وجهة نظر

تهافت “تفكيك مفهوم الجهاد”

حملت الرابطة المحمدية للعلماء على عاتقها مهمة التصدي “للمتطرفين” ومواجهتهم وكشف عوارهم وذلك من خلال القيام بفضح “قبح خطابهم وبشاعته” وبيان أن الخطاب الذي يعتمدونه ويتبنونه ليس من الإسلام في شيء، حتى وإن زعم ذلك.

وقد فعلت ذلك من خلال إصدارها مجموعة من الكتيبات الصغيرة أطلقت عليها “دفاتر تفكيك الخطاب المتطرف”؛ تناولت فيها مفاهيم من مثل “الجهاد” و”القتال” و”الجزية”. وزعمت المؤسسة المذكورة أنها، بكتيباتها تلك، قد نقلت المعركة إلى ساحة هذه الجماعات، وأن هذه الأخيرة لم تعد كما كانت في موقع المهاجم، بل في موقف الدفاع.

وسنرى في هذه الورقة إلى أي حد تمكنت هذه الإصدارات من تحقيق رهانها والوفاء بعهدها. و هل تستحق تلك الدفاتر ما تروجه الرابطة من الدعاية لها والاحتفال بها. وسنبحث في الدفتر الذي خطه العبادي وعنونه بـ “تفكيك مفهوم الجهاد” إذ هو الذي حمل ويحمل لواء هذه الهجمة ويقودها. وبالتالي فإن كشف ضعفه وعجزه عن القيام بهذا العمل بيان لعجز من هم دونه ممن يعملون تحت إمرته ووفق إرشاداته.

ونشير بدءً أن الدكتور أحمد العبادي مسكون بهاجس أن ينتمي إلى نادي المثقفين والمفكرين، ولذلك لا يترك أية فرصة تسنح له إلا ويتحدث بلغتهم وبلسانهم، يريد، بذلك، أن يخلع عمامة المفسر العالم ويعتمر قبعة المثقف ،حتى أنه يستعمل في تفسيره للقرآن الكريم لغة هي غير لغته، ويدخل فيه، وهو الكتاب المقدس، غير ما ينتمي إليه أو جنسه.

أية ذلك مفردة “تفكيك” التي عنون بها دفتره ذاك، والتي لم نر فيها أي تفكيك، بل بدا لنا أنها مزيدة ولا معنى لها، ولا تتضمن أية فائدة علمية.

بل، إن من أولى الملاحظات حول هذا الدفتر أن لغته لا يمكن، بحال، أن تعتبر تفسيرا، لأنها لا تلعب أي دور في التفسير، وهي إلى الطلاسم والرموز أقرب منها إلى الشرح والتوضيح، بل إنها تذهب ـ في بعض من الحالات ـ إلى عكس ما تقصده الآية.

كما أن من الملاحظ أيضا، أن الآيات التي يزعم العبادي انه يفسرها ويقربها إلى الناس بطريقة صحيحة، تقطع الطريق على أهل المروق وتحول دون توظيفه التوظيف السياسي السيئ الذي ينهض ضد مقاصده وأهدافه ـ كما يقول ـ، تلك الآيات لا يبدو أنها تحتاج إلى تفسيره، لأنها أوضح منه وأبسط.

يريد العبادي في دفتره ذاك، أن يلفت الانتباه إلى أن المعنى الذي نفهمه نحن ـ وفهمه قبلنا العلماء من سلف هذه الأمة ـ من كلمة الجهاد وكما تبلور في كتاب الله، ليس هو المراد. وأن القران الكريم ـ وخاصة الآيات التي أتى على ذكرها في دفتره ـ ، هي على العكس تماما مما يظهر لنا.

قال “إن المصطلحات كالكائنات تحيي في النص الذي توجد فيه” وبالتالي، ينبغي التعامل معها بحذر، والجهاد من هذا النوع” يتجلى بحسب السياقات التي يتواجد فيها” وأن أي تعامل غير صحيح معه سيجر ” إلى فهوم سقيمة ومبتسرة وجزئية” وهذا تماما ما حصل مع مفهوم الجهاد إذ تحول” إلى أداة قتل في أيدي أهل المروق”.

وقد ذكر الرجل تعاريف عدة من أهل العلم، الجامع بينها أنها تشترك في حمل الجهاد على “استفراغ الطاقة وعدم الخوف في الله لومة لائم والعمل لله حق عمله وعبادته حق عبادته ومجاهدة النفس والهوى”، نقل ذلك، وسكت عن أقوال وتفاسير هي أكثر شهرة من تلك التي أوردها، ورافع دفاعا عنها ، من ذلك ما كتبه القرضاوي في كتابه” فقه الجهاد” حيث قال:

“الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو، وقد استقر في العرف الفقهي ان كلمة الجهاد تعني القتال، وخص[بضم الخاء] عند الفقهاء شرعا بأنه قتال الكفار، وقال بعضهم هو بذل الجهد في قتال الكفار و البغاة” [ ونحن لن نبالغ في النقل عن مصادر أخر لأن هذا، الذي نقلناه عن القرضاوي، هو من الشهرة بحيث لا يحتاج إلى مزيد تأكيد]

وربط العبادي تفسيره ذاك [الوارد أعلاه] بالمرحلة المكية، لأنه مستمد من الآية الكريمة [وجاهدهم به جهادا كبيرا] وهي أية مكية و من جملة آيات سورة الفرقان التي نزلت قبل الإذن بالجهاد.

هذا ،وقد فكر وقدر، ثم فكر وقدر، وعمل على تأويل صريح الأحاديث التي اتفق العلماء على أنها تفيد الجهاد بالسيف ولا شيء غيره من مثل قول النبي بان[ ذروة سنام الأمر الجهاد] بقوله أنه “حالة مصاحبة للإنسان في كل أحواله لأنه يكون ملازما للقلب ويكون ملازما للجنان ويكون ملازما للسان وما يصدر عنه من بيان”.

وهو لا يأل جهدا في تفادي ذكر الجهاد بمعنى القتال، فيقول “حين يكون التهديد بالأذى وبالضرر حالا يفرض ساعتئذ الدفاع عن الأرواح وحقن الدماء بالوسائل المتاحة لمنع من عنده نية العدوان من إمضاء عدوانه” لكنه لا يقول لنا كيف يكون ذلك؟ كيف سيمنع من عنده نية العدوان من إمضاء ذالك العدوان؟

والملفت في هذا السياق أن العبادي يعتمد في كتيبه “تفكيك مفهوم الجهاد” على سورة التوبة ويستقي منها الآيات التي يقوم بمراجعتها ليقول عنها أنها” سلم كلها ورحمة كلها” ونفتح هنا قوسا لنشير إلى أن القران كله سلم ورحمة، مع ملاحظة أنه سلم لمن سالمه وحرب على من حاربه.

وذلك في محاولة يائسة منه أن يقنع الناس أن الجهاد الذي تضمنته السورة، وأفصحت عنه وبينته، ليس ما نفهمه نحن، وإنما ما يفهمه هو، وأي جهاد النفس، مخالفا، في ذلك، جميع العلماء من السلف والخلف، ومخالفا أيضا حتى المفكرين العرب، الذين نظروا فيه .

من النافل القول أن سورة التوبة، ولها أسماء كثيرة من مثل الفاضحة والمدمدمة و المخزية والمشقشقة وسورة العذاب وغيرها من الأسماء التي ذكرها العلامة الزمخشري، قد نزلت قبل وأثناء و بعد معركة تبوك كما قال عبد الله عزام.

فهي إذن تدور في جو الحرب وما تحيل عليه، وقد جاءت كما قال المرحوم الجابري في كتابه[ العقل السياسي العربي] “بمثابة تقرير نقدي قوي وشديد عن الوضعية الداخلية في دولة الدعوة ،لقد نددت بجوانب الضعف وأوضحت المسؤوليات، ولكن من موقف الشدة لا من موقف اللين والضعف”.

وقد نقل سيد قطب في الظلال عن ابن قيم الجوزية في زاد المعاد قوله :إن هذه السورة حين نزلت أمر[الله] فيها رسول الله أن يقاتل عدوه :من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم، وجعل أهل الكتاب في ذلك ثلاثة أقسام: قسما أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا، فحاربهم وظهر عليهم، وقسما لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم، وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم.

ويلاحظ سيد قطب “أن أسلوب هذه الآيات وإيقاع التعبير فيها يأخذ شكل الإعلان ورنينه العالي فيتناسق أسلوب التعبير مع موضوعه والجو الذي يحيط بهذا الموضوع” كما لاحظ في الأسلوب القرآني القوة في التحضيض والتأليب على قتال المشركين، ومقاطعتهم في الجزيرة قاطبة.

وجل العلماء الذين درسوها [وقرأنا لهم] قالوا أنها تتكون من عدة مقاطع، تدور كلها حول إعلان الحرب على المشركين، وحملة شديدة على أهل الكتاب، وتهديد وتبكيت ووعيد للذين يقعدون عن الجهاد، وفضح وتعرية وكشف لآيات المنافقين وصفاتهم ،وتبيين لأصناف وأقسام وطبقات المجتمع الذي كان سائدا آنذاك، كما ذكر عزام .

ومما يؤكد هذا المعنى ويؤيده أن السورة بدأت دون البسملة، وقد نزلت على عادة العرب وطريقتها، إذ كانت العرب إذا أراد قوم منهم إلغاء عهد ونقضه كتبوا كتابا ولم يكتبوه مبتدأ بالبسملة، في إشارة إلى أن الصراع والصدام آت لاريب .

وهذا هو الراجح عندنا، وليس ما ذهب إليه بعضهم من أنها اشتركت مع الأنفال في نفس السياق ونفس القضية فجعلوها دون بسملة حتى لا تنفصلا عن بعضهما.

وعند قوله تعالى [فإذا انسلخ الأشهر الحرم ….الآية]وهي، هنا ،واضحة وضوح الشمس في التأليب والتحريض وحض المؤمنين على مواجهة المشركين ومقاتلتهم .

يقفز على معناها ومرادها، وينتقل إلى موضوع لا تعنيه الآية إطلاقا، بل لا تشير إليه حتى، فيقول أنها” لا ينبغي أن تفهم على إنها إكراه في الدين وإجبار للناس على اعتناق الإسلام” مما يجعل سؤال علاقة هذا الموضوع :موضوع حرية الاعتقاد، بموضوع الآية قائما وملحا،أي هل قال احد من المفسرين والعلماء أن الإسلام يحمل الناس على الإيمان به بحد السيف وتحت التهديد؟

وفي قوله تعالى[ فان تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة….الآية] والتي بان منها وتوضح أنها لا تترك للمشركين أي خيار،فإما الإسلام أو السيف؟ وفيها حزم وشدة وضراوة ،وبعيد أن تكون كما ادعى العبادي أن المخرج والرحمة دائما موجودان . إنهما موجودان، لكن بشرط الإسلام وقيده ،وليس بهذه اللغة التي يسعى العبادي إلى إقناعنا عن طريقها أن هذه السورة ـ حتى ولغتها شديدة وعنيفة ـ أنها إلى الدروشة أقرب .

وعلى الرغم من أن العبادي يسجل أن آيات سورة التوبة مقصدها هو “فسخ عزائم العدوان عند أهل العدوان” كما يحلو له أن يقول إلا انه يشرق[بفتح الشين المشددة وكسر الراء] ويغرب [بفتح الغين المشددة أيضا وكسر الراء] في التأصيل لقضايا ،لا معنى لها في سياق موضوعه وليست من مقتضياته.

من ذلك ، أنه عند تناوله لقوله تعالى[ يأيها الذين امنوا لا تتخذوا إباءكم وإخوانكم أولياء من دون الله إن استحبوا الكفر على الإيمان …. إلى قوله تعالى فتربصوا حتى يأتي الله بأمره إن الله لا يحب الفاسقين ]الآية جعل لها عنوان “مفهوم الجهاد و وظيفية العلائق” وهي العبارة التي ليس لها أي معنى غير الفذلكة وادعاء امتلاك الثقافة، وإلا فأي تناسب بين موضوع الآيات وعنوان فقرته :”مفهوم الجهاد ووظيفية العلائق” ولا قارئ سيرى مناسبة بين مفهوم الجهاد ووظيفية العلائق تلك .اللهم إلا أن العبادي يريد أن يخرج الآية عن سياقها ومرادها ويشغل الناس بما لا تقصده الآية ولا تحيل إليه

إن في الخطاب الإلهي قوة غير عادية ، والله لا يبقي أمام المؤمنين أي خيار أمام طريقه :أي التضحية بكل شيء في سبيله وعدم الالتفات إلى أي شيء مهما علا وغلا، إذا كان هذا الأخير سيلهي عن الله والجهاد في سبيله ،وفي لغته تبكيت وتهديد ووعيد لمن يضعف أمام ذويه، فيؤثر الآل والمال عن السير إلى الله والجهاد فيه حتى تكون كلمته هي الأعلى، والآية الكريمة غاية في الحسم والحزم في موضوعها وقضيتها،عكس لغة العبادي وأسلوبه ومفرداته ،التي تأتي على النقيض تماما من لغة القران وأسلوبه.

لن نتقصى كل الآيات التي تناولها العبادي في كتيبه ذاك، لأنها، جلها ،تعامل معها العبادي بشكل بالغ في البرودة وعمد إلى شرحها وتفسيرها ـ زعم ـ على النقيض تارة ،وبخلاف مقصود الاية تارة أخرى.

وتكفي العودة إلى ما قاله هو ومقارنته بما جاء في كتب العلماء المفسرين للوقوف على حجم الفرو قات بين ما فهمه الناس ـ أئمة وعامة ـ من النص الإلهي وبين ما كتبه العبادي.

إن ما كتبه الدكتور العبادي بعيد جدا عن ما تفقهه عامة المسلمين . وربما كان هؤلاء العامة أكثر معرفة بالنصوص الشرعية التي أوردها العبادي في معرض إعادة تفسيرها بما يلائم العصر والزمان .

وتناول العبادي الحديث مراتب الجهاد التي منها: “جهاد الشبهات التي في العقول والتنبيه إلى تصرم الزمن وجهاد الغفلات …..” وسجل أن سورة التوبة ضمت” اضرب بناء الكفايات الممكنة من ممارسة جهاد النفس وجهاد العقل وجهاد الوعي لكي ينتقش فيها جميعها كل ما سلف على شاكلة يصبح الإنسان قادرا على إبصار ألوان الطيف كلها للتعامل مع كل منها بما يلزم من غير عوج ولا أمت “.

ونحن نترك هذا النص من غير تعليق لأنه لا يفيد شيئا .

كما عرج على أنواع الجهاد فجعل على رأسها جهاد النفس وعنى به “جهادها حتى لا تبقى في حالة الجمود وجهاد المكابدة للبحث عن الأجوبة وإلزام النفس الاستدامة في طلب العلم وجهاد الموانع التي تحول دون طلب العلم”. إلى أن وصل إلى الجهاد” بالانتظام في البنيان المرصوص والحراك إلى الميدان المنصوص والجهاد بالقيام بالقتال المخصوص”

ونبه إلى أن هذه الأضرب الثلاثة لا تكون إلا بإذن من مؤسسة الإمامة العظمى ، لأنه لا حق لفرد أو مؤسسة في إعلان هذا القرار غير مؤسسة الإمامة العظمى.

غني عن البيان القول أن دفتره ذاك ،كانت خلاصته أن يسحب البساط من تحت التنظيمات الجهادية التي تعلن أن لها الحق في إعلان الجهاد والدعوة إليه وممارسته، لأنها لا تملك المشروعية، ولأنها ليست ذات مؤسسات عظمى، ولا تشتغل تحت هذه المؤسسة .

وأنه [أي الدفتر] تضمن هدفا واحدا ،ووحيدا، هو تنبيه المسلمين ممن سلكوا سبيل الجهاد إلى أن الجهاد الذي يطالبهم به الشرع الحنيف هو أن ينصرف كل واحد منهم إلى حال سبيله، وله في جهاد نفسه مندوحة، وما يغنيه عن حمل السلاح والتعرض للمخاطر ،خاصة وأنه بين أن مجال الجهاد هو أوسع وأرحب.

قال ” الجهاد كما نقرؤه في سورة براءة أو من سورة الأنفال ليس البتة كما يحاول البعض تصويره بالسنان والسيف فقط”
هل من اللازم الإشارة إلى أن ما يدعيه العبادي لا يعد شيئا، وأن أي واحد من أبناء المسلمين ممن تلقى قدرا ولو بسيطا من العلم الشرعي لن يحتفل به ،ولن يكلف نفسه لعرضه على ميزان الشريعة حتى؟ .

وهل بقي أيضا أن نشير إلى أنه لا وجه للمقارنة بين طريقة العبادي والطريقة التي تتناول بها الجماعات الجهادية النصوص الشرعية والتي لا تبقي لمثل هرطقات العبادي أي خيار غير أن يعلن نفسه مفلسا ؟

من ذا من المسلمين سيقتنع بهذه البدع التي يؤصل لها العبادي؟

والعجب أنه يجيز لنفسه أن يزعم أنه سدد لتلك الجماعات طعنة نجلاء وانه أنهى خطابها وأفشله.

وهل بقي أيضا أن نشير إلى أن اللغة التي كتب بها كتيبه ذاك لا علاقة لها نهائيا بما تعود عليه الناس من لغة الفقهاء والعلماء ؟.
إنها إلى البرودة اقرب ولذلك لا يعبأ بها الناس في حين أن لغة التيارات الجهادية إلى الحرارة أقرب ولذلك هي أكثر تأثيرا في الناس وأكثر إقناعا.

* باحث ومعتقل سابق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *