بصرف النظر عن ظروف التشديد العادية ،المنصوص عليها في القانون الجنائي المغربي،التي تشدد العقوبة في الفعل الجرمي الأصلي ، نجد هناك ظروف تشديد أخرى غير منصوص عليها في القانون،تستعمل انطلاقا مما يسمى قناعة و سلطة تقديرية لمصدر الحكم .وهده من الخبايا التي لا يدركها و لا يعلمها إلا الضاربون في مهنة القانون .
من بين ظروف تشديد الظاهرة للعقوبة،المنصوص عليها في القانون الجنائي نجد : حالة العود أي تكرار عمل جرمي داخل مدة معينة من ارتكاب الفعل الجرمي الأول ، سبق الإصرار أو الترصد أو هما معا ،الجنح التي تسبق أو تلحق جناية ،و هلما جرى من الأمثلة التي تدخل في هدا المضمار .
و لعل هده ،أي ظروف التشديد الظاهرة المنصوص عليها في القانون يكون وجودها ماديا ملموسا ،و تعليلها واجب قانوني ، لدرجة نقصان التعليل يوازي آنعدام الحكم أو القرار الصادر. لكن عكسها أي تلك المضمرة و الخفية ،تدخل في صميم قناعة القاضي و كذلك في سلطته التقديرية . و هاته الأخيرة تعتبر الهامش الذي تدخل منه رياحا كثيرة من شأنها أن تتشكل عنها غيوم مكهربة بالسالب و الموجب ،عند التقاءهما ترعد السماء ،فيتساقط برد حجمه يتناسب و قوة الرعد . مما ينجم عنه سيولا ووديان و آنجراف أتربة كثيرة ،و آنصعاق كثير .
بالعادة و الديدن في قراءة الأحكام الجنحية و القرارات الجنائية ،تكاد تتكون لديك قناعة كبيرة جدا ،في أن تعيد السؤال مرات عديدة على نفسك ،و تخلو بها بعيدا من أي ضوضاء،علك تجد في عمقك ،صيغة و لو تخيلية عن القصد الذي ابتغاه المشرع من تعبير “السلطة التقديرية في الأحكام و سلطة الملائمة في الإتهام ” و الغريب كل الغرابة ،أنه لم يرتب عن خرقهما أي شيء . و كيف له دلك و كل فرد يختلف عن الآخر في قناعاته و سلطاته التقديرية . و من هنا ،فقد تصدر عدة أحكام مختلفة اختلافا كليا ، في نفس القضية. و دلك بحسب اختلاف السلطة التقديرية لكل منهما .
بهدا المنطق الغير السليم ،هل يمكن أن نرهن حرية الناس و الأفراد و نحكم عليهم بسنوات طويلة جدا من السجن، إعمالا للسلط التقديرية ، سيما وأن القانون يدخل في إطار العلوم ،و العلم لا يخضع للسلطة التقديرية بل يخضع لعمليات رياضية حقة و لتطبيق النصوص ،ليس بالمعنى الحرفي و لكن بما تقتضيه العدالة التي هي لج عميق لا يسبر غوره إلا القليل .
نعيش في المغرب ،و نعلم جيدا الظروف التي تحيق به ،و لا أحد بمنأى عن تبعيات دلك، حتى و لو من الجانب النفسي . أذكر أني شاهدت يوما برنامجا ثقافيا يعالج أسباب وقوع كارثة : ” تشيرنوبيل ” التي حدثت في روسيا . و مند تلك اللحظة أصبح جل موظفي هده الوكالة النووية،يخضعون كل يوم يلجون فيه إليها لتأدية عملهم، إلى اختبار نفسي من قبل أخصائيين نفسيين . و إدا كان الأمر سيان فيما ينتج من آثار بين هدا و داك،إذ أن أي خلل نفسي سينتج عنه محق للحياة ،”و من قتل نفسا كأنما قتل الناس جميعا ” .و فقدان الحرية لا يختلف كثيرا عن تلف الأنفس ،ثم أليس رهن حياة الناس بالسلط التقديرية لأشخاص آخرين لا علم لنا بنفسيتهم من شأنها تدميرهم كليا .
في الملفات السياسية التي تكون معروضة أمام المحاكم ،تظهر لنا علنا ظروف التشديد الخفية ،التي تنبعث انطلاقا من السلطة التقديرية و سلطة الملائمة التي سربها علنا المشرع لغاية في نفسه قد بغاها . فالسياسة بدورها تعتبر في بلد غير ديمقراطي ظرف تشديد ،ممارستها بدون نفاق و بدون كلبية على الأقل تعتبر ظرف تشديد .
رأينا و قرأنا تاريخ المغرب خاصة ما يتعلق بالمحاكمات السياسية وما صدر فيها من أحكام ثقيلة ، تئن تحت وطأتها الجبال. كان آخرها في العهد الحديث الذي نحن عليه شهود ،الأحكام التي صدرت ضد شباب الحسيمة ،لا لشيء فعلوه إلا أنهم طلبوا و بتهور و اندفاع و حماسة شباب في مقتبل العمر ، لديه غيرة على البلاد و العباد، تأمين ظروف حياة كريمة. هاته المحاكمة و بلا ريب شملتها ظروف التشديد الخفية ،تلك التي لا يعلمها إلا الراسخون في العلم .
كان هناك حراك ،و أي حراك من شأنه أن يجعل الأرض تمور تحت الأرجل .تبع هدا الحراك اعتقالات بالجملة .انتفض الناس .شجبوا الاعتقالات لأنها تعسفية .بدأت المحاكمات بعد اتهامات ثقيلة . جحافيل من المحامين و مثلهم من وسائل الإعلام . دولت القضية . أصبحت رأي عام وطني و دولي .انتفاضات هنا و هناك .وسائل التواصل الإجتماعي تكاد تتحول إلى مؤتمرات صحفية و إلى مكان للشجب و التنديد و التحليل السياسي و كأن بك ستقوم الواقعة غدا. و أمام كل هدا أتى التحدي ،تحدي دولة و نظام للشعب .فهبة الدولة لا يمكن أن تمس خاصة في بلد لا يزال يقبع تحت أتون الفساد و الأمية .. .
أمام كل هدا التحدي و كل هدا الإهتمام ،ألا يمكن القول على أن هدا كله يعتبر ظروف تشديد خفية ؟
لو أن هده الإتهامات كلها، التي توبع بها ،مثلا شباب الحسيمة ،لكن بالموازاة مع دلك ،لم يتبعها كل هاته الجلبة و كل هدا الإهتمام ،فهل ستكون الأحكام التي ستصدر شبيهة لمثل التي صدرت الآن .؟ من المؤكد ستكون مختلفة جدا . لأن محاكمتهم على هدا النحو ،هي محاكمة الجميع ،و هي تنبيه و عبرة لكل من انتفض . و الأكثر من دلك هي وسيلة من أجل سكون الأرض .و لنا في التاريخ عبر .
القانون الجنائي المغربي عرف عدة تعديلات ،لكن بيت القصيد أو ما يعرف بالسلطة التقديرية للقاضي و سلطة الملائمة للوكيل العام ووكيل الملك ،بقيت على حالها ،لم يطلها أي تغيير أو تعديل .ربما لا تتآلف و لا تتسامى و المنطق السليم و كدا لما هو متعارف عليه في العلوم الصحيحة و السليمة . لكن تعديلهما هو مطلب سيأتي حينما يعي الناس خطورتهما و ما يترتب عنهما من آثار سلبية لا يمكن تداركها مع الوقت .خاصة و أن محكمة النقض التي هي محكمة قانون لا تراقب و لا تناقش السلطة التقديرية، لأنه بكل بساطة، لكل سلطته التقديرية و قناعاته .
و هل في العلوم تختلف القناعات؟
*عبد الغاني بوز محام بهيئة القنيطرة