وجهة نظر

مدخل حقيقي للإصلاح.. محبة الأستاذ

تطور الإنسان وتطورت معه مقاربات التدريس وطرائقه وتنوعت أساليبه، لكنها كلها مجمعة على ضرورة تخريج المواطن الصالح الذي يتشبع بقيم الجماعة ويعيش من أجلها وينافح عنها.

جميل أن نسمع مثل هذه الخطابات من مسؤولين ومؤطرين وخبراء تربويين؛ جميل أن نسمع منهم أن المثلث البيداغوجي قد أعطى الأولوية – في ظل تقلباته التي فرضتها طبيعة المجتمعات وتقدم البحوث البيداغوجية – للمتعلم والمتعلمة؛ فأصبحت كل السياسات تخدمهما وتدعو إلى صون كرامتهما.

سأتحدث لكم يا سادة من فيض تجربتي في القسم مدرسا، ثم من شذرات تجربتي في الميدان مشرفا ومؤطرا تربويا أتعامل بشكل مباشر مع الأساتذة باختلاف أجيالهم وثقافاتهم وتكويناتهم بل وطبائعهم أحيانا.

في القسم؛ لا يمكنك أن تعطي ما عندك وأن تحرك في المتعلم نوازع الشغف بالعلم ومحبته لذاته إلا إذا كنت تحب مهنتك أولا، وتحب هذا المتعلم الجالس أمامك كل يوم، تحبه مثلما تحب أبناءك تماما، وهذا ما يجعلك تكرس ساعات طوالا للإتيان بكل جديد ينفعه في مساره ويعزز قيمه ومعارفه ومهاراته.

حينما أصبحت مشرفا تربويا كنت أظن أن ذلك الدفق العالي من المحبة سينقص لأنني أتعامل مع أساتذة برابط مهني صرف، لكن صدقوني وبدون أدنى مبالغة: لا يمكن أن ينجح لا الأستاذ ولا المشرف ولا الإدارة إذا كانت جذوة تلك المحبة منطفئة، إذا كان ذلك الدفق من المحبة متدهور الصبيب وفي حاجة إلى علاج عند طبيب.

عندما تحب هذا الأستاذ فإنك تبذل ما تستطيع من جهود لتقرب إليه ما استجد من أفكار ونظريات فتصير عنده قابلة للتحقيق والتفعيل، تستشعر وأنت تقلب مئات الصفحات من الكتب أنك لا تقرأ لذاتك، وإنما تقرأ بعقول العشرات من الأساتذة، لتجيب لكل واحد عن إشكالاته، فتصبح بذلك أمة في القراءة وأمة في المحبة، لأن القراءة محبة للمقروء ومحبة لثمرة المقروء وهي البيان للإنسان من أجل أن يتفاعل الوجدان وينعكس على الأركان.

إن محبة الأستاذ عندي تشبه خمرة العشق عند السادة الصوفية، فهي محبة خالصة لا تقصد ما يفنى وإنما تروم ما يبقى؛ والباقي هو الباقي.

هذه التجربة البسيطة أيها السادة أكدت لي حقيقة كبيرة وملفتة للانتباه؛ وهي أن لا إصلاح بدون محبة الأستاذ، محبة تأتي من فلذات أكبادنا توقيرا واحتراما وتشريفا للأستاذ، وإنما يكون ذلك في أهم صوره من خلال غرس تلك المحبة في الأسرة عوض أي تربية لهم على ما يخالف ذلك، وتأتي من الإدارة توفيرا لأجواء العمل المناسبة، وتأتي من الوزارة بفتح صنابير رد شيء من الحقوق المهضومة للأستاذ، حقوق بشتى أطيافها وألوانها المادية والمعنوية؛ ذلك أن الأستاذ قد لا يكون بحاجة إلى مزيد من الدريهمات لترقية مستواه المعيشي بقدر ما يكون محتاجا إلى الروح المعنوية والهمة العالية والالتفاتات الرمزية.

ولا يكون ذلك إلا بالاشتغال على زوايا متعددة إن شئنا لنشئنا أن يكون في مستوى التطلعات المستقبلية القيمية منها والعلمية؛ ومن تلكم الزوايا:

⦁ العناية الإعلامية بصورة الأستاذ: وذلك بتصحيح الصور المنفرة من أشرف المهن والتي تتخذ من الأستاذ محطة للسخرية وغيرها، هذه الصورة إذا لم تصحح بالبرامج الهادفة والأفلام المتميزة فستسيطر الرداءة على واقعنا أكثر مما هي عليه الآن.

⦁ تخصيص وزارة الأوقاف مساجد المملكة بخطب منبرية رصينة رافعة من قيمة معلم الناس العلم والخير، فمنبر الجمعة بإمكانه أن يحدث تحولات جمة في هذا السياق، خصوصا وأننا في بلد يوجد به أكثر من خمسين ألف مسجد، فما بالك بعدد المصلين في الجمع.

⦁ اشتغال المجتمع المدني على هذه النقطة بشكل يعزز قيمة حب الأستاذ وتقديره؛ وقد بدأت بوادر هذا العمل التطوعي الناضج والراقي تبرز في أنشطة بعض الجمعيات المهنية والعمومية. والمطلوب هو مزيد من تكثيف الجهود في مستقبل الأيام والسنوات حتى تصير محبة الأستاذ وكأنها من المقدسات؛ وأحسب أنها أقرب إلى ذلك.

⦁ اتجاه الوزارة والدولة عموما نحو سياسة التوازن والمقاربات التربوية عوضا عن المقاربات الزجرية في معالجة مشاكل العلاقة بين المتعلم وأستاذه؛ لأن مثل تلك المعالجات الزجرية لا تزيد الطين إلا بلة؛ مما نرجو له جميعا أن ينقص من مجتمعنا كثقافة العنف والهدر المدرسي وأشكال التمييع في المشهد المدرسي والحياة وسط وخارج المؤسسات التربوية.

⦁ نهج وزارة الثقافة لسياسات تخدم هذه النقطة، وهنا يمكنها أن تبدع أفكارا كثيرة؛ كفكرة أفضل كتاب في السنة من إنتاج الأساتذة كل في مادته وتخصصه، وكفكرة جائزة أفضل مؤسسة في السلوك المدني والقيم المدرسية؛ وغير ذلك من الأفكار التي ستعطي لهذه الوزارة أدوارا جديدة وفلسفة تشاركية في بناء قيم وثقافة الأجيال الصاعدة.

هذا غيض من فيض أفكار كثيرة يقع على عاتق الأفراد والجماعات والدولة بكل دواليبها تصحيحها لإرجاع شيئ من بريق المحبة وإكسير الرحمة لمربي الأجيال؛ الأستاذ والأستاذة اللذين اختارا مهنة من أصعب المهن لتربية جيل في ظروف اجتماعية تزداد تعقدا يوما بعد يوم.

فهونوا على آبائنا وأمهاتنا من رجال التعليم لأنهم بوصلة الإصلاح، وعلى أكتافهم مر الجميع، فلنقوِّ تلك الأكتاف وإلا انهار الكيان وتضعضع العمران، وآنئذ لا عمران ولا إنسان.

* مشرف تربوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • إبراهيم
    منذ 6 سنوات

    أستاذ: أستخلص من مقالتكم نقطتين محوريتين: التقدير - الاختيار [لإرجاع شيئ من بريق المحبة وإكسير الرحمة لمربي الأجيال؛ الأستاذ والأستاذة اللذين اختارا مهنة من أصعب المهن]. عندما كان رجال التعليم يضربون، كان ذلك لهدفين: الاستجابة لمطالبهم، ثم الدفاع عن قضايا المواطنين. وهذا ما كان يزعج السلطات، فانبرى ادريس البصري آنذاك [بصفته وزير الداخلية ووزير الإعلام] إلى التهجم على أطر التعليم وتشويههم إعلاميا بمشاركة مشبوهين. أما النقطة الثانية: الاختيار. فقد صار من الصعب تحققها حاليا. فالمضطر للبحث عن لقمة العيش، لا يهمه الشغل الذي سيوفرها له. فإذا استطاع النفاذ إلى ميدان التعليم كان ذلك باضطرار، وكلنا يعرف أن فاقد الشيء لا يعطيه. أفضل وصف "المربي" بالنسبة لأي منخرط في مجال التعليم. ولا يمكن نيل شرف هذا الوصف إلا بحب المهنة والإخلاص لها .. بعد التسلح بالتكوين المعرفي والبيداغوجي والديداكتيكي .. لممارستها. مع تقديري ومودتي