منتدى العمق

نعيمة السحلي.. ينبوع إبداع عفوي من القلب إلى القلوب

نعيمة، سيدة صنعت لنفسها اسباب البقاء الشخصي والاجتماعي في ظل ضعفها الأنثوي الانساني الحامل لكل تفاصيل الحكرة والمعاناة، واجهت تقلبات الامزجة والحياة بعزيمة شبيهة بالإصرار على استصدار قوة داخلية موروثة لفرع عن أصل، ومضت تبحث عن الذات لتصادفها في طريقها نحو مكان تنتعش فيه عفوية الابداعات، لتململ مشاعرها الفنية الفطرية الدفينة وتعبر حدود الأحداث، فتلامس بكل عفوية هموم الذات وواقع الناس والحياة.

بين ثنايا الذاكرة والتاريخ

سنوات تلك التي انقضت من عمر نعيمة ولم تحفر تجاعيدها على الجسد، لكنها فعلت في أعماق قلبها وهي تعود بالذاكرة الى ماضي أسرة جمعت بين بساطة العيش وغنى القيم الداعمة لتماسك الروابط الأسرية والاجتماعية المشرفة على التصدع والتلاشي والذوبان بين ثنايا ثقافة الاستلاب المتعدد الابعاد. ولدت بمنطقة تاساوتباقليم قلعة السراغنة، وترعرعت في أحضان أم ذات اصول فاسية بمنطقة مولاي دريس زرهون، واب من اصول خريبكية. بين ثلاث اخوة ذكور ومثل عددهم اناثا. كانت نعيمة كبراهن واكثرهن تمسكا بدقائق زمن الوالدين الجميل، قاوم الاب الشهم الاستعمار الفرنسي فأذاقه مرارة السجن باعتراف تاريخي غير رسمي، واشتغل لدى بعض المقاولين الفرنسيين بوادي زم، المدينة التي سميت آنذاك (باريس الصغيرة) التي ساهمت في حصول المغرب على الاستقلال بفضل شراسة مقاوميها. ثم نقل الى تلاث اغود حيث وافته المنية. فكان تأثر نعيمة بفقدانه قويا قوة حبها له، كان يعتبرها (عزري الدوار) المكلف بمهمة تمشيط شاربه كلما هم بمغادرة المنزل، شكلت موته نقلة من (الطيارة لحمارة) ماديا. ومن (العز للذل) معنويا.

وفي ظل تعثر استفادة اسرته من تعويضات وفاته، وتنكر الاهل لحقها في الاستفادة من أملاكه، واجهت الام اغراءات الحياة وضغوطات المعيش بقوة المرأة المناضلة، فلم تجعل من جمالها لقمة طيعة، بل كانت امرأة صعبة المراس، بشوشة المحيا، متمسكة بأعرافها وتقاليدها، مخلصة لذكرى زوجها، مكافحة من اجل توفير احتياجات أبناءها ومستلزمات دراستهم. اما نعيمة، سندها وراعية اخوتها، الساهرة على توفير احتياجاتهم بالبيت، فقد تزوجت في سن مبكر برجل قدرها اجل التقدير. انتقلا الى مدينة آسفي، فأنجبا ثلاثة أطفال جملوا حياتهما. كان بالنسبة لها (مثال الزوج والاخ والأب) وبالنسبة له (الزوجة الصبورة التي أحسنت معاشرته وأكرمت أهله). وبأفضل الأوصاف ينعتها الجيران، فترى فيها احدى الجارات (أخلاق ناس زمان) وتعتبر قصائدها (رسالة من زمانهم الى هذا الزمن) الذي طالما وصفته نعيمة (بالزمان الحفيان) فيما يجدها أبناؤها (مثال الام الحنونة الواعية المتفهمة والصديقة المخلصة التي شيدت بينها وبينهم أواصر المحبة والتواصل و الحوار منذ نعومة اظافرهم) , وان كانوا يؤاخذون عليها ( سذاجتها الزائدة ) التي لا تفسير لها سوى حسن النية والطيبة والكرم.

وعوضا عن الرتابة التي اضحت تعانيها بالبيت… ناهيك عن ثقل مسؤولية الزوج المادية تجاه أسرتيه، قررت نعيمة البحث عن عمل رغم الممانعة، فاشتغلت كمساعدة بالمندوبية السامية للتخطيط الى ان تم فصلها بشكل تعسفي وبدون أدني حق يذكر، اذ كانت حسب تصريحها (ضحية الحسابات والمصالح الشخصية) التي ترزح تحتها جل الادارات المغربية. من هنا بدأ احساس نعيمة بالحكرة والاذلال والظلم ينمو ويكبر الى ان اضحى ختما يطبع نفسيتها ويكتنف مشاعرها. وهي التي تفانت في عمل بسيط أحبته وأحيت من أجله سنة المرح والترفيه، فلم تنؤ يوما بحمله أو تتأفف من أعباءه. عمل مارسته بتذلل وفي نفسها شيء من الندم على مرحلة مبكرة من عمرها انقطعت خلالها عن دراستها، اذ كان حريا بها الاستمرار لتحقيق الذات والطموحات العلمية … وبحسرة شديدة تتذكر نصيحة أحد اساتذتها “(شوفي نعيمة .. قراي دابا راكي غادا تندمي عليها مني تشوفي كرانك وصلوا ونتي لا ..)

خيال واسع وخجل طفولي بدده العمل الجمعوي

انتعش خيال نعيمة الفني في مرحلة الطفولة بين أحضان اسرة مثقفة تجاذبتها رياح الأقدار فانتهت بها حيث تهشمت الاحلام. فمن أصول صوفية وفقهاء ومثقفون تشربت الفروع حب الاطلاع والبحث والقراءة، فكانت تلتهم الجرائد والروايات والمجلات وتحفظ الشعر والحكايات، أسوة بأبيها الذي كان موسوعة الحكايات الشعبية والطرائف والنكات، وأمها التي جمعت من كل فن طرف، وعشقت المسرح الى حد الوله، تقول انها (كانت مسرحا في بيتها والجمهور أبناؤها وجيرانها). استقت منها نعيمة وله الفن والابداع، الا انها لم تمتلك الجرأة الكافية للتعبير عما يختلج وجدانها بالمدرسة في إطار الانشطة الموازية، بسبب خجلها وخوفها الشديد من اساتذتها، رغم انها كانت تتمتع بحيوية ونشاط فائقين.

انفصلت عن الدراسة بالمستوى الإعدادي، لكنها لم تنفصل عن القراءة، فظلت تغترف من معين الثقافة، ملازمة قفة الجرائد والكتب والمجلات والبرامج الثقافية … ثم تلاشت عادتها بين ثنايا مسؤولياتها الاسرية. وحين فصلت عن العمل انطلقت نحو المجهول والالم يعتصر قلبها … انطلقت وهي تردد عبارات وكأنها الشعر، لتجد نفسها أمام باب احدى دور الشباب بأسفي. دخلت فجلست تستأنس بعروض مسرحية. تقمصت دورا في مسرحية (ليلة الرفسة) التي تحكي عن فترة تاريخية من حياة القايد سي عيسى. فولد المسرح لديها شحنة بددت معاناتها، ثم أصبحت عضوا شرفيا بجمعية (فرقة حوش لفراجة للفنون). وجدت السند الذي حول ألمها الى ابداع فني.

ثم بدأت تكتب قصائد زجلية دأبت على اصطحابها في ملف الى لقاءاتها، حيث أبدى أعضاءها اعجابهم بها، فكان ديدنهم التحفيز والتشجيع. أمنت رئيسة الجمعية السيدة فاطمة ا لزواني مشاركتها في مناسبات ومهرجانات محلية ووطنية ووعدتها بالمساعدة على طبع ديوانها.

شاركت بقصيدة (يا ديك الخيمة) في مناسبة عيد المسيرة الخضراء بعمالة آسفي سنة 2015م , وبقصيدة (صرخة نملة) بالدار البيضاء في مهرجان الزجل الذي أشرف على تنظيمه السيد حسن الخبازفي نفس السنة. وبقصيدة ( ياك انا مغربي ) وقصيدة ( سمعي يا ديك الجارة ) وفي حفل اقيم بمدينة الفنون في اسفي احتفاء بعودة المغرب الى اسرته الافريقية. كما نشرت لها قصيدة (يا العود الهربان) بالعدد 69/2017 منجريدة)أسيف). ولا تزال نفسها تواقة لمزيد من الدعم من أجل طبع ديوانها الزجلي الذي ضم ما يقارب الخمسين قصيدة.

زجل بسمة العفوية وجمالية الصورة الشعرية

حررت الحكرة دواخل نعيمة فحملتها الى عالم الابداع، وبالهام جمعوي, طفقت تنظم كلماتها في عقد تراصت صوره الشعرية لتشكل زجلا تراثيا شعبيا حرا أصيلا وعفويا مقيدا بقواعد احاسيسها وعمق مشاعرها، فتناولت مواضيع متعددة تختزل هويتها وذاكرتها التاريخية وطبيعة تفكيرها وتصوراتها، وتسجل همومها وانفعالاتها ونبض واقعها المحيط. فتستدعي من اجل ذلك قاموسا تراثيا يحيلنا على الحياة المغربية الاصيلة. انها تكتب ماتمليه ظرفيتها بلغة بسيطة هي لغتها الأم، وبحس شعري غير مقيد بشكل ولا أوزان. تستعمل السرد لتعيد تشكيل الواقع حسب رؤيتها الخاصة. وتنقل صورها الشعرية الواقعية والمجازية بحس فني جمالي متفرد، وصوت معبر ممزوج بإيقاعات موسيقية رائعة… تنقلها الى السامع فتخلق لديه شعور وإحساس خاص.

نبحر قليلا في ملفها الزجلي لنرصد نماذج مختزلة من قصائدها، من خلال ثيمات يكتنفها التنوع والاختلاف. فنجد انها:

1) كتبت أولى قصائدها بنفس المرأة المقاومة للظلم والحكرة في ارتباطهما بحياتها المهنية، اذ ترى انها صورة مصغرة لمعاناة المرأة المغربية عموما. فتقول في مطلع قصيدتها (حقوق المرأة) :
ياناس فهموني راكم حكرتوني
فين عيد المرأة لي فيه قدرتوني ؟
فين حقوق المرأة في المساواة باش وعدتوني ؟
ولا عجبكم نكلس فالدار بحال التحفة، غير تشوفوني!
ما نستافد ما نشوف، نبقى غير غشيما، حسن دفنوني!
ولا نصير ديما صابرا، ولا حلم تحقق كدام عيوني!

وتقول في مستهل قصيدتها (جاوبني يا قلب ):
كيف شعيرك يا قلبي ما دار عليه العام او حال؟
مال شواريك فوق البردعا اتحل ومال!
كيف قفلك هندك وضعاف قدام سوارت الجلال!
مال المعيز غلات وبالرخاتباعت لغزال !
كيف تحكرني فزمان الذكور، فين غابو الرجال؟

2 ) وتنطلق من تموضعها حول هموم الذات الى تأمل الحياة فتقول في مطلع قصيدتها (تغير الحال ) :
غيم الحال وضربوا رعداتو
وتغير الحال وتلات كياتو
تبرمو الخيوط والكبة راسها ما لقاتو
سالت الطرقان والفرح فين تلاتو
لو كان تتبسم وتتفاجابوقاتو
قبل ما يتقوس الظهر، والراس يطلعوشيباتو
وأخر العمر يظهر ونتفاجئبطلاتو

وتقول في مستهل قصيدتها (زمانا):
” نعيبو زمانا والعيب فينا ”
زمانا ما معيوب، العيب في نفوسنا الله يهدينا
هو بحالنا مخلوق ما يمكن يآدينا
خلينا على نخرجو روسنا من الطوق خرجنا رجلينا

3) ثم تعود لتعانق الذكريات، وتستعرض أخلاق ” ناس زمان ” فتقول في مطلع قصيدتها (كنا حمام) :
سمع يا ولدي يا فريخ لحمام
كنا حمام تاع لحكام
نخرجوبجلاباواللتام
نطلو طلا ونباتو في لخيام
كان لينا شان ومرشان
وكلامنا يتعبر في الميزان
او ماكلتنا قمح وكرشان
وراضيين بالقسمة كيف قال العدنان

وتقول في مستهل قصيدتها (ما بقا ما يعجب):
الدنيا كحالت ودق في الكحل
ماليها مالت والصحيح فيهم تعل
القلوب من لمحبة خوات وعمرت بالدغل
بيبان الرحمة تغلقات بلا قفل
هني راسك وتهنا ما بقا من يحل

4) وعن حبها للقراءة وفن المسرح وارتباطهما بمعنى الحياة. تقول في مطلع قصيدتها (حب المسرح ) :
حياتي المسرح والمسرح هو حياتي
تزاد وكبر معايا ويقدر يكون وراثي
كانت لميمة تمثل قدامنا وانا صغيرة نشوف بعويناتي
دارها كانت هي المسرح والجمهور الجيران وخوتي وخواتاتي
ملي كانت لمحبة والخير بين الناس
وكان الصدق ودارك هي داري
ماشي بحال دابا غير الحب الذاتي

وتقول في مستهل قصيدتها (الكاف المعكوف) :
قريتك يا الكاف المعكوف من وسط الحروف
شريتك ونتا مطوي أو معكوف
تعورط وتزاوك قال فمك سبابي سر بيه مجروح
شفت فيك عذابي داك الساكت لي ما يبوح
فتحت بابي بعدما تسدو عليك دفوف
كتبتك فكتابي فأول سطر او ما بغاو لحروف
قلت فاهم وقاري ما منك خوف
منك نفهم كيف تزدا وتتلاقى لحروف

5) ولا تفتأ تلقي بدلوها في دلاء قضايا الوطن والناس، وتعبر بعفويتها عن حبها للملك فتقول في مطلع قصيدتها (فرحي يا ليام):
فرحي يا ليام, وغني يا العمر
فعهد ولد الحسن، كلشي زيان وزهر
زغرت يا زين لفام, أهلل, الله اكبر
محلاه يا سلام، مضوي كيف الشهر

وتقول في مستهل قصيدتها (تكبر العين) :
يا الحاجب يا لي فوق هاد العوينا
هاد السمرا البلدية لي شوفتها ديما رزينا
بيك محفوظة وديما غاليا عندك وثمينا
تشوفها وتقول العيد غدا, هي ورموشها الحنينا
حايط بيها وخايف عليها من كل عين وعوينا

وتخاطب الجارة الجزائر بعد مدخل غيواني طويل فتقول في مطلع قصيدتها (يا ديك الجارة) :
سمعي يا ديك الجارة
يالي درناك حبيبة وخت من لخوت
صدقتي غدارة ومن ورانا تحفري قبر الموت
فين لوصى على سابع جار وانتي بيتك حدا لبيوت
نقول ليك ونعلمك …
راه حنا والحكرة ما نكونو خوت

6) وعن حبها لوطنها الذي يحمل كل معاني هويتها وتاريخها تقول في مستهل قصيدتها (المغرب بلادي) :
ما تقيسوش بلادي يادوكالمغيارا
بلادي تفنن، فنة غزالة مسرارا
زينها يهول وزواقها نوارا
والفرح فيها مبهج يبشر بالبشارا

وختامه شعارها (تألمت وتعلمت فتغيرت.)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *