منوعات

وقفة عرفة بين المشرق والمغرب

من الأحكام الثابتة في السنة المشرفة: وجوب صيام كل المسلمين برؤية بعضهم لهلال رمضان، ووجوب إفطارهم جميعا برؤية بعضهم لهلال شوال؛ وما يتبع ذلك من توحيد احتفالهم بعيدي الفطر والأضحى، وإقامة الشعائر التعبدية لرمضان وذي الحجة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين” [متفق عليه]

قال الفقهاء: “هذا خطاب لجميع الأمّة؛ فكما أنَّ رؤية الواحد كالرؤية لأهل البلد، كانت الرؤية في البلد كالرؤية في كلّ البلاد”.

فالحديث “لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد، بل هو خطاب لكلّ من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم منأهل البلاد، أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم، لأنّه إِذا رآه أهل بلد؛ فقد رآه المسلمون، فيلزم غيرهم ما لزِمهم”.
والحديث يفسر قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]

وقوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية:
“وأما مذهب مالك رحمه الله في هذه المسألة؛ فروى ابن وهب وابن القاسم عنه في المجموعة أن أهل البصرة إذا رأوا هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهلالكوفة والمدينة واليمن؛ أنه يلزمهم الصيام أو القضاء إن فات الأداء”. [تفسير القرطبي (2/ 296)].

وعدم اعتبار اختلاف المطالع هو قول جمهور العلماء:
فالمعتمد الراجح عند الحنفية أنه لا اعتبار باختلاف المطالع؛ فإذا ثبت الهلال في مصر لزم سائر الناس فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب في ظاهرالمذهب. [انظر: رسائل ابن عابدين 1 / 228، 229].

وقال المالكية بوجوب الصوم على جميع أقطار المسلمين إذا رئي الهلال في أحدها. [انظر: مواهب الجليل للحطاب 2 / 384].

وقيد بعضهم هذا التعميم فاستثنى البلاد البعيدة كثيرا كالأندلس وخراسان.

قال خليل في مختصره: “وَعَمَّ إنْ نُقِلَ بِهِمَا عَنْهُمَا”. قال في منح الجليل شرح مختصر خليل (2/ 111):

“(وَعَمَّ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ مُثَقَّلَةً أَيْ: شَمِلَ وُجُوبُ الصَّوْمِ كُلَّ مَنْ نُقِلَتْ إلَيْهِ رُؤْيَةُ الْعَدْلَيْنِ أَوْ الْمُسْتَفِيضَةِ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْبِلَادِ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا لَا جِدًّاابْنُ عَرَفَةَ، وَأجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ لُحُوقِ حُكْمِ رُؤْيَةِ مَا بَعُدَ كَالْأَنْدَلُسِ مِنْ خُرَاسَانَ مُوَافِقًا فِي الْمَطَالِعِ أَوْ مُخَالِفًا”اهـ.
وفي الشرح الكبير للشيخ الدردير مع حاشية الدسوقي (1/ 510):

“(وَعَمَّ) الصَّوْمُ سَائِرَ الْبِلَادِ قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا وَلَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ مَسَافَةُ قَصْرٍ وَلَا اتِّفَاقُ الْمَطَالِعِ وَلَا عَدَمُهَا فَيَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى كُلِّ مَنْقُولٍ إلَيْهِ (إنْ نُقِلَ) ثُبُوتُهُ(بِهِمَا) أَيْ بِالْعَدْلَيْنِ أَوْ بِالْمُسْتَفِيضَةِ (عَنْهُمَا) أَيْ عَنْ الْعَدْلَيْنِ أَوْ عَنْ الْمُسْتَفِيضَةِ”.

قال في “المسوى شرح الموطأ”: “والأقوى عند الشافعي؛ يلزم حُكم البلد القريب دون البعيد، وعند أبي حنيفة يلزم مطلقاً”. [حاشية الروض المربع (3/ 357)].

وقال الحنابلة أيضا بعدم اعتبار اختلاف المطالع، وألزموا جميع البلاد بالصوم إذا رئي الهلال في بلد. [انظر: المغني لابن قدامة 3 / 88 – 89].

قال الوزير ابن هبيرة الحنبلي: “اتفقوا على أنه إذا رؤي بالليل، رؤية فاشية؛ فإنه يجب الصوم على أهل الدنيا”.
قال ابن القاسم: “وظاهره: ولو اختلفت المطالع، وهو الصحيح من المذهب”. [حاشية الروض المربع (3/ 357)]
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (22/ 35):

“ذهب الجمهور إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع، وهناك من قال باعتبارها، وخاصة بين الأقطار البعيدة”.
قال الألباني في تمام المنة في التعليق على فقه السنة (ص 398):

“وقد اختاره كثير من العلماء المحققين مثل شيخ الإسلام ابن تيمية في “الفتاوى” المجلد 25، والشوكاني في “نيل الأوطار”، وصديق حسن خان في”الروضة الندية” 1 / 224 – 225 وغيره”.

قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في “مجموع الفتاوى” (25/ 107):
“الضابط أنَّ مدار هذا الأمر على البلوغ؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “صوموا لرؤيته”؛ فمن بلغه أنه رؤي؛ ثبت في حقّه، من غير تحديدٍ بمسافة أصلاً..”.

وقال في (ص 111): “ومن حدّد ذلك بمسافة قصر أو إِقليم؛ فقوله مخالفٌ للعقل والشرع”.
وجاء في “الروضة النديّة” للعلامة صديق حسن خان (1/ 537): “وإذا رآه أهل بلدٍ؛ لزم سائر البلاد الموافقة، وجْهُهُ الأحاديث المصرحة بالصيام لرؤيته، وهي خطاب لجميع الأمّة، فمن رآه منهم في أيّ مكان كان ذلك رؤيةً لجميعهم”.

وأما اختلاف المطالع التابع لطبيعة الكرة الأرضية والناتج عن نظام دورتها في الآفاق؛ فلا يحول بين المسلمين أن يتوحدوا مبدئيا في الصوم والأعياد وإن فرقت بينهم ساعات معدودة.

فإذا جاءنا ثبوت الهلال من أي بلد من البلدان بواسطة الهاتف أو برسالة التلغراف وجاء وقت ظهور الهلال في أفقنا فان رأيناه فذاك؛ وإن لم نره لسبب من الأسباب فلا يمنع ذلك دخول الشهر ولزوم حكمه لنا لأنه ثابت برؤية شرعية ولازم لسائر المسلمين كلزوم أحكام اليوم لسائر أهل الأرض من حلول الدين، ووقوع الطلاق، ووجوب النذر .. وغير ذلك.

فاختلاف المواقع والمطالع لا أثر له كبير فيما يرجع إلى ثبوت الأهلة، وإن كان له أثر فيما يرجع إلى المواقيت الخاصة بكل بلد؛ فبعد الاتفاق على أول رمضان يكون فطر كل بلد غروبها وصومها بطلوع فجرها ولذلك فالتفاوت لا يمنع من مبدأ توحيد الصيام والأعياد اعتمادا على الرؤية إذا بلغت من وجه صحيح.

وفي الختام أقول:
بناء على أن مدلول الحديث الصحيح هو ظاهر الآية القرآنية، وأنه المنصوص عليه والثابت في المذهب المالكي وعند جمهور الفقهاء، وأنه المذهب المعمول به عند المغاربة ..

وبناء على أن وسائل الاتصال والتواصل في زماننا متطورة؛ فلا تبقى علة البعد مؤثرة كما كانت وبنى عليها الفقهاء الذين اعتبروا اختلاف المطالع عند تباعد الأقطار؛ كما قال ابن عبد البر: “أجمعوا على أن الرؤية لا تراعى مع البعد، كالأندلس من خراسان”.
وقد خولف في هذا الإجماع.

وبناء على أنه يجب على المسلمين السعي نحو وحدتهم وجمع كلمتهم، وأن الوحدة في مثل هذا الشأن (العبادي) تساعد على تحقق الوحدة في شؤون أخرى اقتصادية وسياسية، ويمكن أن تكون خطوة مؤثرة نحو هذا المقصد المهم ..

بناء على ذلك كله؛ لماذا نقر هذا المشهد المؤسف ونتطلب له التأويلات الفقهية:
مسلمون يصومون اليوم الأول من رمضان، أو يمارسون شعائر العيد، أو يقفون بعرفة في مشهد مهيب ويوم عظيم يشرع الاتحاد على تعظيمه بالوقوف أو الصيام، وآخرون يعتبرون تلك الأيام أياما عادية لا يقومون فيها بما شرع من شعائر وعبادات؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *