وجهة نظر

سياسة “ماو”

أكدت الأحداث الأخيرة أن الشباب المغربي بقدر ما يحب وطنه، ويحرص على أمنه واستقراره، فإنه يرفض أن يموت على فراش الانتظار في مواجهة البطالة والجمود السياسي، كما يرفض أن يقعد عاجزا أمام تغييب إرادته الانتخابية التي عبر عنها خلال آخر استحقاقات انتخابية ببلوكاج سياسي مفتعل، وهذا ما جعله يقرر الاندفاع باتجاه البحر، في رسالة واضحة تختزل عدم الثقة واليأس الذي أصاب شباب الوطن في الوطن.

إن ما عرفه المغرب مؤخرا من احتجاجات اجتماعية بكل من جرادة والحسيمة وغيرهما من المناطق، والتي انتهت في الأخير باعتقالات شملت مجموعة من نشطاء هذه الاحتجاجات، مرورا بالأحكام “القاسية” التي صدرت في حقهم، والتي أخرجت المغاربة في مسيرتين حاشدتين بكل من الرباط والدار البيضاء، مطالبين من خلالها بإطلاق سراح المعتقلين، كل هذا ساهم في إفقاد الشباب المغربي الثقة في المؤسسات وفي الفعل والفاعل السياسيين، وهو ما جعلهم يختارون المغادرة من دون أن يحملوا أشياءهم المهمة.. ربما لأنهم لا يملكون أصلا أشياء ثمينة – باستثناء أرواحهم التي سيقامرون بها في مواجهة البحر.

لأنه عند غياب الثقة في المستقبل، قد تضطر للمغادرة.. قد تفكر فقط في المغادرة هربا من الواقع، وغير هذا لا يهم، ما دامت الأحلام هنا تتحقق بالمقلوب أو لا تتحقق البتة كأضعف الإيمان…

نتفهم جيدا أنه من حق الدولة أن تحافظ على هيبتها وأن تضمن أقصى درجات الاستقرار بالبلد، وهذا المطلب لن يتحقق بالاعتقالات وقمع الاحتجاجات بقدر ما سيتحقق بالوضوح مع المواطنين ومصارحتهم بشجاعة ومسؤولية والبحث عن حلول حقيقية لمشاكلهم ومشاكل الوطن، خاصة وأنك ها هنا تتعامل مع جيل من الشباب المغربي استنشق كمية هامة من أكسجين حرية التعبير، بعد بالإصلاحات الدستورية التي قادها جلالة الملك ابتداء من خطاب مارس 2011، مرورا بإجراء ثلاث استحقاقات انتخابية ديمقراطية نزيهة.

لكن وفي ظل تراجع الدولة عما تضمنته هذه الإصلاحات من خلال تعاملها القاسي لوقف الاحتجاجات التي انطلقت في أواخر سنة 2016، نجد أنه من حق الشباب المغربي أن يشكك في مدى جدية المسار السياسي الإصلاحي الذي بدأه المغرب قبل 7 سنوات من اليوم، وأن يعلن فقده الثقة في المستقبل وفي السياسة والسياسيين. وفقد الشباب الثقة في مؤسسات بلده خسارة ما بعدها خسارة للدولة والمجتمع.

ويذكر التاريخ أنه في عام 1958 أمر الزعيم الصيني ماو تسي تونغ الصينيين بقتل كل أنواع طيور “الدوري” لأنها تأكل المحاصيل وتقلل من الإنتاج الزراعي، واستجابة لهذا الأمر بدأ الفلاحون يقتلون عشرات الآلاف من تلك الطيور، إذ كان كل من يقتل أكبر عدد منها يتلقى جوائز ومكافآت ويعتبر بطلا وطنيا…

لكن بالقضاء على تلك الطيور انتشر الجراد في جميع أنحاء البلاد فقضى على المحاصيل ليتسبب ذلك بشكل مباشر في مجاعة الصين الكبرى عام 1961 والتي أدت إلى وفاة ستة وثلاثين مليون إنسان جوعا !

لتبيّن فيما بعد أنّ طيور الدوري التي تمّ القضاء عليها كانت تقوم بدور فعّال في الحدّ من تكاثر الجراد وانتشاره، إذ كان يعتبر أكلتها المفضّلة والغذاء الرئيسي الذي تقتات منه…

الحدث المذكور أعلاه ليس للمقارنة أو للتشبيه، بقدر ما هو سرد لاختيارات سياسية تاريخية كان غرض أصحابها منها خدمة الدولة والمجتمع بحسن نية، لكنهم لم يراعوا في ذلك النتائج السلبية التي قد تترتب عن سياساتهم الغير موفقة.

ومنه، فالقرارات التي تتخذها الدولة سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، لابد أن تراعي فيها كل الأبعاد، وعليها أن تفاضل فيها بين النتائج السلبية قبل الإيجابية.. فإذا كانت النتائج الإيجابية مغرية لصناع القرار داخل الدولة، فإن النتائج السلبية التي قد تترتب عن هذه القرارات قد تكون كارثية كما حدث في الصين بفعل سياسة ماو التي أدت إلى اختفاء طائر الدوري.

لذلك، وجب على الدولة أن تحسن تدبير الأزمة السياسية التي يتخبط فيها البلد، وأن تواجه هجرة “طيور الوطن” بإطلاق سراح بقية “الطيور المغردة”، وأن تعمل على إعادة بناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات عن طريق الإعمال السليم للدستور وتفعيل مبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة ومحاربة الفساد كوجه من أوجه الظلم الذي يطال جزءً كبيرا من أبناء الشعب المغربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *