وجهة نظر

صالات السينما المفقودة

بمناسبة المهرجان الدولي للفيلم بمراكش:

جرى أول عرض سينمائي بمدينة مراكش في الثلاثينات من القرن الماضي، كانت مراكش – المدينة عبارة عن مجموعة من الدور وسط الحدائق و السواقي و البساتين. واكتمل الوجه الرومانسي لمدينة النخيل بظهور السينما. لم تكن القاعات السينمائية قد ظهرت بعد إذ كان الجمهور يجتمع جالسا على الأرض في إحدى القاعات الضخمة «=مرآب» في حي عرصة المعاش. قرب هذه “القاعة السينمائية” توجد محطة القطار الأولى في المدينة. وقد أصاب الذهول و الإعجاب رواد هذه القاعة العجيبة و الصور تتحرك أمامهم.

كانت الشرائط التي تعرض صامتة في أغلب الأحيان و تتناول مختلف المواضيع، منها ما هو روائي إبداعي، و ما هو مجرد أخبار أو برامج شبه وثائقية. وبالطبع بدون ألوان- لكن البعض يرى أن أول سينما بمراكش كانت بباب دكالة أمام السواقي، و كانت عبارة عن فضاء ليلي تعرض الأفلام الصامتة فقط، و تصاحب العروض فرقة موسيقية قرب الشاشة، و بجانبها أيضا عربة بائع الشواء و الشاي. و قد بدأت هذه السينما العمل في مطلع الثلاثينات و (أغلقت) حوالي 1937 و كان مالكها يدعى الأعمش-، هذه المرحلة سرعان ما ستطوى بظهور أول قاعة سينمائية أسسها شخص من الطائفة اليهودية كان اسمها باللاتينية ” EDEN”، يوازي بالعربية “عدن” أي الجنة، إلا أن الجمهور أطلق عليها اسم “سينما القنارية”، لأنها تقع في حي القنارية القريب من شارع الأبناك و من ساحة جامع الفناء. في العام نفسه 1936 تأسست سينما ” REGENT” في الحي الأوروبي من طرف الشخص نفسه، و استقطبت الآلاف. وكانت سينما عدن تتوفر على قاعة مغطاة و أخرى في الفضاء الطلق تستخدم صيفا. و تقتصر عروضها على السينما الغربية خاصة الإيطالية و الأمريكية و الفرنسية أحيانا، وتحولت فيما بعد إلى سينما الكاراتيه.

وقد انتبه بعض رجال الأعمال إلى كون السينما مشروعا مربحا، و بدأت القاعات السينمائية في الانتشار منها الأطلس، و مبروكة و الزهراء، و مرحبا، و موريطانيا و الفتح. ثم سينما غزالة و الحمراء و تقع هذه القاعات كلها في المدينة القديمة التاريخية داخل الأسوار.

القاعات السينمائية في الحي الأوروبي

تم إنشاء الحي الأوروبي في بداية العشرينات و اكتمل في الثلاثينات من القرن الماضي. وكان أغلب سكانه فرنسيين أو أوروبيين، إذ كان يمنع ولوجه على المغاربة إلا بترخيص. وقد وضعت الحواجز في نهاية سور المدينة القديمة – الذي شيده علي بن يوسف بن تاشفين 1106-1143. قرب عرصة مولاي عبد السلام، الضيعة الجميلة التي وقفها على سكان مراكش و التي لا زالت قائمة.

و قد شيدت في الحي الأوروبي عدة قاعات سينمائية، فالفرنسيون هم أصحاب المثل أو الشعار: “عندما نحب الحياة نذهب إلى السينما”. وقد تم تشييد أول قاعتين سينمائيتين في الثلاثينات وهما سينما “باريس” و سينما “REGENT”، وبعدهما تأسست “بلاص” و هي عبارة عن فضاء مسرحي رائع يحتاج لمن ينقذه اليوم. و تتوفر بدورها على قاعة صيفية و بجوارها توجد سينما “لوكس” .

لم يكن الحي الأوروبي وحده الذي عرف القاعات السينمائية، فالحي الشعبي سيدي يوسف ابن علي، الذي كان عبارة عن ضاحية للسكن العشوائي عرف قاعة سينمائية هي “الهلال”. و أيضا سينما “موريطانيا” في حي القصبة القريب من باب الرب ، وبعد ظهور الأحياء الجديدة و توسع مدينة مراكش شيدت سينما الريف في 1970، و سينما المسيرة في الحي المحمدي و سينما السعادة في الحي الحسني. و حديثا تأسست ميغاراما في الألفية الثانية بحي باب إغلي.

و قد ضمت مراكش حتى العهد القريب 20 قاعة سينمائية منها المغطاة: مبروكة، الأطلس، عدن، موريطانيا، غزالة، الفتح، مرحبا، كوليزي، الحمراء، بلاص ، الريجون، لوكس، الهلال، الريف، المسيرة، السعادة.

و منها الصيفية: بلاص، الزهراء، عدن و مرحبا (تحولتا إلى مغطاة)، أما باري أو “PARIS” الصيفية فقد توقفت منذ زمن طويل، و لا يزيد عدد القاعات التي لا زالت تشتغل على أربع: مبروكة، و كوليزي، و المسيرة، و ميغاراما. أما الباقي فبعضه اندثر أو أصبح عمارات، و بعضه توقف عن العمل و بعضه منع المركز السينمائي هدمه دون أن يقدم البديل.

كانت السينما على قمة الوسائل الترفيهية، وكان الزحام شديدا أمام القاعات السينمائية و شبابيك التذاكر حيث يتدافع الجمهور لأخذ تذكرة، و كانت إدارة كل قاعة تكلف أحد رجال الشرطة بتنظيم الصفوف و زجر المتزاحمين بالسوط أحيانا. و قد فتح هذا الزحام شهية المضاربين، الذين يشترون التذاكر و يعيدون بيعها بثمن أغلى. وكانت سينما غزالة مثالا على ذلك تقع في حي يسمى ضبشي، و يقال إن هذا الإسم لشخص تركي كان يسكن في الحي على عهد الإمبراطور أحمد المنصور الذهبي. و يعمل مدربا لجيش المنصور الذهبي 1578-1603 على استخدام المدفعية. كانت سينما غزالة عبارة عن قاعة «للفرفشة» تقدم فيها عروض المطربات الشاميات اللائي جيئ بهن من الشام أو تركيا خلال فترة الاستعمار 1912-1956 .

و بعد الاستقلال صدر قرار بوقف العلب الليلية و الخمارات و منع بيع الخمور في المدينة القديمة، و انحصر كل ذلك في الحي الأوروبي.

فتحول ملهى الشاميات إلى قاعة سينمائية على عجل في الستينيات من القرن الماضي. وكان الولوج إليها يكلف 90 سنتيما أي أقـل من درهم، و كان يوم الجمعة بالنسبة لنا عيدا ذلك أننا كنا نوفر المبلغ، و كان يوم عطلة مسائية نذهب فيه إلى سينما غزالة، و كنا نأخذ معنا الغداء بعد أن تعده لنا الأسرة، و نقف في طابور السينما الذي يبدأ في الواحدة و النصف و لا ينتهي إلا عند الثالثة زوالا عندما نلج قاعة العرض.

كانت الكراسي صلبة و الزحام شديدا و الخصومات كثيرة لأن البعض يستولي على مقعدين أو ثلاثة مدعيا أنها غير شاغرة. كانت سينما غزالة كجميع القاعات تشغل شريطا واحدا مع “الأنباء المصورة” وهو شريط عن الأنشطة الملكية و الحكومية، إلا أن إدارة سينما غزالة ابتكرت اختراعها و هو فيلم ونصف. و إذا أردت أن تشاهد النصف الآخر فعليك أن تأتي في الغد، و كنا نضطر لذلك لأن الفيلم الثاني يتوقف في مقطع مشوق، اعتقال البطل أو الشرير أو اختطاف البطلة. وقد أدركت باقي القاعات السينمائية حيلة سينما غزالة فأعلنت عن فيلمين كاملين، فاضطرت غزالة إلى مجاراتها.

كانت سينما غزالة تعرض جميع أنواع الأفلام أفلام “الصحة” أي الأفلام الرومانية و أفلام الكاوبوي و الأفلام العربية و أفلام الحركة و الأفلام الهندية. وكانت أجهزة الاستخدام فيها متعبة وكان “بلال” وهو شخص طويل عريض، ينظف القاعة وتحول هو الآخر على عجل إلى تقني فكان هو الذي يشغل هذه الأجهزة التي اهترأت وكثيرا ما تتوقف و تظهر النار مشتعلة في الشاشة، و يكون بلال قد نام في غرفة العرض الشديدة الحرارة. وكنا نبدأ بالصراخ و كان “الحاج” مالك السينما، وكان شخصا نحيفا يعتمر طربوشا وطنيا (مستطيلا) وجلبابا أزرق ، ما إن يسمع الصراخ من منزله المحادي لقاعة السينما ، حتى يأتي بسرعة لئلا نخرب أثاث القاعة و كراسيها، و عندما يراه الجمهور يبدأ الهمس: الحاج …الحاج…الحاج ثم يصعد إلى المنصة و يبدأ في الحكي من لقطة توقف الفيلم قائلا:

” ثم جاء يا أولادي الولد «=البطل» ووجد “الشفارة” «= اللصوص» قد اعتقلوا البنت «=البطلة» فأخذ المسدس ثم ضرب كخ كخ كخ، و أنقذ البطلة و أركبها خلفه في الجواد، ثم يقلد الموسيقى التصويرية” و نبدأ في التصفيق و نخرج غانمين سالمين: إلا أننا علمنا في بعد أن هناك قاعات أخرى أفضل، فبدأنا نذهب إليها خاصة سينما مبروكة، وهي السينما الوحيدة تقريبا التي كانت تستخدم أيضا في الأنشطة السياسية و المحاضرات و مؤتمرات الأحزاب.

و كانت تعرض كل أنواع الأفلام، تعرض دائما مع كل فيلم غربي أو عربي شريطا هنديا، و كنا نلقب ذلك بالسمن و العسل. وكنا نلتقي “محمود” ابن حي القصور و الذي اشتهر باسم “مامي” وكان مجنونا بالسينما الهندية، وبنجمة سينمائية اسمها “هيما ماليني” هي عضو برلماني حاليا في الهند، وكان عندما يأتي أي فيلم بطلته “هيما” فإن مامي يلج السينما 14 مرة في الأسبوع ليلا و نهارا، فقاعات السينما تغير الأفلام عادة يوم الأربعاء، وكان الأسبوع كله عيدا لمامي إذا كان احد الأفلام من بطولة ماليني.

كنا في منتصف السبعينات عندما عرضت سينما مبروكة فيلم شولاي «=شعلة» للمخرج «سيبي» وقد أخرجه بكل الحيوية التي يمكن أن يتوفر عليها فيلم ما. وهو يروي قصة ضابط شرطة متقاعد و معاق اغتيلت عائلته من طرف عصابة، و بحث عن مجرمين استأجرهما «=أميتاب باتشان ودهار ميندرا» للانتقام من الشرير الذي اغتال عائلته و بتر يديه. و يعتبر شعلة من أفضل الأفلام في تاريخ السينما الهندية. وكان ضمن أبطاله هيما ماليني و كان الشرير يدعى “جبار” «=أمجد خان»، وكان رئيسا لعصابة قطاع طرق. وقد اعتقل الشرير البطل الذي تحبه هيما و قيده بالسلاسل في أحد مقاطع الفيلم، و قد لاحظ الشرير العلاقة بينهما فأمرها أن ترقص، و بدأ رجال العصابة يكسرون زجاجات الخمر الفارغة، و يرمون الشظايا لترقص عليها هيما، فأدمى ذلك قدميها فنهض مامي صارخا في البطل «أيها المتخاذل…. أيها الرعديد. كيف تسمح لهؤلاء الأشرار بأن يفعلوا بهيما كل ذلك?!». لم نكن نضحك من مامي فقد ألفنا منه ذلك.

و في مطلع الثمانينات عرضت قاعة مبروكة فيلم السلطانة راضية للمخرج كمال أمروهي، كان الفيلم يروي حكاية أول سلطانة في تاريخ الإسلام و قد حكمت إمبراطورية الهند الإسلامية ما بين 1236-1240. وفي نهاية الفيلم تتعرض للاغتيال و يحملها البطل ( وهو البطل نفسه في شولاي و زوجها الحقيقي «=دهار مندرا») و هي شبه ميتة. فبدأ مامي في البكاء فأخرجه أحد “الخبثاء” إلى باب القاعة و بدأنا نسلم عليه و نعزيه فيها بالقول: رحمها الله و عزاؤنا واحد، اللهم ارحمها….فراق الأحباب صعب حتى اكتملت القاعة بالتعزية.

كنا عندما لا نجد مبلغا كافيا للذهاب للسينما نذهب إلى سينما الفتح بباب دكالة ، إذ كانت في أغلب الأحيان تسمح بدخول اثنين بتذكرة واحدة.

أما سينما الريجون وعدن فقد كان مالكهما واحدا، وكان يعرض نفس الشريطين في القاعتين و يحتال على ذلك. فسينما الريجون تقع في الحي الأوروبي جليز، بينما القنارية أو عدن تقع في المدينة القديمة لذلك فكل سينما تعرض في البداية فيلما مختلفا من الفيلمين. وهناك شخص اسمه «فريكيس» على دراجة نارية مهترئة يأخذ كل فيلم من قاعة إلى أخرى، وكان أحيانا يتعطل في الطريق لعطب في الدراجة أو لحادث، ويظل الجمهور في القاعتين ينتظر.

وكنا نذهب بعد أن استوعبنا اللعبة في الحي الأوروبي الذي أصبح حيا مغربيا بامتياز إلى قاعة الريجون، وأذكر أنها كانت تعرض فيلم «الجيد و القبيح و الشرس» وهو من إخراج «سيرجيو ليوني»، الذي أخرج أروع أفلام الغرب الأمريكي. وقد أعاد هذا المخرج الإيطالي صياغة أفلام الغرب الأمريكي بروعة لا تضاهى. وقد عرض هذا الفيلم لسنوات في كل القاعات بمراكش. وكنا لا نمل من مشاهدته مع فيلم “حدث مرة في الغرب” و “مهرجان الدولارات” و “من أجل حفنة من الدولارات” لنفس المخرج الكبير. وكنا نقف في الطابور لأخذ التذكرة، وكان الشخص الذي يأخذ التذكرة و يراقب و يشطرها نصفين و يسمح لنا بالولوج إلى قاعة العرض في الريجون طويل القامة، وكان يتعبنا ونحن نتطلع إليه عندما يخطب فينا و يوبخنا، و نحن في الطابور: تركتم بيوت الله فارغة و جئتم إلى متعة السينما اذهبوا إلى المساجد; وكنا نحس بأزمة ضمير. وكانت موعظة هذا الرجل تطول عندما لا يكون مالك السينما حاضرا كما يبدو.

و في مطلع التسعينيات، كانت سينما “الريجون” على أبواب الإغلاق و الهدم، مررت على القاعة الفارغة من الجمهور و وجدت الجرس المعلن لبداية الفيلم يرن ويرن، كان صاحبنا “الواعظ” جالسا في انتظار أن يقطع التذكرة إلى نصفين، و كان ينظر حواليه و أمامه في رعب كأنه لم “يصدق” أن “موعظته” القديمة قد تحققت. و كنت أنظر إليه و أبتسم وفجأة ركز عينيه علي فقلت له بصوت قوي ليسمعني: لقد ذهبوا إلى المساجد.

و الآن كلما مررت أمام القاعات المهدمة و المغلقة، و التي تحولت إلى عمارات و بنايات، أحـسست بالأسى الشديد، فمتى نحب الحياة لنذهب إلى السينما!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *