وجهة نظر

خاشقجي.. قدر التقاء موطن الأصل بموطن الرحيل

شاءَت أقدار الله؛ ثمَّ تدابير عُتاة الاستِبداد أنْ يَجعلوا مِن المكان الذي آوى جثّة الـقتيل (أو كذا يستنتَج لحد اللحظة) هو ذاته الموطِن الذي أخرَج النَّبت المُسمَّى (خاشُقجي) منذ قرون خَلَت، وشهْرَ ميلادِه هو ذاته الشهر الذي احتضن وفاته (أكتوبر 1958 – أكتوبر 2018).

فالخاشُقِجيون؛ سُلالة عثمانية الأصل؛ وفَدَت واستَقَرَّت ببلاد الحجاز، وبالأخص المدينة المنوَّرَة ومكة منذ حوالي خمسينات القرن السادس عشر. ويُقَالُ أنَّ مَعْنى اللَّقَب يخرُج إلى (صِناعة الملاعِق/ صانِع الـملاعِق)، وتُفيدُ في معناها العثماني “خاشُق” (الماسة التي لا تُقدَّر بثمن)، ويُعْـتَقَدُ في وجودِ ماسّة أثيرةٍ فاخرة بمتحف (توب كابي) بإسطنبول، وهْيَ رابع أكبر ماسة في العالم، وتَحظى بعناية وحماية أمنيين ..فَخْر العثمانيين والأتراك.

صارت العائلة مع كُرور الزَّمن تحمِل اسمَ تلكم الماسة العريقة، فبَرز من أعضاءها مَن بَزَّ أقرانَه وخَدم وطنه وصَنع مَجْدَ السلالة. آل خاشُقجي عائلة كبيرة، مارست مِهَنًا مختلِفة وتَوَلَّتْ وظائفَ عديدة، ومنها مَن كانوا رُؤساء بلديات في العهد العثماني، ومنهم مَن مارَس الحِسبة وتدبيرَ أمور الحجّ وخِدمة العائلة المالِكة، ومَشيخة الحرم المكي. وأوّل وزير للصِّحة في التاريخ المعاصر كان من أسرة خاشُقجي (محمد بن خالد)، وأغنى رجالات المال والأعمال من أسْرَتِهم (عدنان خاشُقجي)، ومدير إدارات الجوازات والجنسية منهم (صَدَقة خاشُقجي)، والباحث الأكاديمي عَضو مجلس الشورى منهم (هاني خاشُقجي)، ورئيس مجلس إدارة المؤسسة العربية للاتصالات الفضائية منَ الأسرة (حُسام الدين خاشُقجي)، وأشْهَرُ إعلاميي السعودية والعالم العربي منهم وهو المدعو قيدَ حياته (جمال بن أحمد بن حمزة خاشُقجِي). هذه الأوجُه وغيرها كثير ممّن لَـم نَذكُر؛ آلَ مَصير أَنْـشَـطِــهِم إعلاميا وسياسيا؛ إلى حالٍ هَزَّ ضمير الأحرار والإنسانية، وأفْصَح عن فُجورٍ سياسي رسمي في التعامل مع أصحاب الرأي ممن خالَفوا توجهات السلطة السعودية ونَهَجوا نهْجَ أسلافهم من العلماء والفقهاء والسّياسيين فيما يُعرَف بــ”أدَب النُّصح للـملوك”، الذي يَزْخَرُ تاريخ الأمّة العربية بنماذِج منه، اختلَفَت مصائر بَعضِ مَن رفعوا راية النُّصح لِوُلاةِ الأمـور بين الإهمال والسجن والنّفي والاتهام بالجنون والقَتل..؛ ولنا في تاريخنا القريب شواهِد ومشاهِد من نَكَبات العلماء ومِحَن الساسة والمثقفين وأصحاب الأقلام الـحُرَّة ممن تُدْرِجُهم الذّات السُّلطانية الـمُستبِدَّة في خانة “مساخيط السُّلطان”. وما أحْسَن ما عَبَّرَ عنه الشاعر العراقي الكبير (محمد مهدي جواهِري) حينَ حديثهِ عن التنكيل الذي طالَ أهْلَ الحق والعلم والقلم والسِّلم، فقال في بيْتَه الشِّعْري الأثير:

لِثَوْرَةِ الفِكْر تاريخٌ يُنَبِّئُنـا**بأنَّ أَلْفَ مَسيحٍ دونها صُلِبَا

غيرَ أنَّ مِحنة العلماء والمثقفين والأحرار من مختلِف التيارات قد بَلَغت من الأوجِ عِــتِيا في بلاد خادم الحرمين الشريفين، ولئنْ كان القَمْع الديني وتنفيذ الإعدامات في حق المعارِضين والاستِفراد بالـحُكم وإقصاء ذِي الرأي الـمخالِف؛ الثابتَ الأبرز في مسار التاريخ الحديث لمملكة آل سعود، بتفاوُتٍ بين مراحِل حُكْمِ مَـلِكٍ وآخر، إلا أنَّها مع راهِن نُفوذِ وحُكم (ابن سلمان) أشدُّ ضراوةً ومَنقولة للقاصي والدَّاني عَبْر قُصاصاتِ أخبار وتسريباتٍ وتقارير وطنية ودولية وتغطيات صحفية..

وها هيَ ذِي نَكبة آل خاشُقجي تدخل شهْرها الثاني، مُفْسِدَةً الجوّ الدبلوماسي والسياسي بين تركيا التي كان منها الأصْل النَّسَبِي وفيها القتل والإفناء الجَــسَدِي للمرحوم (جمال) والمملكة العربية السعودية، ومُفِصِحةً عن لحظاتِ انحدار في السلوك السياسي العام للحكّام العرب الـمُقادَة دُولُهم بأعراب جُفاةٍ قُساةٍ طُغاة، أشدُّ كُـفرا سياسيا ونِفاقا أخلاقيا، الذينَ ولِغوا في الدماء، واستحَّروا القَتل في الأحرار، وولِعوا بحُبِّ الصّدامات والمواجَهات والصعود للقمة على أهرامات الجُثَثِ والضحايا الأبرياء. ومُبينةً عن نِفاقٍ دوليِّ يُعيدُ للأذهان ممارساتٍ لـــ”علِم الـحِيَل” بتعبير القُدامى، وذلكَ في أسوء مستوياته أيام المحنة البوسنية حيثُ وصَف أحدُ الباحثين مواقِفَ وأفعال وتصريحات قادة المنتظم الدولي بــ”دبلوماسية السفّاحين”. ورسَّخت حالة اغتيال (جمال) في الأذهان ما خلُصَ إليه المثقف الأمريكي (جون جي ميرشمير) في مرجِعه القيّم “مأساة السياسة في الدولة العُظمى”، وما أودَعَه في كتابه الـمُثير “لماذا يكذِب القادة؛ حقيقة الكذب في السياسة الدولية” من حقائق ومُعطياتٍ وأساليب عمَلٍ وتَهتُّكٍ يندى له الجبين.

ما بينَ نَبَإٍ عن تذويبه، وآخَر عن قتلِه وطَمْره بإحدى الغابات، إلى تصريحٍ يُفيدُ تقطيعَه وتحايُلٍ سُعوديٍ يُفيدَ موتًا طبيعيا للرجل؛ لا يزال الرجل مُعَلَّقاً في عالم الحَـقيقة، في المنزلة بين الـمنزِلتين. لكنَّ الذي عُرِفَ وافتُضِحَ؛ استدراجه وتصفيته مغدوراً في بلدٍ يضمُّ رُفاتَ أجداده، وتراباً وزُقاقاً ومُدُنا احتَضَنْت أصْلَه وجِذْرَه، وشاء الله أنْ يكونَ فيها أجَلُه الــمُقْضَى.

ولله الأمر من قَبل ومِن بعد، ويمكرون ويمكر الله، والله فاعِلٌ وخير الماكرين.

وَداعاً جَمال..إلى الله في الخالِدين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *