وجهة نظر

المجلس البلدي لمدينة جرف الملحة بين مطرقة الأمية وسندان الفساد

أمام الوضع المزري الذي تعيشه بلادنا ،على صعيد جميع المجالات سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية … تطرح العديد من التساؤلات من قبل باحثين و مهتمين بالشأن الوطني ، أو حتى من قبل مواطنين عاديين ،حول الأسباب التي تقف حائلا دون الإفلات من حبل التخلف الذي يلتف حول خصرها .

فرغم أن العديد من الباحثين في مجالات شتى ،و المشدودين بالغيرة الوطنية ،يجتهدون كثيرا ،مضحّين بوقتهم و جهدهم في سبيل تقديم ،صيغ مناسبة، و مؤطرة تأطيرا علميا ،للجواب عن الأسئلة المرسومة في سماء المغرب القاتمة ،إلا أن كل جهودهم، تبقى حبيسة رفوف المكتبات ،أو أرشيف الجرائد المتعددة و المتنوعة ، لا يعبأ بها أحد ،أو يقرأها حتى .

هذا التخلف الذي تعيشه البلاد ،ليس وليد لحظة أو لحظات ،بل هو تراكمات لسنين عديدة. حيث قاوم وناضل العديد ممن تتملكهم الغيرة الوطنية من أجل التمتع بوطن، يتسع للجميع ،قوامه التقدم و التطور و الازدهار.لكن جيوب المقاومة الخفية و الظاهرة، كانت تقف بالمرصاد ،لتقتل كل روح تواقة للتحرر و التطور و الانعتاق .

و من بين الأمثلة التي تجعل المغرب لا يتحرك إلى الأمام، إن لم نقل أنه يتقهقر بسببها إلى الوراء،ما ينص عليه القانون التنظيمي رقم 11-59 المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية ،خاصة فيما يتعلق بشروط الترشيح .آخذين في عين الاعتبار أن الجماعات المحلية تعتبر اللبنات الأساسية لأي تقدم محلي على الأقل.

فبمجرد الاطلاع على هذه الشروط، المطلوب توفرها في المترشح لشغل منصب رئيس أو عضو مجلس بلدي مثلا، تتناسل إلى الذهن العديد من علامات الاستفهام و التعجب ،من قبيل كيف يمكن لمن تتوفر فيه مثل هذه الشروط ،أن يسيّر مدينة أو جهة أو إقليم أو يعمل على تطورها ،أو حتى أن يفهم التعقيدات التي تمتاز بها القوانين المنظمة لها ،و هو لا يتوفر على أدنى مستوى دراسي أو ثقافي ؟؟

فباستحضار حجم المسؤولية التي تلقى على عاتق رئيس المجلس البلدي أو على النائب البرلماني أو على رئيس مجلس جهوي أو إقليمي، و التي لا تقل مسؤولية عن باقي الوظائف التي تتطلب الحصول على شهادات جامعية عليا، فإن التساؤل يبقى مشروعا حول مبتغى و هدف المشرع ،من عدم توفر شرط المستوى الدراسي في المرشح لمثل هذه المناصب المهمة و الحساسة .

صحيح أن لكل مواطن الحق في ممارسة حقوقه المدنية و السياسية،كما هو منصوص عليها في الدستور ،و كما هو متعارف عليها عالميا من خلال المواثيق الدولية ،التي يعتبر المغرب من المنخرطين و المصادقين عليها .

لكن ينبغي التقبل على أن هذا الحق و كما هو معمول به أيضا ،في جميع الدول التي تهدف وراء التطور و التقدم ، مقيّد بشروط .و هذا التقييد ليس وراءه وازع عنصري أو ما قد يقال في هذا الشأن.بل هو كصمام أمان ،ضد كل ما من شأنه أن يؤثر سلبا على حقوق المواطنين ..و إلا لأتحنا حسب هذا المنطق، لمن لم يلج في حياته قط ،إلى المدرسة ، الفرصة لأن يزاول مهنة الطب أو القضاء أو المحاماة أو الهندسة أو…. و هذا من طبيعة الحال لا يقبله العقل و يخالف الطبيعة البشرية .

و كدليل على بؤس القوانين و ما ينتج عنها من آثار وخيمة، وما تخفي من أسرار لعذابات المغاربة و تخلفهم ، ما عرفته و تعرفه مدينة جرف الملحة التي تقع غرب المغرب . وما ينطبق عليها و يقال فيها ،ينطبق و يقال على جل المدن المغربية ..

فهذه المدينة قد تداول على تسيير مجلسها البلدي العديد من الأشخاص، لم يسبق لأحد منهم أن ولج فصول الدراسة، باستثناء القلة القليلة، الذين لا يتعدى مستواهم الدراسي، الشهادة الابتدائية. والتي بدورها ، نجد منهم من حصل عليها بطرق خاصة ، فقط ،لأنها كانت شرطا أساسيا في الترشح للانتخابات الجماعية ،كما كان منصوص عليه في الميثاق الجماعي الملغى .

و الأمر الذي يدعو إلى الدهشة و إلى الغرابة أكثر،و هو من طبيعة الحال نتيجة و محصلة لما ثم ذكره سلفا ، أن كل هؤلاء الذين توالوا على تسيير المدينة و بدون استثناء ، قد تم الحكم عليهم بأحكام مختلفة ، تتلخص مواضيعها إما في جرائم اختلاس ،و إما بسبب جرائم سهلتها لهم وظيفتهم كرئيس للمجلس البلدي .

كان آخرهم قد حكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات.إضافة إلى حكم آخر، صادر عن المحكمة الإدارية بالرباط ،القاضي بقبول الطعن المقدم ضده ،من طرف حزب التقدم و الاشتراكية الذي زكاه حين فوزه برئاسة مجلسها البلدي .حيث كان موضوع هذا الطعن يتلخص في كون الرئيس المعزول قد ساعد حزب آخر في حملته الإنتخابية ،و هو الأمر الذي يخالف ما هو منصوص عليه في المادة عشرين من القانون المنظم للأحزاب السياسية.

و بسبب هذا،تم عزله ،بعد أن أصبح الحكم حائزا لحجية الشيء المقضي به. ليتم تعويضه بعضو آخر،ينتمي إلى حزب الإتحاد الدستوري، بعدما تم التصويت عليه بالأغلبية المطلقة من قبل الأعضاء المكونين للمجلس، بدون منافسة من أي أحد منهم،نظرا لكون الرئيس الجديد يعتبر من أعيان المنطقة و لا صوت يعلو صوته .

و هو نفسه الذي سبق أن منحه وزير الطاقة المنتمي إلى حزب العدالة و التنمية في عهد حكومتها الأولى ،رخصة بإنشاء محطة لتوزيع الوقود من قبل وزير الطاقة، مخالفة تماما للقانون ، لكن شريطة انسحابه من حزب الاتحاد الدستوري و الترشح باسم حزب العدالة و التنمية .

و كتحصيل حاصل، فبوجود مثل هذه الأسباب و غيرها، حتما ستكون النتيجة هي ما نراه يوميا و نتعايش معه في جميع أقطار المغرب.
فمدينة جرف الملحة، تفتقر إلى أبسط شروط الحياة الكريمة. مثلا في نهاية الأسبوع ممنوع على سكانها أن يمرضوا. لأن المستشفى الوحيد الموجود بها، يغلق أبوابه نهائيا أيام السبت و الآحاد. أما باقي أيام الأسبوع ففتح أبوابه ،يبقى رهين مزاج الطبيب الوحيد الموجود به ،ورهين كذلك حظك .

و إذا ما وجد الطبيب، فإن الخدمة التي يستطيع أن يقدمها لك ،هي ملأ ورقة بيضاء عليها طابعه الشخصي ، يخبرك من خلالها الذهاب إلى المستشفى الإقليمي الموجود بمدينة سيدي قاسم ،التي تبعد عن مدينة جرف الملحة بحوالي ستين كيلومتر . و نظرا لطول المسافة و كذلك لصعوبة الحصول على سيارة الإسعاف ،فالعديد من النساء الحوامل اللاتي وجدن صعوبة في الوضع بطريقة تقليدية ، توفين في طريقهن إلى المستشفى الإقليمي، الذي لا يقل هو الآخر بؤسا عن ذلك الموجود بمدينة جرف الملحة .ناهيك عن افتقارها لباقي الأمور البسيطة جدا، كالنقل و البنى التحتية اللازمة لكل مدينة …

تلك المنطقة ،جل قاطنيها و ساكنيها أناس قرويون .يطبعهم الفقر المقرون بالأمية .و البؤس المقرون بالأسى .و انتظار العطف المقرون بالطمع.فهم لا يعرفون أدنى حقوقهم ،و إذا ما عرفوها و علموها ،فيصعب عليهم الحصول عليها أو المطالبة بها .

و رغم كل هذا، و في كل مناسبة انتخابية ،ينبري أعيانها “الأميون “للتسابق المحموم نحو الظفر بمقعد في مجلس المدينة التي تبيض عندهم وحدهم، ذهبا . ليبقى السيد المتكلم آنذاك المال و لا شيء غير المال … على حساب جهل الناس و فقرهم و على حساب تنمية المدينة التي تعتبر من أغنى مدن المنطقة، بمداخلها الكثيرة و الوفيرة.

و ما إن تنتهي تلك المناسبة و يظفر المتسابقون بما كانوا يصبون إليه ،حتى يختفوا نهائيا ، منصرفين إلى تسيير مشاريعهم و ثرواتهم المتفرقة و المنتشرة في العديد من مدن المغرب،بعدما كانوا يجوبون جميع أحياء و شوارع المدينة ، إلى درجة أنهم يطرقون أبواب المنازل ليتوسلوا أصحابها ،التصويت عليهم.

لأنهم يعلمون أن ما يقومون به ،من توسلات و صرف الأموال و آستغباء البؤساء، إنما هي لحظة عابرة ستنتهي .

لكن نظرا لما ستعود به تلك اللحظة من نفع عليهم في سبيل قضاء حاجياتهم و أغراضهم و منافعهم الشخصية ،فإنها تستحق العناء و تستحق منهم أكثر مما فعلوه من ذل و حقارة .

فلا شك أن المشرع يعي جيدا أسباب هذا التردي الذي يعيشه المغرب ، و يعي جيدا الحلول، التي يمكن أن تقطع الطريق على التخلف، للسير نحو الرقي و التطور.

لكن الشعب، خاصة أولئك الذين يتوفرون على القليل من نسبة الوعي و الفهم ،لا يعون أسباب التقاعس الذي يظهره المشرع و كذا القائمين على شؤون البلاد، لإبقاءه أو موافقته على مثل هكذا قوانين ، و التي تعتبر السبب الرئيسي وراء بؤس المغاربة .

لكن ما ينبغي فهمه و إدراكه جيدا،هو أن بناء الحضارات و استمرارها يعتمد في أساسه على العلم الذي هو أساس هذه الكينونة ،أمّا الجهل الذي يجلب الأسى، فقد كان سببا في خراب أمم كثيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *