وجهة نظر

مشروع تصميم تهيئة أم وأد واحة فڭيڭ ؟

هل أصبحت واحة فڭيڭ عبئا ثقيلا على الدولة المغربية الحديثة لذا وجب التخلص منها بأي ثمن ؟ هل تنتمي إلى منطقة رمادية خارج مدار الدولة ؟ هل واحة فكيك لم تعد مجالا قابلا للسكن و لم تعد جزءا صالحا للعيش وبالتالي وجب تعويضها (substitution ) وتحويل أطرافها إلى مجرد ثكنات عسكرية ومخالب للدولة الأمنية الحديثة بدلا من تركها واحة مترامية الأطراف، واحة هادئة تسكن السكون ويسكنها ؟. ربما الواحة تحولت إلى الدودة الزائدة l’appendice وجب استئصالها أو إلى يد مجروبة وجب بترها ؟ هل شاخت الواحة إلى درجة لم تعد صالحة إلا للوأد ؟ (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ .بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) قرآن كريم. أو ربما لم تعد تنتمي إلى عالم الأحياء ووجب أن نعلن عن شهادة وفاتها وانقراضها ؟ أولم يعد لها من مكان لتشغله إلا داخل الذكريات ؟ (إن سرنا على هذه الوتيرة سنتحول إلى مجرد ذكرى).هل هناك من يدفع في اتجاه تحويلنا إلى مجرد قطع أثرية لتأثيث متاحف الأمم والتاريخ ؟ أو كي نصلح فقط كسرديات للحكي ؟

علينا أن نسأل هل تملك هذه الدولة أحاسيس وقلب كي تكرهنا أو على الأقل كي لا تكن لنا مشاعر المودة ؟ أي دولة هذه التي تقضم وتلتهم أراضي أبنائها كما لو أنها تحولت إلى القطة التي تأكل أولادها ؟ من المرعب حقا أن يتحكم الهاجس الأمني أي مشاريع تهيئة تقام على الواحة وأن يتحول جزء من أراضيها إلى مشاريع أمنية وثكنات عسكرية. يبدو أننا في الواحة مجرد كائنات حية غير صالحة إلا للهجرة والتهجير والتسول على أبواب المدن والدول. أي نموذج صالح للسكن والعيش والاستقرار يقترحه علينا العقل المعياري الكسول بعد أن صمم لإلغائنا ولجعلنا نعيش في أفق سجن عريض أو قفص من نوع ما ؟ أي المعايير التجأت إليها الدولة في مشاريعها خارج منطق الهاجس الأمني المبني على عقل كسول لم يبدل أدنى جهد لاستحضار خصوصيات المنطقة وحاجياتها المنفردة ؟ ما هو شكل الحياة المناسب لنا الذي لا زال صالحا للواحة ؟ أي نموذج للعيش يمكن أن تقدمه الدولة للساكنة كبديل عن نموذجهم الذي نحتوه عبر العصور ؟

ما هذا الكم والوفرة من “الأمن” الذي تعمل السلطة جاهدة على أن تجعلنا ننعم به ؟ قد لا نكون نحن المواطنين الوحيدين الذين تجرهم السلطة إلى مائدة السعادة ولا نستجب. ما أقسى السلطة حين تنظر إلينا من خارج أنفسنا العميقة. لا أدري إن كان الأمر يتعلق بمشروع تصميم تهيئة واحة فكيك أو بمشروع تسميم تهيئة واحة فكيك ؟ هذه السلطة التي تكشف عن وجهها المركزي البيروقراطي في كل فعل، أصبحت تزعجنا وتؤدينا في كل مرة بقراراتها المجحفة المنزلة من رفوف مكاتب الرباط أو حتى وجدة. يبدو أن الدولة في صراع حثيث مع الزمن من أجل محو ذاكرة الواحة وتحويل سكانها إلى مجرد ضيوف مؤقتين سيئين ومزعجين، ويتضح أكثر أن السلطة قررت في زمن ما دون حتى استشارتنا أو إخبارنا أن تجعل منا نحن أهالي الواحة مجرد مشاريع مهاجرين إلى أمد غير معلوم – كل فكيكي هو مشروع مهاجر إلى أن يثبت العكس-هكذا ظلت الواحة عبارة عن مشاتل pépinières لاستنبات الإنسان وبعدها اقتلاعه وزرعه في المدن والدول (كما شبهها ذات مرة أحد سكانها).

لقد تم تعطيل جل إمكانات الحياة في الواحة والسلطة تتصرف كما لو أنها غير مسؤولة وغير معنية في شيء والواحة لم يعد لها من صلاحية إلا أن تندثر. أي جرم أو إثم اقترفناه حتى نستحق كل هذا الكم والوفرة من الإقصاء والتهميش والإقتطاعات المتكررة والمسترسلة من أراضينا ؟ من ذا الذي يرضى بأن يُفَصَّلُ على مقاس ما أو تبتر أصابعه أو دراعه أو قدمه مهى كان الجرم الذي اقترفه ؟ هل يمكن أن نصمم للواحة تهيئة ما خارج أفق الهاجس الأمني ؟ لماذا فشلت كل المشاريع في مرافقتنا للذهاب إلى التنمية المستدامة والعيش الكريم وأفق الإنسان الحديث ؟ الملاحظ أن الدولة في طريقها إلى الواحة أضاعت بوصلة التنمية والتقطت مقص الأمن والحدود. إن أي نظرة أو تصور معين لمشروع تنمية يسكنه الهاجس الأمني لن يفضي سوى إلى المزيد من الهجرة والتهجير وتمزيق أوصال الواحة. كم يكفينا من محبة ورحمة وشفقة السلطة كي تحررنا من سجونها الاعتيادية ؟.

السياجات، الخنادق، الجدار، الأخاديد ليست هي الإجابة المناسبة لشكل وجودنا وتواجدنا على هذه الأرض. ولسنا إلا أمام المنع المتعدد تحت مسميات مختلفة: من الأسلاك الشائكة إلى المنطقة الرمادية ZNA وها نحن في مرحلة استكمال قضم المساحات الشاسعة من أراضي الواحة وتحويلها إلى ثكنات وربما هو الشطر الأخطر وليس الأخير، وبعد، ما علينا إلا نَعْيُ الواحة والمرور إلى مراسيم الدفن. إن العقل الكسول يبحث على كل ما هو مريح وغير مكلف له لذلك يلتجئ إلى جميع أشكال الاختزالات والاختصارات وإن اقتضى الأمر تجريد الواحة مما تبقى من امتدادها الطبيعي والحيوي. يبدو أن السلطة المعنية تسعى جاهدة إلى إدخال الواحة في قرص مدمج أو تعبأتها في clé USB أو ربما أكثر من ذلك، حشرها في Fichier PDF .

فالسلطات المعنية عازمة كل العزم على حشرنا في زاوية مغلقة أو في قارورة من نوع خاص. ماذا يعني سحب كل أفق من الواحة، هل هو نوع من العقاب المضمر أو الصريح عن سابق إصرار وترصد ؟ أم هو مجرد هفوات من نتائج العقل الكسول أو اللامسؤول و المستهتر؟ يبدو أن يدا ماردة ما امتدت لتقطف الواحة من كل انتمائها ولتقتلعها من جذورها. كل تَعَوُّلٍ على سلطة مركزية بيروقراطية لإيجاد حلول لمناطق نائية هو ضرب من إهداء الواحة لكف عفريت.

ما هو شكل الحياة ونوع العيش الذي تعدنا به السلطة بعد كل هذه الضربات الموجعة ؟ البادي هو أن الدولة لفرط حبها لنا تريد تدجيننا وتحنيطنا حتى نصبح أكبر مومياء في التاريخ، هكذا ستعلن عن شهادة ميلادنا وبعدها ستعمل على تسجيلنا في موسوعة غينيس livre Guinness. إن السلطة مازالت تصم آذانها عن كل خصوصيات الواحة وتصر على إقحامنا في قوالب جاهزة أعدت سلفا من طرف العقول الكسولة ومكاتب البيروقراطية والمركزية المفرطة.

وكلما توغلنا في المستقبل يتضح لنا أن السلطة تضحي على مذبح الأمن بجزء تلوى الآخر من أراضي الواحة أو تقدمها كقرابين لبرامجها ولسياساتها الفاشلة. السلطة تواصل في كل مرة إزعاجنا وتهجيرنا تارة بالإقصاء والتهميش وفي أخرى بقضم المزيد من أراضينا. قد تكون السلطة التجأت إلى لعبة تخييرنا بين “الأمن” في سجن عريض أو الهجرة والتيه في عالم غير محسوب العواقب، هكذا تسعى في كل مرة إلى تحويلنا إلى بؤرة أو دائرة الخوف.

منذ أزمان سحيقة ونحن سكان هذه الأرض ولسنا حديثي العهد بها أو سكان طارئين أو غرباء أو معمرين من نوع ما، والسلطة لا تنظر إلينا إلا كسكان سيئين غير مجذيين وغير صالحين للعيش داخل الواحة، لذا فهي مجبرة على تهجيرنا حتى تُوَطِّنُ المكان بمواطنين من نوع آخر يستجيب لمقاييسها. يبدو أن السلطة لا ترانا وحين ترانا لا تنظر إلينا إلا كبؤرة توتر أو كدائرة الخوف، هكذا تحولنا إلى مشاريع للأمن لا غير، وربما هي في بحث حثيث عن سوار إلكتروني Bracelet électronique يليق بالواحة كي لا تنفلت من قبضتها الأمنية. إنه العقل “الأمني” أو الحدودي أو السياجي هكذا يشتغل.

السلطة في غالب الأحيان لا تمل ولا تكل كما لو أنها تشتغل بعقلية ونمطية سيزيف Sisyphe، هكذا فكلما خرجنا من آلام ما تصر على الزج بنا في آلام آخر، فالسلطة لا تدعونا إلا إلى مائدة العقل الأمني أو السياجي، وفي كل تصميم تهيئة ما، يتم تضييق مساحة الأمل المرجوة ويتضح أن السلطة لا تملك من أفق للواحة غير برامج عدمية أو أمنية مكثفة تغيب فيها الأرض والإنسان كأفق. يبدو أن السلطة تمرنت كثيرا منذ وقت ليس بقريب واستهلكت أنماطا عديدة لمعاكستنا، هذه السلطة تأجلنا في كل ساعة وكل يوم وكل شهر وكل عام وفي أي برامج تنموية نحن فيها بحاجة إلى حضورنا، هذه السلطة التي تنتصب في كل مرة كخصم لأجل مضايقتنا أو ربما تبحث لنا عن شكل جديد للمواطنة والوطن.

هذه السلطة التي تصر على إقحامنا في معجم أكثر خضوعا وخنوعا من معجم الرعية. ونحن كلما سكنا وصمتنا أكثر كلما أزعجنا السلطة أكثر فنحن نزعجها في صمتنا كما في احتجاجنا كأنما أي شكل من وجودنا يقلق راحتها وأن التصادم معنا من سننها وهو الشكل الوحيد المناسب لها لبناء علاقة ما معنا. وأن هذه السلطة تصر في كل لحظة تريد فيها مخاطبتنا أو الحديث إلينا على لباس زيها العسكري أو إظهار وجهها الأمني البشع. هذا العرض أو الأصح الفرض لشكل معين من الحياة الذي تقدمه لنا الدولة غير قابل للعيش وللحياة بكل بساطة.

فالسلطة لا تملك قلبا كي تكن لنا أي نوع من المودة أو أن تستشعر ما نستشعره، أو ربما لا تريدنا أن نعيش حياة حرة وعيشا كريما إلا كاستعارة أو كمجاز ما وليس كواقعة وفعل. هذه السلطة كلما أحصتنا في الواحة ووجدت عددنا يتقلص إلا واستشعرت ضرورة الإنقاص منا وكلما زدنا تقلصا كلما تمادت في تقزيمنا أكثر كأنما تسعى إلى محونا من خريطة الوطن كما لو أننا مجرد شعارات مزعجة مكتوبة بالبنط العريض على لافتة أو سبورة ما يجب مسحها.

أو ربما تريد أن تطهرنا من “شرور أنفسنا “ومن كل “الخبائث “التي ألصقت بنا منذ العصور الغابرة أي منذ أن اختار الأوائل من أجدادنا أن يعلنوا اللامكان مكان ويضخوا الحياة في الموت والوجود في العدم وينفخوا من روحهم في أرض الله التي كانت شاسعة في زمن الحرية. هذه السلطة نسجت ووضعت شكلا للحياة على مقاس عقلها الإجرائي الأمني الكسول هو نمط عيش جاهز ومعد سلفا توفره لنا. هذه السلطة يبدو أنها لا تملك من وصفات لنا إلا الوصفة الأمنية المبنية على التقزيم والحصار، هكذا أصبحت مساحة العزلة والإقصاء تتمدد وتتسع أكثر فأكثر كلما توجهنا نحو المستقبل دون أفق الانتظارات المناسبة لذواتنا. على السلطة أن تكف وتتوقف من استعمال فزّاعة الحدود والأمن ضد مصلحة المواطنين واستقرارهم. بل عليها أن تساعدنا على الذهاب إلى جميع أشكال الحياة المؤدية للاستقرار والسكن واللاهجرة وضد سياسة إفراغ المكان، فنحن لم تعد لنا من أجنحة كي تقص أو تقطع بعد أن تم ترييشنا.

وأي مصير تقترحه علينا الدولة بعد أن تكون قد جردتنا من أراضينا وحريتنا وذاكرتنا بعيدا عن لعبة التعويضات الهزلية والهزيلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تقي من أي هجرة واللا استقرار؟ فهل الهجرة قدرنا أو ضرب من اللعنة أو استجابة لنداءات الأنبياء الإبراهيميين أو ببساطة من نتائج سياسات التهميش والإقصاء الممنهج والمركزية المجحفة ؟ ونحن لم نأتي إلى هذا المكان خاوين اليدين أو دون ماهية وهوية، دون تاريخ وذاكرة.

أعفونا وخلصونا من هذا الحب ومن هذه الرحمة والشفقة الزائدة الممزقة لأوصالنا والمطمسة لماهيتنا ولهويتنا. فأي أمن هذا الذي تقترحه علينا السلطة بل تنفذه فينا مقابل الحرية والأرض؟

إن الشكل الوحيد المناسب لبقائنا هو حريتنا مع العيش الكريم ولا حرية ولا عيش كريم بدون أرضنا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *