وجهة نظر

بنغازي كما رأيتها.. حب ولا حرب

دُعيت مطلع هذا الشهر للمشاركة في امتحانات الزمالة الليبية لأمراض النساء والولادة في مدينة بنغازي. كانت الدعوة التزامًا مهنيًا، لكنها، وكما يحدث دائمًا في هذا البلد العزيز على قلبي، سرعان ما تحوّلت إلى شيء أعمق: كانت فرصة سانحة للقاء إخوة ليبيين، لا يزيدني تكرار زيارتي لهم إلا اشتياقًا مضاعفًا إليهم وإلى بلدهم.
وفوق ذلك، فقد كنت متشوّفا منذ زمن لزيارة هذه المدينة، التي طالما سمعت عن روحها الأخاذة و جمالها الآسر.

والحق أن هذه لم تكن المرة الأولى التي أطأ فيها أرض بنغازي؛ فقد مررت بها مرورًا عابرًا قبل عام، حين كنت قاصدًا مدينة البيضاء — مدينة عمر المختار — للمشاركة في امتحانات البورد العربي. لكني دخلتها ليلًا وغادرتها ليلًا، دون أن أحظى منها بنظرة أو لحظة تأمل.
ضيق الوقت وظلمة الليل حالا بيني وبين رفع خمارها لأظفر بلحظة عشق حقيقية.
أما هذه المرة، فقد جئتها حازمًا أمري، ومصممًا على أن أتملى طلعتها، وأجوب شوارعها، وأتأمل شطآنها، ولو اختلسْتُ تلك اللحظات اختلاسًا.

صديقي الدكتور ميلاد القهواجي، الذي التقط شغفي بالمدن الليبية، رتّب لي جولة خاصة، ووضع رهن إشارتي مرافقًا من درجة طبيب اختصاصي.
كنت أخطط أن أرى بنغازي من نافذة السيارة؛ فثلاثة أيام لا تكفي لمعرفتها سيرًا على الأقدام، ناهيك عن التفاعل العميق مع سكانها. ومع ذلك، أقول بثقة: يكفي أن تُطل على الليبيين حتى تنجلي أمامك بهيةً رائقة صورة هذا الشعب الكريم والمضياف.
إنه شعب يمنحك مفاتيحه منذ اللقاء الأول، بل من الوهلة الأولى.

أسارير الليبيين تتهلل وتتفتّح لك في لحظة، فتشعر كأنك ابن دارهم الغائب العائد من سفر طويل: تعانق أحدهم وأنت تشد على يد الآخر بحرارة، بينما ترسل التحايا لثالث بنظرة وعينين تومضان بودّ. نعم، يحدث هذا في آنٍ واحد، ويقع لي دائمًا في ليبيا، ولا يحدث لي في غيرها.
الليبيون شعب صادق في مشاعره حتى النخاع. إن أحبّك، أحبّك بحرارة، وبذل لك نفسه، وإن كره فيك خُلقًا أو شيمة، لم يوارِ ولم يصانع.
وأنا أحبهم أساسًا لهذه الخَصلة.

إنهم، في مزاجهم وطباعهم، أقرب شعوب المغرب العربي إلى المغاربة. ولذلك، حين يتشعّب بك الحديث معهم، تجدهم يبوحون بأصدق الوجد تجاه المغرب، حتى إن بعضهم يتحسّر لكون لا حدود تجمع بين البلدين.
لهذه الدرجة يبلغ حب المغاربة في نفوس الليبيين. ونحن، من جهتنا، نبادلهم حبًّا بحب، وشوقا بشوق، ونشعر بين ظهرانيهم أننا لم نغادر وطننا قط.
لم أشعر بالوقت يمرّ، وأنا قادم من الدار البيضاء عبر مطار قرطاج، حتى حطّت بنا الطائرة في مطار بنينا.
رأيت فيه أشغالًا مكثّفة لتوسيعه، ففهمت أن بنغازي قد استقبلت الحياة من جديد، وقررت أن تدلف إلى زمن آخر تستعيد فيه هويتها كمدينة سياحية من الطراز الرفيع.

يبعد المطار حوالي 25 كيلومترًا عن وسط المدينة، كما أخبرني مضيفي، وهو يقودني نحو الفندق، وكان يتحدّث بحماس كأنه يريد أن يفيض عليّ بكل أخبار ليبيا دفعة واحدة.
قال لي إن الدم الذي يجري في عروقه مغربي، وأراني صورة لجده بلحية بيضاء تشبه لحية عمر المختار كما جسّده أنطوني كوين. قال إنه جاء من فاس.
وحين سألته: هل زارها؟ أجاب: “لم تتح لي الفرصة، لكني أحبها حبًّا جمًّا.”
لفاس مكانة خاصة في نفوس الليبيين.
أذكر أني حين زرت مصراتة، قوبلت بنفس الاحتفاء عند مقام الولي المغربي أحمد زروق سليل فاس ، وحين علم القائمون أني ترعرعت بفاس، بدت عليهم فرحة غامرة. فأحمد زروق وليّ هذه المدينة، حتى إن هناك حيًا كاملاً يحمل اسمه، وسكان مصراتة يحبّون فاس حبهم لوليّهم هذا.

مثل هذه المشاعر الفيّاضة تجعلك، أينما توجّهت في ليبيا، في شرقها أو غربها، تحسّ أنك بين مغاربة.
ألا تبًّا لهذه المسافات والحدود البليدة الظالمة، التي تفصل الأشقاء عن بعضهم البعض!
نفس السحنات، نفس القسمات، نفس اللهجة، ونفس المزاج… تجدهم هنا كما تجدهم في المغرب.
حين خرجت إلى بنغازي في صباح اليوم التالي، وجدت مدينة ذات روح وثّابة، وكاريزما طاغية، تأسر القلب، وتدعو إلى حبها.
بل إنها من نوع المدن التي لا تترك لقلبك خيارًا إلا أن يهوي إليها.
قال لي صديقي الدكتور إسماعيل مثلًا شائعًا عن بنغازي: “بنغازي رباية الدايح.”
بمعنى أنها حتى ذلك الشخص المتردّد، الذي لا يعرف أين يستقر، تُغريه بنغازي وتحتويه.
ثمة سرّ أودعه الله في هذه المدينة، ولذلك، لا أستبعد أن أكون يومًا من سكانها.
ربما يظن البعض أنني أغالي في التغزل بهذه المدينة، أو أتزيد في وصف مشاعري، لكن الحقيقة أنني أتحسّر لكوني لا أملك قاموسًا عربيًا يليق بوصف مفاتنها وروعتها… قاموسًا يليق بالأثر العميق الذي تركته في قلبي.
كان دليلي الطبيب أكرم، يسمي لي الأماكن التي نمر بها: منطقة بلعون، الفويهات، شارع جمال عبد الناصر، شارع عمرو بن العاص، حي الحدائق…
لكنني كنتُ مشغولًا عن الأسماء بمعاينة الحياة التي تتدفق من الشوارع والأرصفة…
إنها مدينة تضج بالحيوية، تنبض بالحياة، يشع منها دفء خفي يلف القلب.
بنايات فخمة، أحياء نابضة، أوراش في كل مكان، وجادات تترصّف على جانبيها أرقى المتاجر التي تزدان بأشهر الماركات العالمية.

كل ذلك يُشعرك أنك في حضرة مدينة عالمية غارقة في العراقة.
مدينة متمرّدة على الرتابة، لها سحر خاص، ودلال مختلف، ونكهة تميّزها عن نظيراتها من المدن.
اينما تحل بها ،تُفصح لك عن رقيّها، وسموّها، ونُبل محتدها.
خلال إقامتي القصيرة، قصدنا مطاعم فاخرة كثيرة، حتى خيّل إليّ أنني في باريس أو روما.
بل في الحقيقة، من أين لباريس بأجواء مطاعم بنغازي الفخيمة؟
ما يروق لك هناك ليس الطعام فحسب، بل الإيتيكيت الذي يتشبث به روّادها من الليبيين والليبيات:
أناقة في الملبس، بهجة على الوجوه، إقبال على الحياة، إشراقة على المُحيّا، وكأنهم يستدرِكون ما فات من سنوات الشدة، ويستردّون الزمن الضائع، متفائلين بغدٍ أجمل لا محالة.

هكذا رأيت بنغازي.
وكذلك لمحتُ البيضاء، وطرابلس و مصراته …
فيها جميعًا عزيمة لا تلين، وإصرار لا يضعف، على أن تنهض ليبيا من جديد.

الليبيون يعرفون تمامًا ما يجب أن يفعلوه لصالح وطنهم.
كلّهم يريدون ليبيا قوية، مزدهرة، وموحّدة، بشرقها وغربها.
وقد أسرّ لي بذلك الجميع، على اختلاف مشاربهم ومناطقهم.
بل هم يجاهرون بذلك، ويعضّون على وحدتهم بالنواجذ.

ليبيا وطن واحد، ومصير واحد.

ولا غرابة في هذا!
أليست ليبيا البلد الوحيد في العالم الذي يمكن أن يُقرأ اسمه من اليمين أو من اليسار، فإذا به دومًا: ليبيا؟
أليست هذه إشارة رمزية ربانية إلى أن قدر ليبيا هو الوحدة أولًا… والوحدة أخيرًا؟

وفي الامتحانات التي جرت بمركز بنغازي الطبي، كان التنظيم محكمًا، والحماس ظاهرًا، والشفافية حاضرة، والصرامة العلمية واضحة.
وكان صديقي البروفيسور عبد الرحمن الشارف، ينسّق ويشرف على كل هذا الجهد، بمعية كوكبة من الكفاءات الليبية الرصينة:
د. ميلاد، د.فورتية د.بوسريرة، د. نورية، د.مصطفى، د بولقمة،د نادر …الخ
لكن الأجمل من كل ذلك، أن كل مناطق ليبيا كانت ممثّلة في المترشحين والمترشحات: من طرابلس، الزاوية، درنة، أجدابيا، وبنغازي… وغيرهم.
لجنة الامتحان كانت مختلطة، جمعت بين أساتذة ليبيين وآخرين من دول عربية، وكنتُ من بينهم، أمثّل المغرب.
وكان بالإمكان أن تقتصر على الكفاءات الليبية وحدها، لكن الليبيين أرادوا أن يمنحوا امتحاناتهم الوطنية بُعدًا قوميًّا،
وهذه الروح الوحدوية النبيلة التي يوجّهونها نحو الأمة، إنما هي تعبّر عن رفضهم لأي تقسيم أو تفتيت.

فمن تسكن الأمة قلبه ووجدانه، يستحيل عليه أن يجزّئ الوطن.
ويَقيني، وقد عركت الليبيين وعركوني، وجلست إليهم وخبرت حبهم لوطنهم،
أن ليبيا ستظل، مهما طال الزمن:
شامخة، أبية، وفية لتاريخها، ضنينة بمستقبل أبنائها.
بنغازي، هذه المدينة ذات السمت الخاص، المدينة الضاربة جذورها في التاريخ، لا شك أن الشعراء قد تغنّوا بها،
والكتّاب قد كتبوا عنها كثيرًا، ومما ورد فيها من أبيات رائقة:

– جُرد بديعُ القول والإفصاحِ.
– في مدحِ خيرِ مدينةٍ يا صاحِ.
– فخرُ المدائنِ لا أبا لك مدحُها.
-فرضٌ على الشعراءِ والشُرّاحِ.
-قالوا هنا بنغازي، قلتُ وهل سوى
-بنغازي ملعبُ صبوتي ومراحي؟.
-ضمّت كرامَ القوم، صِيدَ أهلِها-
– جلبوا على الإيثارِ غيرَ شحاحِ.
-يتسابقون إلى المكارمِ والعُلا-
-وإلى فعالِ الخيرِ والإصلاحِ.

ثم انظروا معي إلى هذا الفخر البليغ لهذا الشاعر المتيم بمدينته حين قال:

تغربت وشفت بلادات،
لكن هيهات، لبنغازي ما لقيت خوات

أي إنه طاف الدنيا، لكنه لم يرَ نظيرًا لبنغازي!
ولعلي، وقد رأيت بنغازي رأي العين، ثم قرأت مستزيدًا عنها، بدأت أفهم هذا الوله العميق، وهذا العشق الصافي.

فالمدن ليست عمرانا فقط، ولا جدرانًا، ولا إسفلتًا، ولا واجهات…
المدن إحساس، وسردية، وروح، وتاريخ، وتداخل حضارات.
هي تراكم إنساني، ومزيج من الجمال والألفة، تتذوقهما الأرواح لا العقول.

وبنغازي تملك من هذا الكثير …. ، مدينة موغلة في القدم،
عروس من عرائس البحر الأبيض المتوسط،
مدينة غادة، لؤلؤة رصّعت الساحل الليبي منذ القرن الخامس قبل الميلاد.

موقعها الاستراتيجي جعلها ملتقى لتنوع ديموغرافي فريد، اختلطت فيه الجينات والحضارات،
فكان أن حصلت على هذا القدر البالغ من الجمال، و تحقق لها هذا الثراء في الأوصاف، وتلك العبقرية في المكان والإنسان.

كان اسمها الأول “هسبيريديس”، أي “الحوريات في الحديقة الغناء” بالإغريقية،
ثم سُمّيت “برنيق”، وها هي اليوم: بنغازي، المدينة الغرّاء.

تعاقب عليها الفينيقيون، الإغريق، الرومان، البيزنطيون، العرب، العثمانيون… وحتى الإيطاليون، ما زال فنّهم المعماري شاخصا حيًّا فيها.
تضم ضريح البطل عمر المختار، وإن لم يكن رفاته به اليوم.
فقد دُفن أول مرة في سلوق، إحدى ضواحي بنغازي، ثم نُقل إلى هذا الضريح داخل المدينة في عهد الملك إدريس،
ثم أُعيد إلى سلوق في العهد البائد،
لكن بنغازي أصرّت أن تحتفظ بالضريح، الذي رقد فيه يومًا هذا المقاوم الصنديد.

ولعلّ في هذا دلالة…
فبنغازي وسلوق كلتاهما تتشبثان بذكرى عمر المختار، هذه الأيقونة الليبية التي ستظل دوما منارة لكل أحرار العروبة والإسلام،
ورمزًا للبسالة، والنخوة، والتضحية، والمقاومة.
غادرت بنغازي… لكن شيئًا مني بقي هناك،
وبالمقابل، شيء منها غادر معي.
لا تزال رائحة أرضها عالقة بثيابي،
ولا تزال صورتها تداعب خيالي.

لقد قلت لكم أشياء عنها،
لكن صدقًا، أعترف أن الأجمل مما فيها خبأته في قلبي،
لأن التعبير عجز عن وصفه.

ولكني سأختصر لكم كل ما أريد قوله:

حين هممتُ بالمجيء إلى بنغازي، حذرني بعض المتابعين للفضائيات من “الحرب”،
وحين وصلت، وجدت أن حرف الراء قد سقط،
فلم أجد إلا: الحبّ.

وشتّان ما بين الحرب والحب.
وبنغازي — بل ليبيا كلها — قد اختارت الحبّ والوئام.

أليس الحب هو الحياة؟
الحبّ هو ما تبقى لنا من حديث الحرب.

هذا ما شهدتُه في الحياة اليومية، في الناس، في التفاصيل، في طرابلس، بنغازي، البيضاء، مصراتة… المدن التي زرتها حتى الآن.

بنغازي، بالنسبة لي، ليست مجرد مدينة استثنائية،
بل هي نصّ مكتوب عن تاريخ عنيد، وعن جمال خفي وباهر في آنٍ واحد.

كلما تذكرتها او استحضرتها ،وانا هنا بالرباط ، تكشفَت لي معانٍ جديدة فيها، وأوحت إلي بأحاسيس لاتخطر ببال.
هي مدينة لا تستوعب في زيارة واحدة، ولا تدرك حقيقتها إلا لمن أحبها وأصغى إلى نبضها.

بنغازي…
أيتها المدينة البهية، الفائقة العذوبة،
يا من تجاوزتِ بجمالكِ روح المدن الأخرى بروحكِ، ودفء ناسك، وعمق تاريخك، وصدقك.
سأظل ألبي دعوتك ما دَعَوتِني،
وإن سلوتِني يومًا، فأنا لا أنساك أبدًا،
لأنكِ قد وشمتِ حبك في قلبي،
يا مدينة أخذتني برونقها… مثلما أخذتني بروحها وجمالها وشكلها.

رحلتي القصيرة إليك لم تكن مجرّد زيارة،
بل كانت تجربة وجدانية عذبة.
لذلك، أرجو أن تجدي في هذه الأنشودة، ولو سُكبت نثرًا بدل الشعر،
روح المغرب وهي تصافح ليبيا من القلب إلى القلب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *