وجهة نظر

ممرض في حيص بيص ومعاينة الوفيات (2)

في الطّريق إلى مقرّ العمل و على غير عادته، يوقف الدرّاجة على الجانب الأيمن للطّريق المُتربة للرّد على مكالمتين هاتفيتين متتاليتين؛ مصدر الأولى هو أحد سكان (الدوار) الذي فقد أحد أفراد أسرته، يطلب معاينة الجثّة والإذن بالدّفن، و ينهي المكالمة بالطّلب منه الانتظار أمام المستوصف القروي. أمّا الاتّصال الثاني فمن ممرّض مخضرم ومجرِّب بالمركز الصحّي، يحذّره من مغبّة الإذن بدفن جثّة طفل دون سنّ الثاني عشر، تفوح رائحة الشّبهة حول أسباب الوفاة من خلال ما راج من أخبار وروايات بُعَيد وفاته، ويَستحسن بدل ذلك توجيه أهله إلى الطبيب الشرعي من أجل الاستشارة وتبيّن أسباب الوفاة وتجنّب المشاكل اللّاحقة، يختتم المكالمة بالشكر على الاتّصال وعلى المعلومة الثّمينة، وكما كان لابدّ من التوقّف عن السّير من أجل التّحدّث، سوف يكون لابدّ من التوقّف من أجل التّأمّل و المراجعة و وضع كلّ نقطة على الحرف المناسب لها في موضوع معاينة الوفيات.

و للحديث عن معاينة الوفيات لابدّ من التّذكير أنّه وفي إطار التّضامن الحكومي والتّنسيق القطاعي بين الصّحّة والدّاخليّة ومن باب وصاية هذه الأخيرة على الجماعات التّرابيّة، وحيث إنّ أغلب الجماعات التّرابيّة لا تتوفّر على مكتب لحفظ الصحّة يتكلّف طبيبه بمهمّة معاينة الوفيات إضافة إلى مهام أخرى، وحيث إنّ الممرّض هو (الجوكر) الذي تعوّل عليه الوزارة أن يتواجد في كلّ المؤسّسات الصحيّة، سواء وحده أو رفقة الطبيب والأطر الأخرى، وتعوّل عليه أن ينفّد قائمة مهام معروف علاقتها به وبتكوينه، ومهام أخرى لا شأن له بها، وحيث إنّ الضّبابيّة في تحديد المهام داخل دائرة التقاطع بين الإدارات المختلفة يشجّع حتما على (الغميق) والتنصّل من المهام والإلقاء بها على كاهل إدارات أخرى، لكلّ تلك الحيثيات ولأنّ الممرّض يُعامل بمقولة (لّي ثقالت على الوزارة خفافت عليه)، وجد نفسه بين عشيّة تخرّجه وضُحى تعيينه، مكلّفا بمعاينة الوفيات، وذلك بحكم الواقع وليس بقوّة القانون.

بضع خطوات فقط تفصل المستوصف عن مكان تواجد الجثّة المعنيّة بالمعاينة والذي لم يكن شيئا آخر غير مسجد الدوار، وقد جرت العادة أن تُعايَن الجثّة في بيت الفقيد وعلى سريره حيث وافته المنيّة، أمّا أن يجد الممرّض في انتظاره جمهورا من النّاس يترقّبون منه النبس بالإذن بدفن جثّة طفل لم يبلغ بعد ربيعه الثاني عشر، في باحة المسجد مغسّلا ومكفّنا؛ فهو موقف يثير الشّبهات حول أسباب الوفاة، و يرفع عنه حرج الدّفع بضرورة عرض الجثّة على طبيب شرعي لتحديد أسباب الوفاة، وذلك على الرّغم من احتجاج القوم بأن الوفاة عادية أو جاءت بسبب مرض أصابه دون تقديم دليل بيّن، أو أنّ الأمر لا يستدعي تشريحا والأسرة لا تحتمل ذلك، كما يساعد هذا الموقف على إقناع زعيم الأسرة الذي لم يكن حاضرا خلال الوفاة بالشّروع في الإجراءات اللّازمة لنقل الجثّة إلى مصلحة التّشريح، وإضافة إلى تلك الشّبهات، يُعتبر الإصرار على أنّ الممرّض ليس طبيبا شرعيا و لن يسمح لنفسه بانتحال تلك الصّفة مبرّرا كافيا لصدّ إصرار رجل السّلطة الذي استدعته الأسرة، وإلحاحه على الممرّض لمعاينة الجثّة والإذن بدفنها، أو تقديم تقرير حول أسباب رفض معاينتها بحجّة مستوى السّكان الثّقافي وتفاديا لغضبهم، مع العلم أنّ تلك الأسباب أبدتها الأيام التاليّة لمن كان جاهلا، حيث تناسلت روايات مختلفة حول الموضوع؛ فقيل إن الولد كان يتناول غاز البوطان متعمّدا، وقيل إنّه سقط بسبب ذلك من فوق سطح البيت وقيل وقيل …

والحقيقة أنّ توجيه أسرة الهالك أو الهالكة إلى الطبّ الشّرعي في كلّ حالات الوفيات، قد يعتبر من بين الحلول التي يمكن أن يسلكها الممرّض كلّما اقتضت الضّرورة ذلك للخروج من (الحيص بيص) بأقلّ خسائر محتملة، وفي المقابل هناك من ظلّ يعتمد خلال معاينة الوفيات على بعض الخبرة الطبيّة وكثير من الخبرة (الاستعلاماتية) لجمع كلّ المعلومات حول الفقيد وظروف عيشه الشّخصيّة والعائليّة والاجتماعيّة والصحيّة قبل وقُبيل وخلال وفاته لاستبعاد أيّ شبهة حول ظروف الوفاة، وتجنّب الدّخول في دوّامة المسؤوليّة والمساءلة التي لا يُعرف أوّلها من آخرها.

لقد حسم نظريا القرار المشترك لوزير الداخلية و وزير الصحة رقم 117.01المنشور بالجريدة الرسمية 4888 – (5 أبريل 2001) الصفحة 976، حيث أسندت المادّة 4 لأطبّاء الجماعات المحليّة مهمّة مراقبة ومعاينة الوفيات. أمّا بالنّسبة لمن يحتجّ بمرسوم 2.99.665 الصادر في 2 شعبان 1423(9 أكتوبر 2002) لتطبيق القانون رقم 37.99 المتعلّق بالحالة المدنية، الباب الخامس المادّة 32، المنشور بالجريدة الرّسميّة 5054 (7 نونبر 2002) الصفحة 3159، والذي يذكر الطّبيب والممرض التابع للصّحة العموميّة، فالرّاجح أنّ المقصود هو الأطر الصّحيّة التابعة للجماعة التّرابيّة وليس أطر وزارة الصحّة وشتّان ما بين التّسميتين، وعلى الرّغم من ذلك فقد استثنى المشرّع حالتي التعذّر أوالاشتباه والجريمة والحادثة؛ حيث تُسلّم شهادة المعاينة من طرف ممثّل السلطة المختصّة في حالة التعذّر، ولا يقبل التّصريح بالوفاة إلى بإذن من وكيل الملك المختص في حالة حادثة أو جريمة أو الاشتباه أنّ الوفاة غير عادية.

أمّا واقعيا، فلا أظنّ أنّ معاينة الوفيات سبق وكانت موضوع تكوين أساسي، خلال العشرين سنة الأخيرة، ولا تلقّى في شأنها الممرّض تكوينا مستمرّا و لا حتّى معلومات مقتضبة أو إشارات سريعة خلال لقاء أو اجتماع، ولا تمّت الإشارة إليها في منشور أو ملصق لوزارة الصحّة، لذلك لن يكون عمليّا و لا منطقيّا أن ننتظر منه معاينة الوفيات وتسليم الإذن بالدّفن، ولن يستطيع أحد إرغامه على ذلك تحت أيّ مبرّر، بل لن يعيب عليه أحد امتناعه عن ذلك وقد يجد تفهّما من قِبَل كلّ السّلطات المعنيّة كما هو الشّأن في بعض المناطق حيث أصبح يُتَدَبِّرُ أمر معاينة الوفيات بعيدا عن الممرّضين والممرّضات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *