وجهة نظر

شر الدواب

((في السياسة حتى الأمور غير المنطقية لا تشكل عقبة)) نابليون بونابرت

أعتقد أن الجميع بات يجزم بأننا نعيش أزمة سياسية، تتعمق يوما بعد يوم، وترخي بضلالها على الوضع الاجتماعي والاقتصادي، بل أصبحت حالة البرلمان أبلغ صورة عاكسة لواقع هذه الأزمة.

مظاهر الأزمة السياسية التي تساهم فيها جميع مكونات الأحزاب “وإن بشكل مختلف ومتفاوت”، تجسدها حالة الاختلال التي وصلها الحزب الأول في الأغلبية والحزب الأول في المعارضة، وهي حالة إنهاك ناتجة عن درجة قصوى من المعارك الطاحنة فيما بينهما، حتى سقطا في نوع من الاحتباس الفكري والسياسي، الذي انعكس بشكل سلبي على العملية السياسية برمتها.

كنّا نتمنى أن يكف الحزب الأغلبي عن سياسة الهروب إلى الأمام، حيث كلما تشتد أزمته الداخلية ويفشل في تدبير قضايا الشعب من موقعه داخل الحكومة، سرعان ما يفتعل معركة مع البام. في الحقيقة كنّا نتمنى أن يكونا الحزبين قاطرة لرفع مستوى النقاش، عِوَض القصور الذاتي الذي جعل الحزب الأغلبي متورط في الأغلبية، والحزب الكبير بالمعارضة متورط في معارضته.

لذلك يتضح أن الأزمة السياسية التي نعيشها اليوم، والتي تساهم فيها طبيعة العلاقة بين الحزبين الكبيرين، حين يستمران في توجيه التهم إلى بعضهما البعض، ساهمت في خلق نوع من الفراغ السياسي، وهذا الفراغ جعل الأغلبية تتفكك والمعارضة تتردد، لأن الحزبان الكبيران لم يعد يعرفان كيف سيتصرفان في ظل جو سياسي متقلب ومرتبك.

في الحقيقة، إن كلا الحزبين مسؤول عن الوضعية التي نحن فيها، ففي الوقت الذي كان من المفروض أن يفتحا ويقودا نقاشا بمشاركة جميع الفاعلين السياسيين من باقي الأحزاب، للبحث حول الوضع الحالي والمستقبل، وإعمال الدستور وإنقاذ الوضع الاقتصادي، دخلا في صراع الديكة، حتى أنهك بعضهما الآخر، وبات الحزب الأول منهك داخل الحكومة، والحزب الأول في المعارضة منهك داخل المعارضة، وليس هناك حلا إلا أن يراجعا الحزبين وضعيتهما ومواقفهما، وأن ينتقلا من محطة التنابز والمشادات اللفظية، إلى مرحلة المبادرة وتدبير الاختلاف والتفكير المشترك حول القضايا الكبرى للبلد.

في مقابل هذا الوضع المتأزم، نجد أن المواطنين قد تركوا الحزبين وباقي الأحزاب نحو وسائل التواصل الاجتماعي، يخاطبون بعضهم البعض، متجاهلين الأحزاب، بل في أحيان أخرى معلنين الحرب عليها، لأن الأحزاب لم تعد تستطع أن تطرح على الساحة الفكرية والسياسية قضايا ذات أهمية تهم المواطنين في حياتهم اليومية ومستقبل أبنائهم، فإذا كنا نريد أن ننقذ ما يمكن إنقاذه، فعلينا أن نعيد النظر في لغتنا وفي وخطابنا، وحتى في طبيعة القضايا التي نختلف حولها.

فالدفاع عن الملكية لا يحتكره أحد، والدفاع عن الدين والشعب ليس لأحد الأفضلية فيه، لذلك لا يمكن الطعن في شرعية أي طرف اتجاه الآخر، فالشرعية الوحيدة التي نتقاسمها هي انخراطنا ومشاركتنا في العملية السياسية والمؤسساتية برمتها، لذلك، وحتى يمكننا معالجة هذه الأزمة التي نعيشها وانصراف الشعب عنا نحو الوسائط الاجتماعية، وجب علينا كسياسيين، أن نكون راشدين فاهمين لدورنا، محترمين المواطنين أغلبية كنا أم معارضة، مسؤولين في خطاباتنا وسلوكنا، للمساهمة في إدارة الدولة من مواقعنا المختلفة.

أما ما استهلكناه من الزمن التشريعي والسياسي، وما يستمر فيه اليوم الحزب الأغلبي من تنابز شعبوي واستعمال اللغة السوقية، فإنها ستلغي أية إمكانية للتواصل مع المواطنين والتحاور معهم، فلا يمكن بعد أربعة عشرة قرنا من تاريخ بلادنا نأتي اليوم لنهدم كل شيء، وإلا ينطبق علينا مضمون تلك الآية الكريمة التي تليت في حضرة ملك البلاد بمناسبة افتتاح البرلمان خلال دورة أكتوبر الماضية، ((إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون))، فهل فهم السياسيون ومعهم برلمانيو الأمة معنى أن تقرأ هذه الآية في البرلمان بالذات وبحضرة ملك البلاد؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *