وجهة نظر

مأساة “الأميرة “المنسية :مليكة أوفقير

الحسن في المآسي التي تصيب الشعوب،أنها تجعل من قراءة التاريخ و معرفته ، ضرورة ملحة .مما يتأتى الوقوف على القضايا التي لازالت تشكل موضع إبهام و لبس و غموض ،و دلك من أجل التعريف بها وطرحها و مناقشتها و كذلك سبر أغوراها .فمن المآسي، تصنع الرجال.

فتاريخنا الحديث، يحفل بالعديد من هدا النوع من القضايا التي لازالت غامضة و عصية على الفهم، التي في كل مرة لا تنفك تظهر فارضة نفسها بقوة ،كلما ظهرت مأساة جديدة، تكون قاب قوسين أو أدنى منها في الشبه .

حتى المآسي تتميز بذاكرة قوية، فكلما خبت إحداها بفعل مرور الزمن أو بفعل التناسي، إلا و تظهر من جديد كلما حدث فعل مشابه لها.

و على حد تعبير صاحبة “الأسود يليق بك ” أحلام مستغانمي “،فكتابة التاريخ و سرده و حكيه ،كما هو الحال عندنا ،إنما هو فقط اغتيال له ،و لشخوصه و لصانعيه.و بالمجمل فنحن نكتب من أجل أن ننسى لا غير . لكن الكتابة وحدها لا تكفي لطي صفحة مظلمة، تحتاج إلى الكثير، للتصالح معها.

كثير من أفراد الجيل الجديد لا يعرف المآسي التي عرفها العصر الذي ودعناه و الذي لا زالت تداعياته و الآثار المترتبة عليه، تتراءى للناظر بشكل واضح على مسار زماننا هدا،إن بشكل أو بآخر .و السبب كل السبب ، هو الأمية ،التي تعتبر العدو رقم واحد للإنسانية . لكن في بعض الأحيان و مع كل تحفظ ،الأمية و قلة الوعي و الفهم ،تكون مفيدة ،غالبا في دول غير ديمقراطية . فأن تفهم و تعي ،يعني أنك سوف تتألم . هدا إن لم تقضي أيام حياتك في السجن كضريبة لوعيك و فهمك .

واحدة من تلك المآسي الكثيرة التي يحفل بها تاريخ المغرب ،قد عرفتها عائلة أوفقير . هدا الإسم الذي لا زال لحد الساعة ، مرتبط في الذاكرة المغربية و حتى العالمية ، بالرعب و الإستبداد .
فحينما نقرأ عن قضية عائلة أوفقير و ما عانته و قاسته من عذابات و آلام ، فمما لا يدع مجالا للشك ، أننا سنشكك في دلك ،لسبب واحد ووحيد ، هو عدم قدرة العقل البشري على استيعاب و تحمل كل تلك المعاناة التي مرت منها تلك العائلة. لأنها أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة . أو أنها حكاية من حكايات ألف ليلة و ليلة .

ولولا أن زمن وقوعها ليس ببعيد عنا ،و شخوص تلك المأساة، لازالت أغلبها على قيد الحياة ،كنا لنشكك في الأمر و نعتبره، يدخل في باب التثقيف و التسلية و الأحاجي التي تخوف بها الجدات أحفادهن الصغار، حتى يناموا أو يتوقفوا عن افتعال الأفاعيل .

فحتى حكايات ألف ليلة و ليلة ، نعتبرها من نسج الخيال ،ربما فقط ،لأن زمان كتابتها بعيد عنا بكثير .لكن من يدري أنها ليست واقعية و حقيقية .خاصة إدا ما وجدنا في تاريخنا الحديث ،حكايات لا تختلف عنها كثيرا، و من هده الحكايات، حكاية عائلة أوفقير.

فمليكة أوفقير، “الأميرة”، ثم تبنيها من قبل محمد الخامس و هي طفلة صغيرة ، بعدما سلماها أبواها طواعية له . و هل يرد للملك طلب؟ و بعد وفاته وجلوس الحسن الثاني على العرش، صارت إبنة له بالتبني كذلك .إذ كان أبوها” الطبيعي” الجنرال محمد أوفقير ، من أقرب المقربين إلى الملكين معا.

ظروف المرحلة التي كانت تتخبط في الفوضى و اللاإستقرار و اللاأمن ،ولكونه كان من بين رجال الأمن الأقوياء،فقد فرضته تلك المرحلة فرضا ،ليكون ما كان عليه . و كان كلما علا و ارتفع من عال إلى أعلى ،إلا وازداد طموحه بشكل كبير،حتى وصل به الأمر إلى تدبير انقلاب من أجل الإستفراد بالحكم .فالطموح لا حدود له .و الإرتفاع و العلو في تقلد المناصب العليا، من جنرال إلى مدير الأمن إلى وزير الداخلية، كان يثم باطراد و تناسب مع عدد الثورات أو الحراكات التي يقوم بإخمادها ،بوسائله الخاصة ، التي كان يستعمل فيها شتى أنواع الأسلحة .

فشل الجنرال أوفقير في طموحه هدا ،كان ثمنه غاليا . أدته عائلته من دمها و لحمها . حتى إبنه الصغير الذي كان يبلغ من العمر سنتين و نصف لم يسلم من العقاب .
السلطة لا تقبل القسمة إلى قسمين . و المنتصر أول ما يفعله ،يفتك بكل ما يمث بصلة إلى المنهزم . هكذا هي غريزة الطبيعة الأولية .

مليكة التي كانت من قبل ،تحيا حياة الأميرات و الملوك .و كان الكل يتمنى أن تشمله بعطف قربها ، تحولت بين ليلة و ضحاها ، إلى منبوذة بين أربعة جدران مظلمة و مكروهة بين الكل .لا لذنب ارتكبته ،سوى أنها نطفة من نطف رجل ،كان عيبه هو فعل أي شيء ،حتى ولو كان فناء البشرية جمعاء ، من أجل بلوغ طموحه المبالغ فيه . لكن السجن، لم يمنعها أن تنسى ما كانت عليه في السابق .بل أجبرها على أن تخرج من الحلم إلى الواقع . واقع الإنسان الذي يتنكر لكل مبادئه في أول محك ،ما إن يلتفت في أول منعطف. لكن الذاكرة لا تخون ،و إدا تطلب الأمر في بعض الأحيان ،فقد تسعفك في التغلب على العوائق و المطبات ،التي لم تكن في الحسبان.

بسبب دلك، استطاعت و لمدة عشرين سنة قضتها في المعتقل بدون محاكمة ،أن تروض الوحش الكبير “الموت”، حتى يعفو-إلى حين – عن عائلتها المكونة من ستة أفراد ،بما فيهم الطفل الذي كان يبلغ من العمر سنتين و نصف. تحايلت عليه بحكايات من نسج خيالها ، تماما مثلما فعلت شهرزاد، حينما كانت تحكي للملك المغدور في عرضه و شرفه “شهريار”،حكايات خيالية ، لكنها ممتعة على الأقل، للملك “شهريار ،الذي كان كلما تشوق كثيرا لسماع المزيد من حكاياتها ،كلما أجل وفاتها . فأنجت بدلك نفسها وعائلتها و بنات شعبها من الموت المحقق .

شهرزاد نالت الشهرة و نالت الحظوة و خلدها التاريخ بين ثناياه.في حين ملكية أوفقير و عائلتها ،طواهما الزمان ،بعدما تنكر لهما الوطن و الشعب . لا لشيء إلا لأنهما أبناء رجل صنعه تاريخه .فكل واحد إنما هو صنيعة الزمان الذي يعيش فيه .و لا يمكن مؤاخذة أشخاص عن جريمة ارتكبها أحد أقربائهم . إذ لا حرية هنا في الإختيار.

ففي كل مرة ،قد تحصل مأساة ،سوف تبرز ترا مليكة أوفقير و عائلتها من تحت الرماد الذي يخفي جمرا ملتهبا ،و ستظهر من جديد و بكل قوة، هده التراجيدية التي تصلح لصنع فيلم ضخم قد يحصل على أكبر الجوائز العالمية. إلى أن يتم العمل على رد الإعتبار لهده العائلة المكلومة ،التي تعتبر مأساتها وصمة عار و جرح غائر في جبين تاريخ المغرب .

نحن لازلنا لحد الساعة نراوح مكاننا ،و نستحيي من تاريخنا المليء بالفجائع و المآسي ،و نخاف من المواجهة التي لا بد منها ، أطال الزمن أم قصر . و من دون دلك ،أي من دون هده المواجهة سنكون فقط ،كمن يكذب على نفسه .بل ربما سيتكرر التاريخ نفسه كما يحدث اليوم ،لكن بإضافة و حلة جديدة ، تتلخص في أن السجن و التغييب بعدما كان يثم بدون محاكمة، أصبح الآن و بفعل ضغوط خارجية نسبية، تضفى عليه المشروعية التي تسمى بالمحاكمة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *