وجهة نظر

المسخرة الناصرية !

في أوج الانتشاء بما حققته ملحمتهم التاريخية غير المسبوقة، من تفاعلات إيجابية ورجة قوية فاجأت الحكومة والأحزاب السياسية والمركزيات النقابية والجمعيات المدنية، وبلغ صداها خارج الوطن في الصحافة الدولية، والمتمثلة في المقاطعة الشعبية العفوية لمنتجات شركات تجارية بعينها، تنديدا بالغلاء الفاحش خلال السنوات الأخيرة.

كان المغاربة ينتظرون بشوق كبير أن يبدع “الفنانون” أعمالا تلفزيونية تليق بمناسبة الشهر الكريم رمضان، وترقى إلى مستوى حدث المقاطعة البارز وتستجيب لانتظاراتهم الفرجوية. غير أن لا شيء تحقق مما كانوا يتوقون إليه، بفعل تواصل مسلسل المحسوبية، واستمرار الحال على ما هو عليه من ميوعة، إن لم يكن تراجع بشكل أبشع.

فقبل حتى أن تهدأ زوابع السخط والاستياء، وتصمت الأصوات المستنكرة لمسلسل الاستغباء، الذي تجسد حلقاته تلك الأعمال الرمضانية السخيفة، التي بسبب ما وصلته من رداءة جرت المشرفين على التلفزيون إلى المساءلة تحت قبة البرلمان، ودعا نشطاء بمواقع التواصل الاجتماعي إلى مقاطعة مسلسلات الذل والعار، لافتقارها إلى أبسط مقومات الجودة، واجترار نفس أساليب الإسفاف والابتذال والعبث بذوق المشاهد، رغم ما تستنزفه من ميزانيات ضخمة من أموال الشعب.

فإذا بهم يباغتون بمسخرة أخرى لا تقل تفاهة واستفزازا للمشاعر عما سبقها من إنتاجات “حامضة” ومزعجة، لصاحبها الممثل والمخرج سعيد الناصري، الذي أرادها دون خجل أو احترام ذكاء المواطن، أن تكون “ملحمة” غنائية، اختار لأداء فصولها عشرات الشخصيات المغربية المعروفة، من فنانين ورياضيين وإعلاميين…

والغريب في الأمر أن الرجل كان قد خرج للمشاهدين أياما قليلة قبل ظهور فضيحته بتصريح الواثق من نفسه، يعدهم فيه بأنه سيعمل على تعويضهم عما لحقهم من إحباط وخيبة أمل، من خلال عمل فني يضاهي الملاحم الفنية الكبرى، ليكتشفوا أن ما أتى به هو الإحباط ذاته وخيبة الأمل في أسوأ تجلياتها، مما أثار حفيظة الكثيرين الذين لم يتأخروا في مهاجمة “مشحمته” بانتقادات شديدة اللهجة، رافضين التمادي في الضحك على ذقونهم والاستهتار بأذواقهم…

فملحمة “أبطال الوطن” التي يدعي صاحبها أنها أنجزت بمجهود فردي، بهدف تحفيز المنتخب الوطني لكرة القدم “أسود الأطلس” في فعاليات كأس العالم ب”روسيا 2018″، ودعم ملف ترشيح المغرب لاستضافة الكأس نفسها في عام 2026، ليس في واقع الأمر سوى مسخرة حقيقية بكل المقاييس، تنضاف إلى سلسلة أعماله التافهة وإلى مهازل قنواتنا التلفزية، من حيث التدني الفني الرهيب في الأداء والإخراج، لما سجل من ركاكة الكلمات ورداءة الألحان وضعف التصوير والتوضيب وسوء التوزيع، وكأننا أمام عمل بدون مخرج لما تخلله من أخطاء فادحة.

إن ما يعتبره الناصري عملا فنيا رائدا، ليس سوى نموذجا صارخا للمهازل والفضائح المدوية، أكثر منه “ملحمة” غنائية، جاءت مخيبة للآمال ومجهضة للأحلام، لافتقار مكان التصوير إلى الوسائل اللوجستية والاعتماد بدلها على صناديق الخضر البلاستيكية، غياب التجانس والتناسق بين المغنيين وسوء المونتاج… والأفظع من ذلك كله توظيف شخصيات ذات رصيد فني متميز في التمثيل دون أن تكون لها أدنى علاقة بمجال الغناء، وفي مقدمتهم نجد الممثلة المقتدرة ووزيرة الثقافة سابقا ثريا جبران والممثل الشهير محمد الجم وآخرين في الرياضة والإعلام…

فالرجل ال”سعيد” الذي اشتهر ب”تخراج العينين” أكثر من أي شيء آخر عند الدفاع عن تجاوزاته المتنوعة والمتعددة في أفلامه السينمائية وغيرها، اعتبر إبان إحدى خرجاته الإعلامية أن من يوجهون انتقادت ل”مسلخته” هم فئة من أعداء النجاح والوطن، وأن ما أثير حولها من لغط يندرج في إطار حرب “سياسية” تدور رحاها داخل المجتمع، وأن الأعمال الوطنية مهما كان نوعها وبلغت درجة جودتها، تتعرض للتشكيك والمحاربة من قبل جهات مغرضة، تسخر كتائبها الإلكترونية وأقلامها لضرب أصحابها والتقليل من شأنهم، ناسيا أن منتقديه قاموا بذلك من منطلق غيرتهم الوطنية، وأن الفنانين الجيدين لا ينزعجون من النقد، باعتباره ظاهرة صحية تمنحهم فرصة أخرى لتدارك نقائص أعمالهم. ثم لا يلبث أن يعود لتبرير فشله، متذرعا بمحدودية الإمكانيات وعدم تلقي الدعم سوى من الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، وهو عذر أفظع من المهزلة ذاتها.

وما غاب عن ذهن الممثل “الفذ” والمخرج “النابغة”، أنه أساء كثيرا إلى وجه الوطن بعمله الفج، وأن الوطنية ليست “مقامرة” بوجوه وأسماء معروفة، ولا تهافتا على المال والشهرة واللهث خلف الأوسمة الملكية، بل هي سلوك يومي رفيع ونموذج للارتقاء الإنساني. فحب الوطن أكبر من الجميع، أكبر من خلافاتنا واختلافاتنا، ومن صراعاتنا ومعتقداتنا، ومن أحلامنا وأوهامنا… ولا مجال فيه للمزايدات إذا كنا نسعى فعلا إلى رقيه وعلى استعداد دائم للتضحية من أجله بدمائنا وأرواحنا. فمن السهل ادعاء حب الوطن، لكن من العسير جدا إثبات ذلك عبر العطاء أكثر من “الحلب”…

إن دعم ملف المغرب لاحتضان كأس العالم، الذي ظل يراهن على نيل شرف تنظيمه منذ سنوات، يقتضي عملا فنيا جبارا في مستوى الحدث، يقوم على دراسة علمية دقيقة ووسائل لوجيستية متطورة، ومخرجين قادرين على صناعة ملحمة حقيقية، تظل خالدة في الأذهان وتتداولها الأجيال، وليس إلى فضيحة أخلاقية. وحسنا فعلت إدارة موقع “يوتوب” بحذفها الملحمة/المسخرة، إثر انتهاك سافر لحقوق الملكية الفكرية دون إذن مالكها الشرعي، الذي قدم شكاية في الأمر. فالفن رسالة سامية نبيلة، تساهم في تهذيب السلوك والرفع من جودة العمل وجديته، وإعلاء قيم الأخلاق الرفيعة ورفعة الوطن واحترام المشاعر والأذواق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *