رمضانيات

“من الوهابية إلى الإسلام” .. لشهب: هكذا عشت متاهات مابعد 2003 (الحلقة العاشرة)

ضمن هذا الشهر الكريم، نعرض عليكم متابعي جريدة “العمق” سلسلة جديدة مع الكاتب خالد لشهب. يروي فيها تجربته من “اعتناق” مذهب بن عبد الوهاب إلى مخاض الخروج إلى رحابة الإسلام، بما يبشر به من قيم الجمال والتسامح والرحمة …

السلسلة هي في الأصل مشروع كتاب عنونه مؤلفه بـ «من الوهابية إلى الإسلام»، حيث يُحاول من خلال عرض تجربته بأسلوب يزاوج بين السرد والاسترجاع والنقد.

جريدة “العمق” ستعرض طيلة هذا الشهر الفضيل، الكتاب منجما في حلقات، يحاول من خلالها الكاتب نثر الإشارات التي قد تكون دافعا ووازعا لكثير من الشباب للخروج من ظلمة الوهابية إلى رحابة الإسلام عملا وظنا.

الحلقة العاشرة: متاهات مابعد أحداث 2003

بعد الحملة الأمنية والإعلامية الواسعة كان المظهر السلفي مستهدفا. وأنا بحكم حرصي على الزي الوهابي كنت أشعر بالحرج الشديد من نظرات الناس الذين كانوا يرمقونني بأبصارهم متهمين. لقد نجح الإعلام الموجه في التسويق لأطروحة القائمين عليه، ووصل للهدف الذي يجعل العوام والهوام ينظرون لأي متمظهر بالدين على أنه يهدد أمنهم العام، حتى إن الجرائد كلها كانت وظيفتها فقط تصديق وتبرير روايات الداخلية، ولا بصيص في جريدة يقول العكس أو على الأقل يشكك أو يدعو للتحقيق والمحاكمة العادلة.

لقد اتفق الجميع ودخل الجميع في حالة طوارئ سمحت للمخزن بتجاوزات لم يسبق لها مثيل في التاريخ المغربي المعاصر. كانت الأمور مخيفة جدا حين تسمع الحكم بالإعدام والمؤبد على شباب كنت أعلم يقينا أنهم لا ناقة لهم ولا جمل في ما حدث، لقد كانت المحاضر جاهزة والتحقيق شكلي غايته فقط إيهام الرأي العام وخدمة أجندات سياسية حقيرة.

كنت مضطرا في هذه الظروف لإخفاء هويتي، خاصة وأنه لم يكن لدي شعر على وجهي لأني كنت في بداية الشباب، فكانت هذه هي الخطوة التي جعلتني أخرج شيئا فشيئا من القوقعة الوهابية؛ حيث أنه عندما تخليت عن المظهر السلفي خالجني شعور غريب وأنا أمشي في الشارع العام، فكانت هذه أول مرة بعد سنوات أحس فيها أني واحد من الناس.

لقد كان صيفا ساخنا لن أنساه ما حييت. أذكر أنني كما هي عادتي عند الانتهاء من الدراسة أحترف بيع العصير في عربة مدفوعة أستقر عند حمام شعبي في واحدة من الإقامات القريبة من الحي الصفيحي. وأذكر أنه بالقرب من الحمام كانت تقطن فتاة تصغرني بسنة أو سنتين، كانت ترمقني بنظرات جهيضة في كل مرة، كانت تصطنع الأسباب لتمر من أمامي مرات يوميا على أمل أن أنبس ببنت شفة، لكن هذا لم يحدث مطلقا لأني كنت ما أزال على عهدي بالتدين وكانت هذه الأمور بالنسبة لي غريبة ومشينة. كان يغلب على سلوكي الخجل والحياء، فلا أقدر على مبادلتها النظرات حتى أساءت بي الظن.

لقد ساهم التخلي عن الزي السلفي والتخلص من نظرات الناس في إعطائي شيئا من الحرية، فبدأت سلوكاتي تعود لطبعها شيئا فشيئا، فاسترقت النظرات وولجت الملاهي الشبابية التي طلقتها مذ صباي يوم كنا نبيع المتلاشيات لنوفر دراهم اللعب في جو ممزوج بدخان السجائر الرخيصة. كان هذا الشعور بالنسبة لي وأنا في بداية مراهقتي شيئا غريبا، حيث تختلط الرغبة في الاستمتاع بدوافع الخوف والرهبة من الله، ففي تلك المرحلة كنت ما أزال مخلصا للمذهب وكنت ما أزال أحتفظ بكامل اعتقادي وانتقادي السطحي للواقع المادي، أعتبر نفسي مفتونا وأطلب من الله الهداية والتبات. لكن علاقتي بالدين حتما بدأت تسوء.

ومن أجل أن أتدارك الموقف لأنه بعد هدم المسجد الوهابي انقطعت عن الصلاة في المساجد. فكنت مضطرا لأن ألج مسجدا في إحدى الإقامات السكنية بالقرب منا، والذي كان إمامه متحزبا ويمارس السياسة وسبق أن شغل منصب رئيس الجماعة لسنوات، هذا الإمام كان الاعتقاد عندي وعند جميع الإخوة أنه لا تجوز الصلاة خلفه لأنه منخرط في عملية سياسية وضعية كافرة… صليت المغرب ثم جلست بعدها لقراءة الحزب مع الجماعة، كنت أقرأ من غير مصحف لأني كنت قد سلكت سلكة من قبل، وكانت هذه بادرة طيبة بالنسبة لي لأبقى على اتصال بالحفظ. فداومت على الصلاة هناك وكنت أحضر باستمرار لدروس التجويد التي كان الإمام يقيمها هناك.

وقد صادف هذا العام إقامة مسابقة لحفظ وتجويد القرآن بالثانوية، ففزت بالمرتبة الأولى وتم إهدائي مبلغا ماليا ولباسا مغربيا جلبابا وطربوشا أحمر، فخالجني شعور غريب جدا لأنه هذه أول مرة أرتدي فيها هذا اللباس، فالزي الديني الذي لازمني طويلا هو الزي الإسلامي بأشكاله المصرية والسعودية والأفغانية.

ليس من السهل أن ينفلت المسلم من مقولات ابن عبد الوهاب، فهذا يحتاج لسنوات من البحث والتقصي، وهو على كل حال ليس ممكنا للجميع، خاصة وأن المواقع والأجوبة الدينية على النت غالبها وهابية. فنسبة توغل الوهابية داخل المغرب تزيد عن الثمانين في المائة تراكمت عبر عقود فلم يعد باستطاعة الوافد الجديد أو العامي أن يفرق بين ما هو إسلامي خالص وبين ما هو وهابي سطحي، إذ أن ذلك يتطلب معرفة بالتاريخ وبأصول الدين، حتى تجعل المسلم قادرا على التفريق بين الأحكام والمخرجات الفقهية المؤصلة وبين ظاهرية شيوخ الوهابية القاصرة.

فالوهابية من شدة خطورتها تتعدى المتدين المتمظهر إلى غير المتمظهر، بل تتعداه حتى إلى الشباب الذي أعلن خروجه من الدين أصلا، وكم ناظرت منهم فحاجوني بمقولات الوهابية فرددتها عليهم فاستاؤوا، وصرحوا أن الوهابية هي التجسيد الحق للدين. وهذا من الجهل البئيس.

وأنا أستطيع أن أفهم هذه الأمور جيدا بمقاييسي وانطباعاتي الشخصية. فمثلا لو دخلت مؤسسة عمومية أو خصوصية وطرحت بعض الأسئلة على التلاميذ والأطر في ما يتعلق ببعض الأحكام الدينية والموقف من الآخر والنظرة للعالم، فإنك ستلفي أن الغالبية لا يخرجون عن ما تقرره حماقات الوهابية. وحتى في تجاربي في التعليم أستطيع أن أدرك هذه الأمور، لما أدعوا الناشئة لملء فراغاتهم بممارسة هوايات مثل الرياضة والقراءة والرسم والموسيقى، غالبا ما تتعالى الأصوات اعتراضا على فعل الموسيقى بدعوى أنه حرام، وهكذا في تصحيح النظرة للآخر والعالم.

ولهذا كان الخروج من الظلام بالنسبة لي أمرا متعسرا، وحتى وأني خرجت ظاهرا لم أستطع هزم مقولات الوهابية في نفسي باطنا، وكنت أفكر باستمرار في أني يجب أن أعود للمذهب، حتى وأني أستمتع بحريتي. وهذا الشعور هو ما يخالج غالب الشباب الذين حتى وهم منغمسون في الملذات ينظرون للتوبة بمنظور سلفي وهابي يابس. فالخروج الحق لا يكون إلا بالعلم والمعرفة والتأصيل وإلا فإنه دافع نحو الضنك والوسواس.

يُتبع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *