه ما أصابني فقلت له: إنها مجرد ثرثرة ولعب بالألفاظ وزندقة. فقال لي الأخ السائل: وكيف عرفت ذلك؟ فزاد الحرج في نفسي.

جاءت أحداث الدار البيضاء في بداية الصيف، ولحسن حظي أني كنت انقطعت عن الصلاة في المسجد الوهابي، واخترت دونه الصلاة في مسجد صفيحي قريب منا يرتاده فقط بعض من الإخوة لا يربون عن العشرة. لقد كانت حدثت خصومة بيني وبين بعض من المتنطعين في مسألة الإمامة وبعض من المسائل العائلية الخاصة لا يمكنني البوح بها هنا للقارئ الكريم.

لقد كانت الاعتقالات بالجملة وبعشوائية كبيرة لم يحترم فيها أدنى شروط الاعتقال. كانت حملة شرسة جدا جندت لها الدولة كل إمكانياتها واستطاعت أن توهم الجميع أن البلاد في خطر، فعلمنا بعد حين أن ذلك لم يكن إلا انقلابا على توغل اليسار للعودة بالبلاد إلى زمن الرصاص بعد تثبيت أركان العهد الجديد. وكانت أيضا مناسبة للدخول في المخطط الأمريكي والاستفادة من دعمه المالي والسياسي بعد الانقلاب على الإرهاب الذي صنعوه لضرب الاتحاد السوفياتي.

لقد كان الإرهاب صناعة أمريكية بامتياز، ومن فرط غبائنا كنا نعتقد أننا جنود الله، قبل أن نكتشف متأخرين أن لم نكن إلا جند خفاء في مخططات البيت الأبيض يسير بنا حيث يشاء. هذا قبل أن يصبح الإرهاب صناعة تتقنها الدول الكبرى، حتى أصبح لكل دولة مصلحة في صناعة إرهابييها، بل إني كتبت يوما في مقال منشور على الشبكة موسوم بـ “نهاية داعش” إنه بإمكان أي دولة في العالم اليوم أن تستعمل الوصفة والمقادير لصناعة دواعشها، بل إنه في ما يتقدم من الزمن سوف لن تكون الحروب إلا على هذه الشاكلة ضربا من تحت الحزام بديلا عن الحروب التقليدية المكلفة جدا.

كنت في البيت عندما وصلني خبر التفجيرات، لم يكن لدي هاتف، وكانت وسائل الاتصال حينها ما تزال في بدايتها تقليدية ونخبوية، فالخبر تلقفته فقط عن طريق التلفاز والعائلة والناس في أزقة الحي. كان خبرا صادما بالنسبة لي، لم أتقبل مطلقا أن يتم استهداف مجموعة من السكارى والمدمنين والعاملين، لم يكن هذا هو الجهاد الذي كنا نحلم به، فقتل الزنادقة والعصاة لم يكن في أبجدياتنا. وما أزال أذكر أنه دار بيني وبين بعض الأصدقاء نقاش في الموضوع. كنت غاضبا جدا وخائفا مما حصل، ومنه بدأت تتسلل إلى نفسي الشكوك خاصة وأن الذين فجروا أنفسهم كنت أعرف بعضهم وأعرف كيف يفكرون، ولا أدري إلى اليوم كيف تم إقناعهم بذاك الفعل الشنيع.

كانوا مجموعة من الشباب الذين خرجوا للتو من الإدمان. كان أغلبهم يمارس حرفا بسيطة أو تجارة أو من دون عمل. كانوا رغم ما يظهر للكثيرين أنهم جفاة أجلاف إلا أنه حين تنظر في طبعهم قبل تطبعهم بالمذهب تجدهم طيبين وصادقين جدا. فهم على كل حال لم يجيئوا من كوكب آخر كما يصور البعض، فبإمكانك أن تتصور أي شاب مغربي فاضل بين حياة الإدمان والتيه وبين حياة التدين كما حسبه طريقا إلى الله، لتعرف من هم الشباب الذين فجروا أنفسهم.

من بين طرائف الحديث الذي دار بيني وبين أحدهم، أنه استوقفته دورية الأمن الوطني فأدلى ببطاقته الوطنية ظنا منه أن هذا كاف لينصرفوا عنه مستسمحين، كما يحدث في الدول التي تحترم مواطنيها، لكنهم فاجؤه بالقول: ” اطلع تفرشها” لأن غرضهم كان هو الوصول إلى عدد من الموقوفين وليس التحقق من الهويات فقط. لكن الذي آلمني كثيرا هو أنه بعد مرور سنتين على تفجير الدار البيضاء التقيت بعبد الفتاح الرايضي وقد خرج من السجن قبل أن يقدم على تفجير نفسه في مقهى النت، التقيته وكانت حالته النفسية مؤزمة جدا حتى إنه لا يقدر على رفع رأسه للسماء كثيرا، فكان من بين ما علق بذاكرتي بعد أن اطمأننت على أحواله قوله بحسرة: (فتنوني آخويا خاليد أعداء الله فتنوني). لم أفهم بالضبط ما كان يقصد حينها قبل أن يطلعني أحد المقربين منه أنه حكى له عن أصناف من العذاب كان أكبرها على نفسه إجلاسه على القنينة.

كانت علاقتي بعبد الفتاح كعلاقتي بجميع الإخوة، بل إني كنت أعرفه قبل أن يختار طريق التدين، كان مراهقا منحرفا على طريقة المراهقين في الأحياء الصفيحية في الطبقات الدنيا، ومما أذكر أنه كان يحلق رأسه ويكتب عبارات بشعره تمجد شعار المملكة. كانت أسرة عبد الفتاح تعاني الفقر الشديد بينما كانت علاقته عبد الفتاح بأبيه متوترة جدا، على اعتبار أن أباه كان مدمنا على المسكرات وكان هذا لا يعجب عبد الفتاح مطلقا، فكانت تقع بينهما خصومات متكررة. قال لي يوما غاضبا: (والله كون ما كان الواليد حتى نغيز ليه). وقد أعلمني أن إساءة الأب للأم والأبناء كبيرة، حتى إنه امتنع عن تعليم أبنائه الحرفة التي يزاولها نكاية بهم وبأمهم.

كانوا شبابا طيبين غالبا، وما يجمع بينهم هو ماضيهم البئيس الذي فرض عليهم اختيار طريق التدين هربا من الانحراف. وأنا إلى اليوم وقد قطعت ما قطعت في نقد السلفية الوهابية والفكر الديني عموما ما يزال قلبي طاهرا اتجاه شباب طيب كان من الممكن أن يكون غير الذي اختير لهم، وربما هذا من أكبر الدوافع التي جعلت علاقتي بالمذهب الوهابي سيئة جدا، لكن علاقتي بالتدين حين بفهم بمقاصده الإنسانية أمرا رائعا. فأن تكون متدينا معناه أن تكون قد اخترت طريق الله، لكن للأسف هناك من شاء لهذا الدين أن يكون فقط أداة لكل قبيح، فنسأل الله العفو والعافية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *