وجهة نظر

ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك !

اللحظة التاريخية القاسية التي نعيشها اليوم لا يمكن تعميمها على باقي المشاهد التاريخية القاتمة، التي أرخت لهجرات جبرية فرضتها تكتيكات بدايات نشر الإسلام في ربوع قصية من فضاءات نزول الوحي على رسول الإسلام.
الفرق بين اللحظتين القطيعتين أن من لجأوا لملك الحبشة غير الذين يقضون اليوم مضاجع الموت في أرض هي أرضهم وسماء هي مظلتهم ويعرفون أن ملكهم صادق ومؤتمن على مصائرهم.

غير أن ما يجمع الفريقين رغم شساعة المسافات معرفيا وصيرورة ومعنى أن الخطاب الهارموني القوي الذي ينسجم مع هوياتهم وكينوناتهم يلائم الزخم الاحتجاجي الحجاجي الذي يسع كل الدلالات السياسية والايديولوجية، من حيث كونها تقطع مع الحقيقة وتتغذى منها.

( .. ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك!) .. إنها آخر عبارة في مثن الخطاب الاستعطافي الذي وجهه رئيس وفد المسلمين جعفر بن أبي طالب لملك الحبشة النجاشي، يستلهم منها قوته البلاغية وقدرته على إيقاظ حواس المخاطب.وهو حوار ثقافي عرفاني ديبلوماسي؛ صيغ بحدس بلاغي غاية في الدقة والروعة.

ينماز الخطاب الجعفري إياه بكونه يخاطب ملكا دانت له قارة إفريقية، مشهود له بالحكمة، مخصوص بالعدل والقوة. وعلامة الخطاب أنه يأتي بعد اشتداد الظلم والطغيان من قبل من بعث إليهم النبي، حيث مارسوا على الأتباع كل صنوف القهر والتنكيل والقتل والطرد.

وتحمل العبارة التي اخترناها عنوانا للتناص، في تقاطعها مع الاحتمالية الزمنية واتصالها بالواقع وتشخيصها للوضع القائم، كل فنون الحجاج الفلسفي بأبعادها اللسانية والديداكتيكية.

توجه مدلولاتها الخطابية المباشرة لصفة الملك شخصا ورمزا. فالرجاء عبارة تستخدم كرد إيجابي مهذب لعرض كالتوسل والتفضل.

قال الشاعر :
إن مزقوا جسدي فالقلب لم يهن
له رجاء بأجر غير ممنون

وحتى يعلو الحماس في التشبث بالرجاء وعدم الوقوع في اليأس ومغالبة تثبيط العزيمة وقهرها بالأمل، جاء فعل ( رجونا ) مقدمة لتحميل معنى منظور يسم اللحاظ العسيرة بدفق الحياة وإعادتها إلى حالتها الطبيعية، عسى الكرب ينفرج والحزن يذهب والألم يختفي.

فما كان من كل ساع للقبض على الهارب من الحق والصدق؛ والعدل واليقين، غير الدعاء لمن بيده الظفر بورد المسؤولية، الراعي لرعيته،ظل الله في الأرض، حيث لا ينبغي العبور إليه دون التماس لاعمال صفة البدل وتصحيح المسار وإظهار الحقيقة ونصرها وتعزيز مكانتها.

ولهذا العقد موازينه وضوابطه وآليات اشتغاله، على الرغم من تبدل الأحوال ونسبية المآلاتومناطاتها؛ من الانتظارية والزيغ عن الهدف والتسويف وانسداد الآفاق.

فبين الرعية والملك عهود ومواثيق وبيعة في الأعناق، من تخلف عنها فقد باء بغضب من الله والمخزن. ومن صار على دربها تحلل من خوف المصير وانجلى له الصمت عقلا وتفويض الأمر إلى الخالق عاقبة وختاما.

نحن اليوم نعيش عصر التكنولوجيا وعلوم الإبحار على النت مجانا ودون سابق إنذار. لا حاجة للهجرة آلالف الكيلومترات بحثا عن طريق تأخذك لملك عادل يسمعك ويقضي حوائجك.

وليس بمقدورك أن تطلب من هدفك ومرماك كل ما ترغب فيه من الأمن النفسي الذاتي إلى الروحي الإحساني.
كل ما يجب فعله أن ترمي بفلتات عبراتك، وتكشف بالمكتوب شكايات التظلم ، كما تستطيع تسجيل رسالتك صوتا وصورة، محمولة على قياسات سيبرانية متطورة، تعكس قيمة الخطاب وأهميته بالنسبة للمتلقي.

تختزل منظومة التشكي ورفع المظالم في مجتمعنا المغربي الراهن طوق نجاة ؛ لا يعادلها في القيمة والفعل سوى مكانة ومهابة رأس الدولة وضامن الوحدة وأمير المؤمنين بها

وهي قيمة اعتبارية تستدعي الوقوف على مبدئية التواصل بين الولي والرعية، بما هو قمين بالتجاوب والايجاب والفعالية وسرعة إيجاد الحلول.

ولعمري إنها أوديسة العصر الحداثي الذي أضحى فيه رمز الملك مشاعا على التعدد والحرية والارتكان إلى مطلب العدالة التصالحية. لولا أن ذلك يحجب التأويل القائم حول مجاز العبارة الجماهيرية الشهيرة ( ما ضاع حق وراءه مطالب) ، إذ يقطع القاطعون وييفتري المفترون ويتستر الذاعرون وينتهك المنتهكون ويتمادى الغاصبون، فتنطلي الظلمات وتغتال فجوة الأمل في عيون المنتظرين، وتنحرف القراءات إلى ما دون التصويب، فيصير الضرب على القفا أوسع من ميزان العقل والأهواء كما يقال!

لكن شرف الحديث مع الملك لا يزال طريق الناس وواجهة نهوضهم بقضايا الفجائع والمواجع. وكثير من رسالات هؤلاء ممن وصلت أو سحبت أو منعت أو أزلفت أو خامرها اليأس وانتقلت لأدراج المكاتب، تباعدت جنبات حضورها الادعائي وتضاربت رواياتها فتخلفت عن الركوب والاستقصاء.

وإذا كان جهير هذه الرسائل مبتوتا في الحياة الخفية لمسكنات ألفاظ وعبارات، ومنثورات واحالات، أغلبها ينطق بالعواطف وينقاد بأدوات خطابية مكسوة بمجازات التوسل وطلب العطف مقرونان بالتدخل العادل والإنصاف الحازم، فإن الاجتماع على استنباط وقود الجسارة في عنوان مقالتنا ( ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك !) يحيلنا قطعا إلى التفكير في أنموذج مضيء يحفزنا على إعادة التذكير بعدالة قضايا الشعب ،وببدهية وسلاسة تلقي ذلك من ملك البلاد ، الذي نعتبره جميعا أبا وغطاء رحميا وطوقا للنجاة.

ألا يصدق ذاك الرجاء المبتوت في أحشاء تاريخ متداعي على زمن تتلقفه التعالقات واشتباكات الخوف من كل جانب. زمن مغربي تغلفه الشكوك والاحتيالات وتعتمره الحتوف وأغلال العيش، حتى صارت الكآبات متاهة للوقوع في شباك الانتحار بالشنق أو الغرق في البحار المالحة!

نعم أيها الملك، إن رجاءنا ألا نظلم عندك مداره وجودك الحتمي في قلب مصيرنا، بلاغتك المكينة في القبض على الجذور الثاوية للشجرة المحرمة، وانتصابك جسرا عابرا لكل قارات المحبة التي نأوي إليها كلما هنت لنا سماء الوجع وانشقت بخرائبها غربان الغدر والبؤس والفجيعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *