حوارات

بنشريف: شعرت بميل جارف للصحافة منذ صغري .. والحسيمة تسكنني

نقرأ لهم دون أن نعرف تقاسيم وجوههم ولا ملامحهم، يكتبون لنا وعنا وقائع وملاحم، يخوضون “في عمق” المجتمع، في ثنايا الذات وفي قعر الذاكرة، يرسمون واقعنا ووعينا ولاوعينا بأقلامهم، بالألم حينًا وبالأمل حينا آخر.

هم حملة الأقلام الذين امتهنوا المتاعب عن طواعية وقدر محتوم، هم الذين انصهروا في رحاب صاحبة الجلالة حد الذوبان. التقيناهم بعيدا عن مكاتبهم .. قريبا من القارئ، حيث تم قلب الأدوار والوضعيات وتجريب مواجهة السؤال الذي هو زاد الصحافي.

وفي خضم البحث عن الجواب تحدثنا عن الطفولة وتفاصيل الحياة الشخصية في بوح صريح. في الموسم الثاني من هذه السلسلة التي فتحت من خلالها جريدة “العمق” منذ رمضان الماضي بابا للبوح لثلة من الزملاء الصحافيين، تستضيف الجريدة في الحلقة السادسة لهذا الموسم الصحافي عبد الصمد بنشريف مدير قناة المغربية.

ما الذي تتذكر عن طفولتك؟
أتذكر طفل السبع سنوات الذي كنته. .بمحفظة الأمل التي كان يحملها ،بالمسافة التي كان يقطعها مشيا على الأقدام ، بالطريق الصخري المدجج بكل الاحتمالات، بانسياب الماء وهو في أقصى درجات البرودة ، بالوجه الغض الملسوع بوخزات الزمهرير، بالأصابع الهشة والطرية وهي تقاوم وتكابد برد الصباح .أتذكر قامة ذلك الطفل وهي تغوص عميقا في البعد وتتلاشى كلما توغلت في ضباب المستقبل، أتذكر محتوى تلك المحفظة، بالكاد ما يسد الرمق وسبورة صغيرة وقلم رصاص وبعض الأحلام الجنينية التي كانت تتشكل في صمت.

أتذكر أمي التي كانت تستيقظ باكرا لتعد فطورا متواضعا ،ولتضخ في الطفل الذي كنته جرعة من حنان وعناد وتحفيز ،استحضرها وهي تتفانى في إطعام ماكنا نملكه من حيوانات في ذلك المنزل الريفي، والتي كانت-أي الحيوانات- جزءا من حياتنا ووجودنا . اتذكرأبي وهو يرتل القرآن ويردد بعض الأوراد وينشد بعض الأبيات الشعرية، ويتأهب للإستماع إلى أول نشرة إخبارية بعد أن تتناهى إلى سمعه تلك اللازمة الشهيرة “عند الإشارة تكون الساعة. …”.

أتذكر تلك الصباحات المترعة بصوت العصافير وهي تطير وتحلق جذلانة، وبنباح الكلاب المنتشرة في كل مكان والساهرة على أمن القرية، بالرعاة متوجهين إلى الجبال القريبة، بأ شجار اللوز وقد أزهرت وارتدت أكاليل بيضاء .ويحقول القمح والشعير الواعدة بالخير أتذكر بلاغة الصمت الذي كان يرين على منطقة الطفولة ،صمت مطلق كانت تشوش عليه شاحنة يتيمة كان صوت محركها المتعب يحتكر فضاء المنطقة كلها .

أتذكر تلك الصور التي كانت تؤثث الفصل الدراسي، وكانت ألوانها الزاهية جذابة وساحرة ، صور الجزار والحلاق والفاكهاني والعصافير ،وتلك البقرة الرشيقة والفرس الجامح وووو ،كلها كانت تثيرني وأحيانا تبدد تركيزي . اتذكر هيبة المعلم وهندامه النظيف والأنيق وسلطته التي كانت تطاردنا حتى في القرية. اتذكر سماء وأرض وهواء وشمس وأصوات وروائح ووجوه ولغة وصور لاتوجد الآن إلا في الذاكرة.

أتذكر بقوة رائحة قهوة كاريون التي كانت تدمن عليها أمي ، بالأرض وقد غزاها الاخضرار، بأحلام يانعة ومحايدة،بلغة البدايات. أتذكر جبل “أغرغور” “agargour هذا الجبل كان يختزل كل شيء .كان خزانا للعسل البلدي ومساحات لامتناهية من فاكهة الصبار “الهندية” ذات الجودة العالية .كان مسكنا فسيحا للحجل. وللزواحف بشتى أنواعها.

كانت قمته المعروفة بالصف،الإقامة المفضلة للثعالب وفصائل من الطيور .كما كان مصدر رعب عندما كانت تندفع صخوره بسرعة جنونية خلال مواسم المطر مهددة البشر والشجر .كان هذا الجبل مرآتنا وساعتنا وسياجنا ومشتل أحلامنا وخيالاتنا.كان هو الأكبر والأعلى في زمن الطفولة.

وكما قال الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في حوار سبق لي ان أجريته معه وهو متضمن في كتاب الصادر عام 2013 بعنوان” ضد الغياب” الطفولة لا تُكتب مرة واحدة، إِنها تخترق النصوص بين حين وآخر، وتستعيد عالماً مفقوداً ولو كانت الطفولة بائسة. الذاكرة تجّمل عناصر الطفولة، وتشحنُها بالجماليات التي لم تكن فيها في واقع الأمر . قد تتذكَّر ستائر البيت، قد يكون بيتاً بائساً. لكن، لأَنك محرومٌ من العودة إِلى الفردوس المفقود، فإِنَّ مسافةَ الحرمان تجمّل الماضي، وتجعله وكأَنه هدف الأحلام التي نخترعها، لكي نتغلبَ على وطأة الراهن الثقيلة..

-كيف جاء التحاقك بالصحافة؟
منذ أن كنت تلميذا وعمري لا يتجاوز 11سنة، شعرت بميل جارف نحو مهنة الصحافة، كنت أتميز في الفصل بطريقة قراءتي، التي كانت قريبة إلى حد ما من الإلقاء الإذاعي، وهذا ما كان يحمل أستاذ العربية، على إغداق المدح على صوتي، علاوة على أنني كنت دائما أحلم بأن أصبح كاتبا في يوم من الأيام، وتبعا لذلك كنت أقرأ كل ما يقع في يدي، خصوصا وأن وجودي آنذاك في قرية نائية ومهمشة تسمى “أزلوكا ” في الدائرة الترابية بني بوفراح بإقليم الحسيمة والتي ولدت فيها لم يكن عاملا مساعدا للسعي وراء أحلام كثيرة، فكان المذياع هو وسيلتنا المشتركة، للبقاء على صلة بالعالم، بل شكل المذياع مدرسة حقيقية استفدت منها، وعززت شعوري بالانتماء إلى عالم الصحافة مبكرا، كما قوت رغبتي في الكتابة، لاسيما أن البرامج الأدبية والثقافية التي كانت تبثها إذاعة لندن، واستضافتها لعدد من الكتاب، كانت تغويني وتستأثر باهتمامي.

لكن رغم هذا الاستعداد الفطري، إذا صح التعبير، عاكست رياح الواقع رغبتي وطموحي، وكنت أرغب في اجتياز مباراة ولوج المعهد العالي للصحافة آنذاك، بيد أن عزلة مسقط رأسي أجهض حلمي.

هل كنت تتوقع يوما أن تصير صحافيا؟
بكل صدق كنت توقعاتي قوية ،خاصة عندما أمسكت بالحلم حتى لا ينفلت، وطرقت باب جريدة الميثاق الوطني، ولجت هذه المؤسسة، في يونيو 1989، حيث تم قبولي كمحرر، فكانت هذه هي الانطلاقة الفعلية، ويرجع الفضل للميثاق الوطني،في فتح أبوابها في وجه معتقلين سياسيين سابقين، وتمكينهم من استثمار طاقاتهم وأفكارهم، فهي لم تشعر حيال ماضيهم وقناعاتهم الإيديولوجية والسياسية بأي حرج.

بعد تجربة عمرت بضع سنوات في الصحافة المكتوبة،وبعد دراسات عليا في المعهد العالي للصحافة آنذاك ، انتقلت إلى القناة الثانية “دوزيم” عام 1993، حيث التحقت بقسم الأخبار، لأشتغل محررا مع مجموعة صغيرة، تحملت عبئا كبيرا في إرساء دعائم وأسس تجربة القناة الثانية، خاصة في سنواتها الأولى عندما كانت تبث بالمرموز، وقدمت نشرة الأخبار بالإضافة إلى إعداد وتقديم مجموعة من البرامج الحوارية والوثائقية، وتغطية العديد من المؤتمرات والأحداث الكبرى ومحاورة عدد من الشخصيات في مختلف الجالات.

بعيدا عن الصحافة، ماهي اهتماماتك في السياسة والثقافة والرياضة والمجتمع؟
منذ صغري وأنا اهتم بالسياسة ،كانت وجبتنا اليومية، لأن والدي رحمه الله كان كائنا سياسيا بامتياز، آمن بشكل صوفي ونادر بالعقيدة الحزبية التي أقسم أن لايخونها، فقد انخرط منذ شبابه في حزب الإصلاح الوطني بقيادة المرحوم الأستاذ عيد الخالق الطور يس، قبل أن يندمج هذا الحزب في تنظيم حزب الاستقلال، وظل والدي رحمة الله عليه وفيا لحزب الاستقلال إلى أن رحل.في بيئة كهذه كان من الطبيعي أن نتعاطى السياسة في سن مبكرة .فكل أشقائي انخرطوا في تنظيمات يسارية ،حيث كان شقيقي مصطفى عضوا في الكتابة الوطنية لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، والغريب في الأمر أن والدي رغم مرجعيته المحافظة وتكوينه الفقهي ودفاعه المستميت عن ايدولوجيا حزب الاستقلال، فقد كان يكن احتراما كبيرا لحزب الطليعة .

بالنسبة لي وبحكم أن مهنة الصحافة ابتلعتني وأغوتني، تعاملت مع السياسية من موقع المتابع والملاحظ والمهتم ، فالبرامج التي كنت أعدها وأقدمها، كانت تسعى إلى خلق نقاش فكري وسياسي وإلى تخليص الذاكرة الجماعية من كثير من الصور النمطية والأحكام الجاهزة، وفي نفس الوقت إقامة نوع من المصالحة والتصالح، بين المغاربة وتاريخهم، واستيعاب الكثير من التحولات التي تجري في محيطهم المحلي والإقليمي والدولي، فبرنامج وجوه سياسية كان يهدف إلى قراءة فترات أساسية وحساسة من تاريخ المغرب، عبر مواكبة مسار شخصية من الشخصيات، مثل (عبد الرحيم بوعبيد، بلحسن الوزاني، عبد الخالق الطوريس، أحمد بلافريج، مولاي أحمد العلوي..إلخ).

. أما برنامج “لكل الناس” ، فقد واكب أهم القضايا والتحولات التي عرفها المغرب خلال السنوات الأولى من حكم جلالة الملك محمد السادس، من المفهوم الجديد للسلطة، إلى قراءة خمسين سنة من الاستقلال، وحاول تقريب المشاهد/المواطن من دلالات وأبعاد بعض القرارات التي اتخذت لتأهيل البلاد ديمقراطيا، كإنشاء هيئة الإنصاف والمصالح، ومدونة الأسرة..إلخ

وصولا إلى برنامج “تيارات”، وكان ذو طبيعة حوارية، وفضاء لتقابل الآراء، حيث حاول إرساء نقاش بين مختلف الفاعلين، خاصة السياسيين منهم، لاسيما أن المغرب كان يواجه مجموعة من الاستحقاقات.

أما على المستوى الثقافي فأنا أصلا بدأت شاعرا وشاركت في أمسيات تاريخية ومفصلية كان ينظمها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب عندما كان تنظيما متماسكا وقويا ومدرسة عليا لإنتاج النخب، ومارست الكتابة الإبداعية بشتى أجناسها ،في مختلف المنابر الإعلامية الوطنية، وتعزز هذا الاختيار عندما كنت أتحمل مسؤولية جسيمة في أعداد جزء كبير من مواد الملحق الثقافي لجريدة الميثاق الوطني ،حيث قابلت كتابا ورائيين كبارا من عيار حنا مينا وجبرا إبراهيم جبرا وادمون عمران لمليح وجورج طرابشي وعدد كبير من المبدعين من المغرب وخارجه طبعا الثقافة جزء من حياتي اليومية.

قراءة وكتابة ومحاضرات. وبداخلي تتعايش السياسة والصحافة والثقافة دون وقوع حوادث أو اصطدامات،لكن منظوري وفهمي للسياسة والعمل السياسي وحتى النقابي يختلف عما هو سائد،لنني لا افهم مطلقا أن تكون قياديا أو مسؤولا سياسيا أو برلمانيا وأنت لا تنتج فكرة آو مبادرة أو تبلور مشروعا مقنعا وذا مصداقية .

كما أن عملي كصحافي واحتكاكي الدائم بالناس من مختلف الشرائح جعلني أفهم عن قرب دلالة التحولات التي يعيشها المجتمع المغربي والتعبيرات الاحتجاجية والغاضبة التي يصدرها من حين لآخر.

أما على المستوى الرياضي فانا أمارس رياضة المشي للحفاظ على اشتغال سليم لوظائف أعضاء الجسم ولمحاربة الضغوطات اليومية .كما أشاهد مباريات كرة القدم التي تتوفر فيها شروط الجودة والإبداع.

ما هي المدينة الأقرب إلى قلبك ؟
هناك عدة مدن قريبة من قلبي، وبيني وبينها علاقات متداخلة وملتبسة .طبعا المدينة الأولى التي تسكنني دائما هي الحسيمة .رغم أن المنزل الذي عشت فيه طفولتي ومراهقتي يوجد في العالم القروي وتحديدا في بني بوفراح،لكن تبقى الحسيمة هي أول مدينة درست فيها ونسجت في عوالمها جزءا من الأحلام الرومانسية وربيت سربا من المشاعر التي كانت تحملني بعيدا إلى عتبات المطلق.وهناك طنجة التي استقرت فيها العائلة منذ أوائل الثمانينيات ،وفيها دفنت أمي قبل أن يلتحق بها أبي ،كما أن زوجتي من طنجة. وهناك مدن ترقد في الذاكرة كالقاهرة والقدس وبيروت وباريس إلخ..

ألا تشعر بالندم أنك لم تختر طريقا آخر غير الصحافة؟
حلم البدايات غالبا ما يكون بريئا وطاهرا ومحايدا، عندما انخرطت في عالم الصحافة،كانت تسكنني أحلام كبيرة وتطلعات مثالية،كنت معجبا بتجارب وأسماء عالمية، ومقتنعا بنبل رسالة الصحافة، لكن مع مرور الأيام والأعوام، بدأت اكتشف عددا من الأوهام .لأن الصحافة هي بنت بيئتها،لا يمكن أن تكون عندك صحافة قوية ونزيهة وتحترم الأخلاقيات وتساهم في صناعة الرأي العام وتمارس الرقابة، والمجتمع الذي تتحرك فيه يشكو من عدد من الاختلالات والآفات والمظاهر السلبية. وأستطيع القول أن حجم طموحاتي لم يتلاءم مع معطيات الواقع، كما أن استهدافي في فترات معينة وبأشكال مختلفة انعكس سلبا على معنوياتي وصحتي وإيماني بجدوى مهنة الصحافة. وهنا يحضر الندم ويتسع مداه وتجلد نفسك على كونك منحت كل وقتك وصحتك لمهنة سرعان ماخدعتك وخانتك، خاصة وأنني فضلت البقاء داخل الوطن ولم أفكر في الهجرة، لأنني آمنت أنني يمكن أن أقدم شيئا ما لصالح الإعلام المغربي، وان أضع تجربتي المتواضعة رهن إشارة بلدي. لكن أقولها بكل صدق خيبت آمالي وأصبت بالإحباط، ولولا استدراكي للموقف رغم تأخري في ذلك وقمع أوهامي ومساندة زوجتي وتحملها لمختلف الضغوط، لانكسرت تماما. وهنا أتعجب لمن ينام قرير العين ومرتاح البال وقد تسبب في مآسي وآلام وجراح للآخرين ؟

ألا تظن أن دور الصحفي أو السياسي ليس هو دور الكاتب ؟
لكل واحد دوره الصحافي إذا مارس مهنته بنزاهة واحترام لأخلاقيات المهنة وشرفها ،فإنه سيقوم برسالته على أحسن وجه أينما كان موقع تواجده،بما في ذلك تكريس المدلول الحقيقي للسلطة الرابعة التي في واقع الأمر تحولت إلى السلطة الأولى.

أما السياسي وبحكم طبيعة المجال الذي يتحرك فيه وبالنظر إلى خصوصية الأجندة التي يدافع عنها من منطلق براغماتي نفعي ،فإنه يختلف جذريا عن الصحافي لأن مايهمه هو تبرير خطابه وتسويق مشروعه حتى ولو كان غير مقنع،والوسيلة عنده تبرر الغاية بالمفهوم الميكيافيلي. لكن من المؤكد أن المرحلة تقتضي الآن في المغرب وجود السياسي المثقف الذي ينظر إلى الأمور برؤية عميقة ومغايرة وبعيدة عن الشعبوية والتبسيط والاختزال .أما الكاتب فدوره أعظم وأكبر،فالأفكار التي ينتجها والقضايا التي يعالجها تفكيرا أو إبداعا هي ما يشكل صمام أمان المجتمع والدعامة الأساسية لتطوره وتجاوزه لعدد من الأوضاع المؤرقة.

هل تفضل أن يصفك الناس صحافيا أو كاتبا ،ماذا تصنف نفسك إذن؟
كان المرحوم محمد العربي المساري رغم تقلده مناصب سامية بما في ذلك تحمله مسؤولية وزارة الاتصال يفضل دائما صفة صحافي، علما أنه كان كاتبا بارعا خاصة في العلاقات المغربية –الاسبانية وكان دبلوماسيا وقياديا بارزا في حزب الاستقلال. أنا أمارس مهنة الصحافة منذ عقود وهي مورد رزقي،كما أنني أمارس الكتابة وأصدرت عددا من الكتب، ولدي انشغالات سياسية من موقع الملاحظ والمنتج لعدد من الأفكار. في المشرق العربي عادة ما يستعملون صفة .صحافي -كاتب . طبعا هذه الصفة لا تطلق على أي كان إذ لابد من أن يكون هناك ما يعللها ويسوغها .من هذا المنطلق انا أجمع في خانة واحدة بين الصحافي والكاتب.

مارأيك في واقع الصحافة بالمغرب؟
لقد آن الأوان لإحداث نقلة نوعية إصلاحية عميقة في القطاع الإعلامي بكل مكوناته ضمن المشروع الحداثي الديمقراطي الذي يشتغل وفق قواعد القانون ومنطق المؤسسات الراسخة والمتينة والتي يجب أن تحظى بالمصداقية والاحترام .أي ما أسميه شخصيا تدشين انتقال إعلامي شامل على غرار الانتقالات التي عاشتها البلاد في أكثر من قطاع.خاصة في ظل التحديات التي تطرحها الثورات التكنولوجية والإعلامية المتسارعة ومنصات التواصل الاجتماعي وهذا ما يحتم على المغرب الانخراط في هذا المسار،لبلورة نموذج يسايرمجموعة من الديناميات بما فيها تعزيز وتحصين الاختيار الديمقراطي و وتجديد التنمية وتكريس قيم السلم والتسامح والحداثة والعقلانية والاختلاف. .

سوء الفهم ناتج أساسا عن الدور الذي ينبغي أن تلعبه وسائل الإعلام داخل المجتمع . فالنسق الديمقراطي يقوم على عنصر حرية التعبير والديمقراطية تلازمها حقوق وحريات وعلى رأسها حرية نقل الخبر والحق في الوصول إليه . من المؤكد أن معظم الفاعلين يعتبرون أن الوقت حان بالنسبة للمغرب الإعلامي وفي إطار علاقة مع المشروع الديمقراطي ،أن ينظر إلى ذاته ليقدر حجم الجهود التي يتعين بذلها من أجل رفع تحدي القدرة على المقاومة والتموقع في المشهد الإعلامي العالمي .أو لمسايرة والاستفادة من الحركة الكونية التي تشهدها وسائل الإعلام والتي ستحدد مسيرة الديمقراطية وهو تحدي تعمل جميع المجتمعات على رفعه ،كل حسب سياقه الخاص فيما يتعلق بالمكتسبات والتطلعات.

من دون شك أصبح المنطق الاقتصادي ،باعتباره العقيدة الأساسية للعولمة ،متغلبا على كل الاعتبارات السياسية والإيديولوجية والثقافية والمهنية والأخلاقية التي كانت تشكل التعريف الذي يعطى للصحافة وتحدد وضعها الاعتباري وممارساتها داخل المجتمعات،وهذا ماخلص إليه الكتاب الذي كان ثمرة الحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع الصادر في 2011 والذي حمل عنوان “الإعلام والمجتمع في المغرب..التشخيص وخارطة الطريق”.

هل أنت منتظم في أوقات الكتابة ؟
كنت أكتب وفق وتيرة قارة ومنتظمة ،وغالبا ما أكتب في فترة الصباح ،لكن هناك اكراهات وضغوطات فرضت علي تحولا كبيرا في إيقاع الكتابة وحجم الإنتاج،رغم أنني أمانع وأقاوم حتى لا أصاب بالعقم آو الكسل الذهني .عندي مشاريع كتب عديدة .تتوزع بين الرواية والمذكرات وكتب خاصة بمجال الإعلام والسياسة .منذ مدة وانا مطالب بتصحيح كتاب في مجال الإبداع وهو مرقون .لكن لم أجد الفرصة المواتية للقيام بذلك.أصدقكم القول أنني وجدت نفسي في السنين الأخير وسط سلسلة من العواصف .لكن مع ذلك حاولت الحفاظ على صحتي أولا وسلامتي العقلية وتوازني النفسي ،علما أن هذا التمرين لم يكن سهلا لأنني تضررت كثيرا من الناحية الصحية والعطاء المهني والإبداعي .خاصة وأنني لم ألحق الأذى بأي شخص.

كيف عشت أجواء رمضان خلال الطفولة وبعدها ؟
كانت رائعة واستثنائية بكل المقاييس. أتذكر صورة والدي وهو يرتل القرآن،وكفاح أمي وشقيقاتي من أجل إعداد مختلف الوجبات وفق الإمكانيات المتواضعة التي كانت بحوزتنا.أتذكر تلك اللحظات التي كنت أستمع فيها إلى برنامج الواحة وقول على قول وندوة المستمعين التي كان يبثها القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية .أتذكر تلك الروايات التي اواجه بها رتابة الوقت .وتلك المساءات التي كنت أتابع فيها مجموعة من البرامج الإذاعية .أتذكر طعم فاكهة التين والصبارومذاق الدجاج البلدي الذي كانت تسهر أمي رحمها الله على تربيته .رمضان ذاكرة الطفولة له دلالة خاصة.

هل من طرفة وقعت لك في رحاب صاحبة الجلالة ؟
حتى الآن سلخت عمرا لا يستهان به في مهنة الصحافة، وكثيرة هي الذكريات التي تقبع في ذاكرتي، منها ما هو جميل ومحفز، ومنها ما هو مؤلم ومثير، أقوى تجربة مررت بها، كانت صيف 1996، عندما اعتقلت رفقة المصور التلفزيوني، عبد الرحيم البوحديوي، وحسن العلوي، رئيس تحرير صحيفة” لومتان” آنذاك، بمطار “زاغرب”، بالعاصمة الكرواتية، كنا الثلاثة متجهين إلى مدينة “موستار” بالبوسنة، لإنجاز برنامج وثائقي، عن مشاركة التجريدة العسكرية المغربية، في إرساء السلام في البوسنة والهرسك، لكن حدث ما حدث، إذ وجدنا أنفسنا رهائن في مطار “زاغرب”، أمضينا 24 ساعة في جو ترهيبي ، مشوب بحرب الأعصاب، لكن سرعان ما جاء الخلاص، بعد مساعي دبلوماسية، وتدخلات على أعلى المستويات.

ماذا تمثل لك هذه الكلمات ؟
الحرية .الحب.الوطن
الحرية هي كل شيء.من لاحرية له لا وجود له.النبتة لا يمكن أن تعيش وتترعرع بدون ماء وشمس ،كذلك الإنسان لا يمكن ان يعيش إذا لم يتمتع بالحرية.
الحب قارة خالية من أسلحة الدمار الشاملن .حيث يكون الحب يكون السلام والوئام.غالبا ماكنت أفلسف معنى الحب وكتبت عنه كثيرا.لكني أقول مع الراحل محمود درويش:
أحب، أحب، لا أستطيع الرجوع إلى أول البحر
لا أستطيع الذهاب الى آخر البحر قولي
إلى أين يأخذني البحر في شهوتك
وكم مرة سوف تصحو الوحوش الصغيرة في صرختك
خذيني لآخذ قوت الحجل
وتوت زحل
على حجر البرق في ركبتيك.
الوطن ملكية مشتركة بين كافة المواطنين ،و التعاقد الذي يجمعنا به هو أن نحميه ونحصنه من الهشاشة والانزلاقات الكبرى والآفات القاتلة والأوبئة المزمنة والرجات المدمرة.

رأيك في هؤلاء :
المهدي المنجرة
عالم كبيررحل دون ان تستثمر أفكاره ومواقفه بشكل براغماتي

العروي
هو في نفس مرتبة هيغل أو ماركس في أوربا بالنسبة للمغرب.مفكرطرق كل القضايا وطرح أسئلة كبرى ومقلقة وفكك أوجاع وأوضاع التخلف بدءا من الايديولوحيا العربية المعاصرة . وأصل عددا من المفاهيم وقرأ الإسلام والحداثة قراءة عقلانية.والتقط الأزمنة السياسية والاجتماعية في مغرب القرن 21 ليبلغ عددا من الرسائل .هو قامة فكرية بكل المقاييس وضمير أمة احتار في تفسير تناقضاتها وكوابح التحديث والتقدم والتطور السياسي والديمقراطي فيها. أتمنى له صحة جيدة وعمرا مديدا.

الجابري
هو الأخر كان يمثل قامة فكرية شامخة اتسمت بالجدية والرصانة والعمق ،كان فيلسوفا مسكونا بقضايا الأمة في امتداداتها التاريخية والجغرافية ،اشتغل بشكل لا نظير له على قراءة وتفكيك العقل العربي وإبراز نقط القوة والضعف في الحضارة الثقافية العربية والإسلامية.والمساحات المشرقة والمظلمة.لم يترك مجالا دون ان يخوض فيه .فحتى القرآن الكريم عكف على قراءته قراءة علمية احتهادية فيها جهد كبير وعمق ودقة في التحليل.كما كان رحمه الله حاملا لمشروع بشأن دمقرطة الدولة والمجتمع ورافع في هذا الإطار ونطر .وكرس جزءا مهما من وقته لطرح جملة القضايا والإشكاليات من خلال سلسلة مواقف ومجلة فكر.

العربي المساري
أما الراحل محمد العربي المساري الذي عرفته عن قرب وجالسته كثيرا وكنا أحيانا نمارس رياضة المشي في نزهة ابن سيناء ،وشاركنا معا في عدة أنشطة ،فهو نموذج الإنسان المتواضع القنوع الذي كان مشبعا بالقيم النبيلة والرفيعة، وكان صاحب قلب ابيض،حيث حافظ دائما على علاقات دافئة وسليمة مع معظم معارفه.كما كان صحافيا من العيار الثقيل وصاحب أفكار متقدمة في المجال الإعلامي، وحتى عندما كان نقيبا للصحافيين فقد جعل من النقابة بيتا لجميع الصحافيين .كما كان صاحب أسلوب ممتع في الكتابة وصاحب نكتة كما كان يتقن فن السخرية.

الطيب الصديقي
كان هرما مسرحيا بامتياز .أعاد الحياة للمحكي التراثي المغربي والعربي نكان مرجعا للعديد من المسرحيين في المغرب والمشرق. وكان على دراية بالمدارس المسرحية ،ولغته الفرنسية كانت راقية .كما أن مسرحياته حافظت على جودة جمالية اللغة و دقة وسلامة البناء .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *