وجهة نظر

من في الشارع، شعب أو جمهور؟

إن الناظر إلى الشارع المغربي اليوم، يراه مكتظا بالاحتجاجات والأصوات الغاضبة، فبعد النضالات الإقليمية حول المطالبة بالمستشفيات والتشغيل وتوفير المياه الصالحة للشرب..الخ (نموذج الحسيمة وزاكورة وجرادة) انتقلت الاحتجاجات من هذا الشكل إلى احتجاجات قطاعية، فمنذ فترة لم يبقى قطاع من القطاعات لم يشهد احتجاجا على الحكومة من طرف أصحابه، فها هو قطاع التعليم نجد في الشارع الأساتذة المتعاقدين وآخرون دون السلم، والدكاترة المحرومين والتلاميذ المقهورين والمندفعين، وفي الصحة نجد احتجاجات الممرضين واستقالات العشرات من الأطباء، وفي قطاع النقل نجد إضرابات الشاحنات وعربات نقل البضائع ..الخ، وبين الفينة والفينة نجد وقفة هنا وهناك، هؤلاء يحتجون لهدم منازلهم، وأولئك ينادون القضاء من أجل الإنصاف، وآخرون مكفوفين يتساءلون عن المصير.. وهكذا.

لكن الغريب في الأمر أن يعتقد البعض أن كل هذه الأمور نضالات شعبية حقيقية، نعم نحن نقول كل هذه المطالب مطالب حقيقية، ولكن دعنا نفرق بين نوعين من النضالات، نضال الشعوب ونضال الجماهير، إن نضال الشعوب هو المؤطر بالمثل العليا والمطالب الجماعية الحقيقية، نضال الشعوب هو الذي تقوده إرادة ومبدأ داخلي واعي، لا مجال فيه للتفاوض أو التعويض، لا مجال فيه للتراجع، إن المناداة بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان، ليس هو المناداة بالتّرسيم الوظيفي لفئة معينة، أو الزيادة في الأجور لفئة أخرى معينة، أو ما شابه.

إننا في هذه الحالة نجد انتقال الشعب من حالته الطبيعية في الاحتجاج والمطالبة، إلى حالة الجماهير الشعبية والجموع الغفيرة الفاقدة للمبدأ، والتي تناضل من أجل حقوقها الفردية والذاتية الخاصة، هنا لا يصح أن نصف الاحتجاجات بأنها احتجاجات شعبية، إنما احتجاجات أفراد يعيشون لأنفسهم، يبحثون عن مصالحهم الخاصة، نضالهم مؤطّر بالرغبة، وهذا أمر خطير، إذ يكون ذلك من طبيعة الحال على حساب النضال الشعبي المبدئي المحصن بالمثل العليا، والتي لا تقبل التجزئة.

إن الأمران مختلفان جدّا وبينهما فرق شاسع، كما الفرق بين مطالب الثورة الفرنسية سنة 1789 ومطالب الثورة الالكترونية المغربية على قضية تغيير الساعة، والأدهى والأمر أنْ صاحَب هذه الثورة الالكترونية خروج الجموع الغفيرة الغير المنظمة إلى الشارع، مع شعارات احتجاجية جديدة (الكلام النابي والضرب تحت الحزام) كشعارات مكتوبة وترددها ألسنة المحتجين، هنا اعتقد أننا لسنا أمام نضال يفتقد المبدأ السامي والمُثل العليا فقط، أو انه نابع من رغبة طبيعية ذاتية، بل يتجاوز الأمرين معا إلى تبني اللأخلاقية واللامبدئية.

إني أرى أن هذا التحول الذي يستغلّه الانتهازيون أشباه المناضلين، ويستغله السياسيون كذلك، في إهدار الزمن التاريخي لشعوب بحاجة إلى ما هو أساسي سامي جامع، يستغلونه في أمور تافهة تميّع الموقف السياسي وتبخّس قدرات التفكير الجمعي، كان سببه الموت الإيديولوجي ورداءة البدائل الفكرية المطروحة وفقدان نجاعتها، ولذلك لا يستطيع الفرد في مجتمعاتنا أن يفكر عاليا، فإذا فكّر لا تتجاوز أفكاره ومطالبه حدّ أقدامه، ولعب الفكر الأصولي بقطبيه (الإسلامي والعلماني) دورا كبيرا في هذه المسألة، فالأول لم يحترم العقل الإنساني وأصبح عرضة للانفصام عند الممارسة، والتاني لم يحترم الخصوصية الهوياتية، وفقد مشروعه الشرعية على أرض الواقع.

إن هذه النخب التي كان من المفروض أن تملأ الفراغ، وتطرح البدائل لقيادة الجماهير، لم تستطع أن تقوم بأدوارها التأطيرية نظرا لما أشرنا إليه سابقا، وبالتالي أصبحت الجماهير هي التي تقود التنظيمات، وهذا هو الحال للعديد منها التي أصبحت تتبنى سنّة الاحتجاج والغضب والأصوات المرتفعة والشعارات الفضفاضة، لعجزها عن تقديم الأفكار للجماهير، وبالتالي تكتفي بذغذغة مشاعرهم بالمطالب الاجتماعية والحقوق الآنية والعاجلة، وتعلن دعمها لها، وتراها تلبي النداء عند كل صيحة في الشارع، فعوض توجيه النضالات ودعمها بالعدة الفكرية والتصورية والتنظيرية، أصبحت تعوي مع كل ناعق، انه حال العدل والإحسان وحال اليسار الراديكالي وحال التوجه القومي الامازيغي الشوفيني، ولا شك أن الوقت يداهم غيرهم كذلك، إن لم يكن قد داهمهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *