مجتمع، منوعات

ريبورتاج .. حج العشاق إلى دهاليز المشعوذين بمولاي ابراهيم (فيديو)

“طير الجبال” القابع منذ قرون في ضريحه الأخضر المنقوش بخيوط ذهبية جذابة، يجانبه مرشدون للزاوية بأحد ركون غرفة مليئة بصور الآيات وقصار السور القرآنية. نساء مرميات هنا وهناك، منهن فاقدات للوعي وأخريات لعنان الدموع مطلقات، بينما أخريات يجلسن في سكون على جنبات الضريح، تظهر على محياهم أنهم وجدوا سبيلهم للخلاص من أزمات الدنيا التي رمت بهم إلى صدر الوالي مولاي ابراهيم.

هنا في قمة جبل تعلو بجانبه جبال أخرى جاعلة من صخورها جنودا لحماية حرمات الزاوية التي باتت تنتهك اليوم بفعل نشاطات دخيلة على المنطقة وأبنائها الأمازيغ، فقبل قرون كانت “كيك”-الاسم الأول- ملجئ طلبة العلم من شيخهم مولاي ابراهيم ابن مولاي أحمد ابن المغاري، حتى أًصبح يحج لها العشاق من كل حدب وصوب قاصدين أخد بركات المكان لقضاء حاجاتهم الدنيوية.

أول خطوة

بمجرد أن تضع رجلك أرضا من سيارتك، وقبل أن تستنشق نسيم الجبال المحافظة على خضرتها في أواخر الصيف، حتى تزعجك أصوات تتداخل فيما بينها لا تكاد تفرزها أذناك إلا برؤية حركات رجال بمفاتيحهم لتدرك أنهم يسألونك “هل أنت في حاجة إلى غرفة للكراء”، وقبل أن تستفيق من دوار الطريق حتى تجد أيادي مرفوعة أمام أعينك تسألك بهم نساء منتظمات على الدرج الآخذ إلى الزاوية لشراء “باروك” المنطقة الذي هو عبارة عن خاتم ومسكٍ، لا تكاد تنهي الدرج حتى يقلقنك تلك الغريبات عن المنطقة بتسولهن الذي يتكرر كلما مررت بجانبهم كألة بدون ملل ولا كلل، بلباس أسود شفاف محزوم بثوب ذو ألوان مزركشة سالبة للانتباه، يتحركن هؤلاء النساء بجنبات الزاوية ويتربصن بالزوار قصد نيل دريهمات مقابل توجيههم لمقصدهم الذي يختلف من زائرة لأخرى.

استحياء من الأصل

لسبب ما، يهاب أبناء المنطقة الحديث عن وطنهم الذي سلبته منهم طقوس الشعوذة والسحر والدعارة، لقد أصبحوا يستحيون من الانتساب إلى مولاي ابراهيم لتفشي تلك الظواهر التي استعمرت جغرافيتهم ومسحت تاريخ قيمهم. الحسين الذي حاورنا وكله هم على المنطقة قال لنا “أن الدعارة والشعوذة شوهت مولاي ابراهيم، فالإنسان الآن أصبح يستحي أن يقول أنا ابن المنطقة، بل نصاب بالحرج الشديد لما نقول لأصدقائنا كنا في مولاي ابراهيم لأن ما يتبادر لهم مباشرة بعد ذكر هذا الاسم هو الدعارة”.

صاحب مقهى اسوقفنا عنده التعب، سألناه عن حقيقة أمر النساء المتسولات هنا، فأجاب وعلى محياه غضب شديد “إنهن نساء من خارج البلدة دخلوها فأفسدوها بأفعالهم المشينة، بل دمرونا وأصبحنا نصاب بالحرج الشديد في ذكر موطننا الذي ولدنا ونعيش فيه، وما يظهر جميل أخلاق أهل المنطقة هو قيام الشباب بحملة لإخراج العاهرات اللواتي حجوا لنا واستقبلهم أصحاب الفنادق الذين كانوا يأجرون لهم الغرف”.

رضا أحد شباب مدينة مراكش التقته العمق جالسا بالمقهى أكد أن “أي شخص من مناطق الحوز المجاورة مجرد سماع ذهابك لمولاي ابراهيم تبادر في أذهانه الفساد والرذيلة، هذا الأمر الذي أصبح معه الواحد يلغي زيارته للاستمتاع بمنظار المناطق الخلابة”.

جواب صادم

سؤال آخر وجهناه لرب المقهى التقليدية هناك عن ما إذا توقفت أعمال الشعوذة والزيارات لضريح مولاي ابراهيم وتوقف معها الرواج الاقتصادي في المنطقة؛ فأجاب إن “الزوار الذين يأتون إلينا الآن فقط هم المجاذيب والمرضى نفسانيا، والباحثين عن أمور لا مانع ولا معطي لها إلا الله تعال، وبالتالي فالبركة سيرفعها الله لما تكون مثل هذه الطقوس التي لا يرضها العبد ولا ربه”، كما تساءل “هل هناك أحسن من هذه الطبيعة للعمل والترويج المادي، فنحن بحاجة إلى الناس الذين يأتون إلى هنا لرؤية المناظر الطبيعية وليس للقيام بمثل تلك الطقوس الغريبة التي لا يقبلها العقل ولا يرضى بها الدين الاسلامي”.

ويضيف متحسرا ” أن هذه الطقوس التي أدخلوها إلى منطقتنا هي السبب الرئيسي في إرجاع البلاد للوراء لأن الناس كانوا في ما مضى يأتون للاستجمام على جنبات الوادي، لكن بعد استفحال ظاهرة الشعوذة والسحر أسرى الخوف بين الناس وأصبح الكثير من العائلات المحترمة يختارون التوجه لإمليل للاستجمام بدلا عن مولاي ابراهيم.

قبل الطواف

على باب الزاوية السفلي تتناثر نساء غريبات يتنكرن بلباس أهل البلد، يرشدن الزوار إلى داخل الزاوية، تتخطاهم أرجل كل والج الضريح وآخذ لتبريكات الزاوية، المحملين بقراطيس الشمع وماء الزهر. الضريح الذي يجلس على بابه خمسة مرشدين للزاوية يرددون ابتهالات وذكر ومدح لخير الأنام بلحن روحي مؤثر لا تكاد تعرف مضمونه أو تحدد كل كلماته، يطلبون من كل مقبل على باب الضريح صدقات بطريقة غريبة تجعلك تحني ركبتيك أرضا حتى تضع مقدار المال بسخاوة دون عده، وما إن تجمع حصة مقدرة حتى ينهض لها أحد المرشدين لينقص من مبلغها.

تبدأ نساء الطواف حول الضريح الأخضر، تختلف نياتهم كما أعمارهن في حين توحدهن الوجهة، طواف على قبر الوالي ودعاء يصحبه بكاء أو نواح حتى الغشيان، في المقابل تجد أخريات يلجأن لزاوية غرفة الضريح تتمايلن بأجسامهن في سكون كأنهن في تواصل مع أرواح المكان.

حج المطالب

أخذنا فضول معرفة طلبات زائرات الضريح إلى البحث عن من يبوح لنا بأسرارها، لكن ولا واحدة منهن استطاعت أن تكشف للعمق حقيقة زيارتها، بل عمدن إلى اللف والدوران في الكلام وقول أن سبب الزيارة هي أخد بركات الوالي الصالح كما يفعل الجميع، وأحيانا يقلن أن مجيئنا إلى هنا من أجل التداوي من أمراضنا.

لكن الجواب وجدناه عند حميد الشاب المجاز في الدراسات الإسلامية الذي يعمل تاجرا في المجوهرات بالمنطقة حيث أخبرنا أن “الناس خلال مشاركة تجاربهم معه، كان منهم من جاء طالبا للعمل وآخرون للزواج، ومنهم من كان عاقرا وأراد الأولاد وهناك من تخاف الطلاق، إضافة إلى حالات تعيش القلق أو الوسواس تأتي هنا قصد التداوي. لكن الذي لا يفهمه هؤلاء كلهم أن انشراح قلبهم حدث بسبب هواء المنطقة النقي، فالمناخ هنا يلعب دور كبيرا في شعور الانسان بالراحة خلال زيارته لمولاي ابراهيم”.

“أما تيسير الأمور واستجابة الطلبات –إن حصلت- بعد زيارة الضريح، فهي مرتبطة أولا بنية الزائر والطريقة التي طلب بها ومن طلب، لأن الله تعالى قال ادعوني استجب لكم ولم يحدد وساطة لاستجابة الدعاء”، يضيف حميد.

درويش الزاوية

“نحن هنا من أجل تسيير الزاوية وإطعام الطعام وإكرام الضيوف والمحتاجين، طقوسنا تعبدية لله عز وجل، ورد قرآني بين الفينة والأخرى وذكر ومدح لخير الأنام، ومتون على الطريقة الجازولية المغارية” هكذا لخص لنا أحد مرشدي الزاوية المنتسب “لفخضة التومي” عملهم اليومي الذي يكون بالمناوبة عبر تمثيلية كل “الفخضات” الخمس التي ترجع لها أحقية الانتساب للزاوية خلال أيام الأسبوع، أما عن طقوس السحر والشعوذة، علق صاحبنا أنهم “ليسوا سوى وسيلتين لتضليل المجتمع المغربي عن حقيقة ودور الزوايا”.

مرشد أخر من “فخضة آقريش” قال إن “الشعوذة لا علاقة لها بداخل أسوار الزاوية عكس ما يتم تداوله، وأبوابها مفتوحة لأنها ما تزال تلعب أدوارها في التكفل بالمرضى النفسانيين والمساكين، مع ضمان أكل وشراب ومبيت الطلبة الذين يدرسون في المدرسة العتيقة لمولاي ابراهيم، وذلك عبر مداخيل الهبات والصدقات التي تصرف على هذه المسائل”.
وأضاف إن “البحث عن الحقيقة هو من يرشد لعين الصواب، طقوس الشعوذة غير موجودة في الزاوية ولا في حرم الوالي الصالح، أما الطقوس التي يقوم بها الزائرون نحن لا نتدخل فيها ولا يمكننا ذلك لأنهم ضيوف ومن واجب المضيف احترام ضيفه”.

تقدمنا لمرشد آخر لنتعرف أكثر على زاويتهم، فسألناه لأي فخضة ينتمي، فكان جوابه: “انا من أهل الله فقط ولست بسارق ولا كاذب ولا منافق ولا ساحر”، طريقته المنفعلة في الرد حركت شهيتنا لاكتشاف الدافع وراء جوابه بلغة قاسية ولمن يوجه هذه الرسائل.

هيمنة الهيمنة

ونحن نتجول بين المحلات الكثيرة التي تكتريها الزاوية لمن يتاجر هناك بمعدات الزيارة “وباروك المكان” من فواكه جافة وحلويات يدوية الصنع، نسأل عن عارف بتاريخ الزاوية ليرشدنا ويصحح خطانا ويشرح لنا سبب الشنآن الحاصل بين المرشدين، فدلنا أحد التجار على “عارف بالمكان”، هذا الأخير الذي بدأ محدثا “بعدما أقرت الدولة في عهد الملك محمد الخامس بأحقية خمس فخضات لوراثة زاوية مولاي ابراهيم بناء على اجتهاد العلامة المختار السوسي في تحديد المنتسبين للوالي، ثم تشكيل لجنة خماسية لهذه “الفخضات” لكن أحدهم استولى على عرشهم وتركهم يقبعون بجانب الضريح وإلهائهم عن حقوقهم في الزاوية من أراضي ودكاكين وجنان والهدايا والهبات. المستولي انفرد بجميع ممتلكات مولاي ابراهيم وترك الآخرين ينتظرون صدقات الزائرين”، مضيفا أن “الضريح كان قديما يزار دون إعطاء صدقات أو تبرعات، بل كان زوار الزاوية ينعمون فيها ويأكلون ويشربون ويقضون وقت وافر، خاصة المنتسبين للزاوية من المدن والقبائل الأخرى لأنهم يحضون بغرف وبيوت خاصة بهم، لهذا قلت لك بداية هل تستفسر عن هيمنة الهيمنة”.

أصل النكبة

الحسين الناصيري فاعل جمعوي بالمنطقة، قال إن “الزاوية هي أصل النكبة التي تعيشها منطقة مولاي ابراهيم، لأنها لو وظفت تلك الأراضي التي تملكها لتنمية المنطقة لما احتجنا لشيء هنا، فالشرفاء بالزاوية يملِّكون الأملاك بينهم ويشهدون لبعضهم، في حين أن ناس المنطقة هم الذين أهدوا لمولاي ابراهيم أراضيهم خلال لجوئه إلى هنا”.
وأضاف أن “طقوس الشعوذة لها تأثير سلبي على المنطقة بسب العرافات اللواتي تأتين في سيارات فاخرة ويرافقهن حرس خاص إلى مكان الطقس الذي يقمن به أحيانا بالزاوية المقفلة على الزوار بعد صلاة العشاء ليفتتحوها للعرافات، أو بالفنادق المتفرقة بمولاي ابراهيم”.

دجل مقنن

وعن قصد العرافات لمولاي ابراهيم قال لنا الحسين “لأن المكان توجد به محكمة الجن كما يزعمون، وفيه تتم محاكمة الجن الذي يخدم العرافات، لكن حقيقة الأمر هو نصب واحتيال عن الناس. وأن الشرفاء بالمغرب وصلوا بذكائهم إلى استغلال المشعوذين والسحرة، فقد كانوا فيما سبق يعطونهم بطاقة الشرفاء قبل أن تمنع، أما الآن فأصبحوا يوقعون لهم تزكية بخواتيم تحمل اسم الشريف وزاوية انتسابه”، على حد تعبير الناصيري.

وعن طقوس الشعوذة التي يزداد عدها في الموسم الذي تنظمه الزاوية مع مناسبة ذكرى المولد النبوي، أخبرنا يوسف الذي حضر مرة واحدة للطقس بأحد فنادق المنطقة، حيث يتم ذبح الماشية بطريقة بشعة وخلط دمها بالحليب والعسل وسط غناء كناوي وعيساوي تحث نور خافت، تستمر السهرة على هذا المنوال حتى وقت متأخر من الليل، تسقط فيها الأرواح نساء وتبكي أخريات.

هنا الاستثمار

رب المقهى قال للعمق أن مولاي ابراهيم في حاجة إلى مشاريع تنموية قادرة على جلب السياح لمنطقتهم الخلابة، عبر إنجاز شلالات اصطناعية لوفرة المياه في الوادي، وتهيئة مساحات خضراء، وتوفير حافلات للنقل الحضري من مراكش لبلوغ المسافة 50 كلم بينهما فقط، يستطيع المواطن المراكشي البسيط من خلالها زيارة واكتشاف المنطقة والاستمتاع بمناخها.

“فبالرغم من وجود امكانيات ومؤهلات لتنمية المنطقة سياحيا وتوفرنا على منجم كماسة المعروف بثرواته المعدنية، فالممثلين للمنطقة ضعفاء وغير قادرين على خلق الحدث، فنحن أولا كجماعة محلية لا نتوفر على سوق اسبوعي يحرك رواجا تجاريا داخليا دون انتظار الرواج الخارجي وحده”، يضيف صاحب المقهى.

أما الحسين الفاعل الجمعوي سألناه عن دور المجتمع المدني فقال أنه لا يأخذ مبادرات من شأنها أن تنمي المنطقة، ويكتفون فقط بالأنشطة الفنية والمهرجانات ودوريات كرة القدم، دون التفكير في مواجهة الدجل والدجالين الذين أفرغوا مولاي ابراهيم من محتواه السياحي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *