بين خوارزميات باريس وخوارزميات بكين: هل آن أوان استقلال المغرب الرقمي؟

مقدمة
في عالم تُعاد فيه صياغة السلطة من داخل الشبكات، لم يعد من المقبول أن يظل المغرب تابعًا رقميًا لنماذج خارجية، سواء كانت فرنسية تقليدية أو صينية متقدمة.
التحول الرقمي لم يعد مجرد تحديث تقني، بل أصبح سؤالًا وجوديًا: هل نملك الجرأة على بناء نموذج مغربي مستقل، يُراعي لغتنا، ثقافتنا، وخصوصيتنا؟
الوضعية الراهنة: قراءة في مؤشرات السيادة الرقمية
قبل الحديث عن النماذج والبدائل، لا بد من الوقوف عند الواقع الرقمي المغربي كما هو.
تشير أحدث التقارير إلى أن المغرب يحتل المرتبة 90 عالميًا في مؤشر الحكومة الإلكترونية (EGDI 2024)، رغم أن أكثر من 88% من المواطنين متصلون بالإنترنت.
لكن المفارقة تكمن في أن أقل من 40% يُنتجون محتوى رقمي، ونسبة الطلبة المغاربة في تخصصات الذكاء الاصطناعي لا تتجاوز 3%.
القانون 09.08 لحماية البيانات لا يُطبق بصرامة، رغم وجود اللجنة الوطنية المكلفة بذلك، وأكثر من 40% من الطلبة المغاربة في الخارج يدرسون في فرنسا، مقابل أقل من 5% في الصين.
هذه الأرقام تُظهر أن التحول الرقمي لا يزال في بدايته، ويحتاج إلى إرادة سياسية، إصلاح تربوي، واستثمار معرفي حقيقي.
النموذج الفرنسي: من التأسيس إلى التكرار
منذ الاستقلال، تبنّى المغرب النموذج الفرنسي في الإدارة الرقمية، من اللغة إلى المنصات.
ورغم أن هذا النموذج ساهم في بناء مؤسسات الدولة، إلا أنه اليوم يُعيد إنتاج التبعية بدل أن يُحفّز الابتكار.
الاعتماد على شركات فرنسية لتخزين البيانات يُضعف السيادة الرقمية، ويجعل المغرب تابعًا في زمن تُعاد فيه صياغة السلطة من داخل الشبكات.
النموذج الصيني: فعالية تقنية أم مركزية رقمية؟
الصين تقدم نموذجًا رقميًا متكاملًا، يجمع بين الإنتاج المحلي والسيادة التقنية.
شركات مثل Huawei وAlibaba لا تُصدّر فقط أجهزة، بل منظومات رقمية تُدمج الذكاء الاصطناعي في كل مراحل الإنتاج.
لكن هذا النموذج، رغم فعاليته، يثير تساؤلات حول الرقابة، مركزية القرار، وحدود الحريات الرقمية.
لذا، المطلوب ليس الاستنساخ، بل الاستلهام الذكي.
التعليم الرقمي: بين التلقين والتجريب
المدرسة الرقمية المغربية تُركز على النظري أكثر من التطبيقي، والمناهج قديمة، والمختبرات شبه غائبة.
في المقابل، النموذج الصيني يُشرك الطلبة في مشاريع حقيقية منذ السنوات الأولى.
إذا أراد المغرب أن يُنتج “مهندسًا رقميًا”، فعليه أن يُعيد بناء منظومته التعليمية من الأساس، ويُراعي خصوصيته الثقافية واللغوية.
فالتعليم هو المدخل الحقيقي للسيادة الرقمية.
السيادة الرقمية: من المفهوم إلى التطبيق
السيادة الرقمية ليست شعارًا، بل ممارسة يومية.
هي القدرة على التحكم في البيانات، الخوارزميات، والبنية التحتية.
في المغرب، ما زالت معظم التطبيقات الحكومية تُدار عبر منصات أجنبية، والبيانات تُخزن خارج الوطن.
ولا تكتمل السيادة دون شمولية رقمية تُراعي الفجوة بين المدن والقرى، وبين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
فلسفة التبعية: من إدوارد سعيد إلى سمير أمين
إدوارد سعيد يرى أن الغرب يُعيد تشكيل صورة الشرق في ذهنه، ويفرض عليه أن يرى نفسه من خلال عين الآخر.
سمير أمين يعتبر أن دول الجنوب تتطور وفقًا لحاجات المركز، لا وفقًا لحاجاتها الذاتية.
أما يوهان غالتونغ، فيربط غياب الديمقراطية بعلاقات تبعية بنيوية مع دول الشمال.
التحول الرقمي المغربي يجب أن يكون إعادة بناء للذات، لا مجرد استبدال تابع بآخر.
خاتمة: بين الواقع والطموح، هل نملك شجاعة البرمجة؟
كما قال فوكو: “السلطة ليست فقط ما يُفرض علينا، بل ما نُعيد إنتاجه بأنفسنا”.
التحول الرقمي المغربي يجب أن يكون فعلًا سياديًا، لا مجرد استهلاك لنماذج الآخرين.
لكن قبل أن نحلم بنموذج مغربي مستقل، علينا أن نُواجه الواقع كما هو — l’état des lieux — بكل تناقضاته، تحدياته، وفرصه.
إن بناء نموذج رقمي مغربي يبدأ من الاعتراف بأن التكنولوجيا ليست حيادية، وأن السيادة تبدأ من التعليم، وتنتهي عند المواطن.
فهل نملك في المغرب الشجاعة على كسر الحلقة، وإعادة إنتاج أنفسنا رقميًا، من داخلنا لا من خارجنا؟
اترك تعليقاً