وجهة نظر

سلطة الدارجة المغربية في بنية العقل المغربي

رغم خفوت، إن لم نقل انطفاء جذوة الجدل الكلامي، الذي عرفه العالم الإسلامي ،حول علم اللغة و ما يدور في فلكه ،و ما نشأ عنه من فرق كلامية.فإن تداعيات ذلك ،و أثاره ،لا زال جمرها متقّد ا،رغم ما علاه من رماد .

المؤكد أن فترة ذروة تلك المماحكات و تلك الجدالات ،قد استوعبها التاريخ، كفترة ازدهار ورقي فكري كبير .إذ بسببه ظهر فلاسفة كبار و أطباء و متكلمين و بلاغيين فصحاء و نحويين و بيانيين و منطقيين .كثر..أمثال ابن رشد ،الغزالي ، ابن خلدون ، السكاكي ، ابن وهب ، ابن سينا و الجابري ..وبالجملة ،إنها الفترة الذهبية التي عرفها العالم الإسلامي على مر التاريخ .

إن ما يمكن استيعابه و فهمه و استنتاجه من كل ما حصل، خلال تلك الفترات،يلخّص بالدرجة الأولى،دور اللغة العربية الفصحى كوسيلة ساهمت بشكل كبير،في بلوغ ما بلغه الفكر الإسلامي من رقي .إذ لولا طبيعة اللغة المستعملة ،ما كان ليكون ما كان .و هو ما عبر عليه ابن وهب في كتابه : “البرهان في وجوه البيان “.حيث يبرز فيه ، ما يميز الإنسان عن الحيوان ،و هو العقل .هذا العقل الذي يلزمه أدوات تواصلية معينة ،ليرقى من طبيعته الغريزية إلى الطبيعة الإنسانية .عن طريق التعلم و التفكر. حيث يقول:”العقل قسمان :موهوب و هو ما جعله الله في جبلة خلقه ،و هو غريزة في الإنسان ،و مكسوب و هو ما أفاده الإنسان بالتجربة و العبر و بالأدب و النظر .”و هذا يعني، حسب الشرح الذي قدمه عابد الجابري في كتابه:” بنية العقل العربي “.أنّ الإنسان في حقيقته الماهوية عاقل و مبين معا :هو عاقل لأن الله جعل له العقل غريزة فكرّمه به و فضله على سائر الحيوانات ،و هو مبين لأنه بدون التبيّن و تعلم الأدب و ممارسة التفكر و النظر، تضمر تلك الغريزة و يعود الإنسان إلى ما يشبه مرتبة الحيوان .

بدوره المفكر المغربي عابد الجابري ،في كتابه :بنية العقل العربي. يعتمد في محاولته لفهم العقل العربي،انطلاقا من فهم أسس و قواعد اللغة العربية الفصحى.

هذه القواعد و الأسس التي تعطي للغة ،علميتها. وضعها علماء اللغة، لنفس الغرض، و لذات السبب.أي لأجل إنتاج الخطاب و تفسير الخطاب . و هذا ما دفع علماء اللغة للاعتراف،بسلطة للغة ،على العقل و الفكر .

هذه السلطة ،التي منحت للغة على العقل و الفكر،أثيرت انطلاقا من الجدل الذي دار حول إشكالية: اللفظ/المعنى، التي ارتقت في مرحلة لاحقة، إلى إشكالية : إنتاج الخطاب / تفسير الخطاب .أي من يسبق من .هل اللفظ يسبق المعنى ،أم المعنى يسبق اللفظ ؟و قد اتفق على أن اللفظ له تأثير على المعنى ،خاصة في اللغة العربية.أي أن اللغة تفرض سيطرتها على الفكر .بل هي مرآة الفكر .توجهه و تؤطره .فإن كانت لغة علم و نظر و تفكّر وأدب ،ساعدت و ساهمت في تطور العقل وفي ارتقاء الفكر.أما إذا كانت غير ذلك، و كانت مجرد أدوات تواصلية، لا ترقي إلى مستوى لغة،جمّد العقل و أعيق تطوره .و من تم صعوبة انتقاله، من العقل الممنوح إلى العقل المكسوب .

و من هنا ،فإن فهم بنية العقل المغربي ،التي تختلف عن بنية العقل العربي ،لاختلاف أداة التواصل ،تبقى رهينة هي كذلك ، بطبيعة و نوع اللغة التي يخضع لها العقل .فحسب الفصل الخامس من الدستور ،فاللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد .إلا أن الحاصل ،عكس ذلك .حيث أن اللغة العربية لا تستعمل إلا لماما .إذ تقتصر استعمالاتها فقط ،في فصول الدراسة و على ما هو مكتوب .و إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ،نسبة الأمية المرتفعة جدا ،نجد أن الدارجة هي أداة التواصل الوحيدة و العامة .و بالتالي خضوع العقل المغربي إلى سلطة الدارجة.هذا إن كانت لها سلطة .

و إذا كانت اللغة ،المحددة لبنية العقل الانساني ،تخضع لشروط لغوية علمية .فإنه من الصعب تحديد بنية العقل المغربي، في ظل غياب ما تمتاز به اللغة من شروط.ذلك أن الدارجة المغربية،ما هي إلا خليط من لغات متعددة و مختلفة، مع مرادفات عشوائية .لا يمكن أن نسميها أو نعطيها صفة أو نعت لغة .مما يجعل العقل المغربي ،لا زال في مرتبة العقل الممنوح ،و دون العقل المكسوب. الذي يلزمه لبلوغه ، لغة علمية دقيقة .

لذلك فإنه ليس مغامرة أو تهور،القول على أن سبب ما يحصل في المغرب و كذا في باقي الدول العربية ،من بؤس و جهل و تخلف .. يكمن في خضوع العقل المغربي بصفة كلية ، (لسلطة) الدارجة ..

و ما يثير الذهول أكثر،و يطرح علامات استفهام كثيرة.ما نجده و نلاحظه، في المغرب بصفة خاصة و باقي الدول العربية بصفة عامة .فعلى الرغم من التأكيد على أن اللغة العربية هي لغة رسمية،إلا أنه قلما تستعمل .و يستعاض بها ، بخليط لغوي هجين .

و ما نجده حاصلا على أرض الواقع ،ما هو إلا نتيجة لذلك الفعل المتناقض الغير المبرر. فقد يقضي فردا ما، سنين طويلة، داخل فصول الدراسة.و قد يكون حاصلا على شواهد جامعية عليا .لكن رغم ذلك نجده غير ملما، بكل تفاصيل اللغة العربية. نطقا و كتابة .

و قد يحصل عكس هذا، لو كانت اللغة العربية أو أي لغة أخرى علمية، طاغية على العقل، في جميع ممارساته.

لا يحسب مزايدة أو تزمتا ،أو شوفينية ،إذا ما قيل ، أن ضبط اللغة العربية على أتم وجه ،يوازي ذكاء مشارك في الأولمبياد العالمي للرياضيات .فقد امتاز العرب قديما، بفصاحتهم و بلاغتهم، و بيانهم. فصار البيان عندهم سحرا .ثم إن السحر و البيان ،يلزمهما ذكاء، يضاهي أو يفوق ذكاء ما تتطلبه الرياضيات و باقي العلوم.

فالبيان علم.و المنطق علم .و الخطاب علم .و البلاغة ،و الفصاحة ،و محسنات الكلام، فروعها.

تحريض العقل بدفعه لممارسة الذكاء اللغوي، منذ الصغر، ليس فقط في فصول الدراسة، و إنما في جميع تفاصيل الحياة.عبر استعمال اللغة العربية الفصحى .يعني تطور العقل ،و رقي الفكر.كما يعني أيضا الارتقاء من العقل الممنوح إلى العقل المكسوب .

إن فرض اللغة العربية الفصحى أو أي لغة علمية أخرى ،و التخلي عن الدارجة بشكل كلي.من المؤكد سيؤدي ذلك ،إلى تغيير في بنية العقل المغربي بصفة كلية .ومن تم سيغير في طريقة تفكيره و سلوكياته.

مؤخرا ثار جدل ،حول ما تم تضمينه للمناهج المدرسية من مفردات (دارجية )،غريبة عن اللغة العربية. .كان هذا ،نتيجة و ترتيب للجدل السابق ،الذي خيض حول استبدال اللغة العربية بالدارجة في مجال التدريس.لأن الدارجة حسب الداعين إلى إليها ،سهلة على الفهم و الإدراك.عكس اللغة العربية التي تصعّب من مأمورية التدريس و التلقين .

لكن ما يغيب عن هؤلاء ،الداعين إلى هذا الرأي .أي استبدال الدارجة مكان اللغة العربية .سواء كان هذا التغييب ،صادر عن حسن أو سوء نية .يتلخص في كون المسألة كلها،لا تكمن في التبسيط أو في التصعيب .بل السرّ كله،مكنون في تطور العقل و رقيه .فالدارجة أداة تواصل جامدة،ذات مفردات ممنوحة ،معيقة للتواصل في جميع تجلياته..لا تستطيع أن تقوم بالدور الذي تقوم به اللغات ،في علاقتها مع العقل و الفكر.و إلا لما ساد كل هذا التخلف الفكري في البلد.لأنه في حالة العكس ،أي لو كان المغاربة يتكلمون اللغة العربية الفصحى ،مثلما يتكلمون الدارجة ،ما كان ليكون كل هذا التخلف الفكري .

و لو كان الأمر أمرا، لفرضت اللغة العربية فرضا. ليس في أقسام التدريس و الإدارات و المؤسسات وحسب،و إنما في جميع مناحي الحياة.على الرغم من صعوبة الأمر . غير أن ذلك يبقى هو السبيل الوحيد، للخروج من حالة الجمود إلى حالة التطور.و من مرتبة العقل الممنوح إلى درجة العقل المكسوب.

عدا ذلك، سيظل التخلف و الانحطاط و البؤس.. واقعا ، طالما ظلت الدارجة قائمة .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *