وجهة نظر

وعود حكومية جديدة” و تجليات أزمة مستمرة”

في مقالي الصادر بتاريخ 28 دجنبـر 2018، تحـت عنـوان “للحكومة إنجازاتها، ولنا واقع الأزمة والبؤس الاجتماعي”، كنت قد أخبرتكم أن آخر مجلس حكومي في السنة المنصرمة، قد انعقد يوم الخميس 27 دجنبـر بالرباط. وكان حديث السيد رئيس الحكومة خلاله متمحورا حول الحصيلة. وبعد تناول كل نقطة جاءت في الكلمة الافتتاحية، وقفنا جميعا على أن تلك “الحصيلة” كانت، حتى لحظة الاجتماع، خارجة عن أي وقع مباشر وملموس في حياة الناس، لكونها “إصلاحات” لا تعدو أن تكون “نصوصا”، بعضها غادر البرلمان ودخل محطة الأمانة العامة للحكومة، والبعض الآخر سيدخل البرلمان ليخرج بعد ذلك، متى قدر الله له أن يخرج. المهم ألا شيء يعني المعيش اليومي للمواطنين أو يؤثر فيهم لحد الساعة.

واليوم، يسرني أن أخبركم أن الحكومة عادت لعقد مجلسها الأسبوعي الموقـر، يوم الخميس 3 يناير 2019. حتى لا يعتقد أحد أنني عندما تحدثت عن “آخر اجتماع” كنت، لا سمح الله، قد قصدت في كلامي أن الحكومة، ربما إدراكا من أعضائها أنهم لن يستطيعوا، خلال الأشهر التي تفصلنا عن الانتخابات البرلمانية المقبلة، فعل شيء يذكر، لعدم انسجام الأغلبية، ولنقص في كفاءة البعض، ولحسابات ضيقة كثيرة تعيق الفعل المندمج والناجع، قد قررت، بحكمة و بحس المسؤولية، تقديم “استقالتها” ليعود أعضاءها إلى كرسي الاحتياط، ويتدربوا جيدا، استعدادا لخدمة البلاد، ربما في مرحلة أخرى، تكون فيها القناعة قد أصبحت لديهم راسخة، بأن الكفاءة والاستحقاق، قيم تعلو على كل الحسابات السياسوية الضيقة.

واعتبار أنني تابعت حديث “الحصيلة”، نهاية السنة، كنت بالأمس حريصا على الإنصات للكلمة الافتتاحية للسيد رئيس الحكومة، لعلني أجد فيها ما نجدد من خلاله اليقين بأمل أكيد، في مستقبل قريب. فماذا قال سيادته؟

خلاصة قوله التأكيد على أن “سنة 2019 ستكون سنة بدء تنفيذ الإصلاحات الكبرى وإخراج مجموعة من القوانين”.

ألا يا قوم أبشروا… واستبشروا…. فالأرض ستتحرك بجـد هذه المرة، بعد أن مرت سنة 2017 و 2018، وهي تقريبا نصف الولاية الحكومية، متضمنة “للحصيلة” التي حدثتكم عنها، والتي أنتم مدركون جيدا أنها لم تكن سوى أماني و وعودا و تعزيزا للمكاسب وتكريسا للعشيرة في المناصب.

المهم، خلال أول مجلس حكومي لسنة 2019، حرص السيد الرئيس، بحكمة الواعظ وبصيرة الطبيب النفساني، على تقديم جملة من النصائح إلى أعضاء حكومته، داعيا إياهم إلى “مضاعفة الجهود والرفع من وتيرتها”. مذكرا أن : “في كل قطاع و كل مجال هناك إصلاحات، ونتمنى مع بداية السنة الجديدة، أن نضاعف عملنا ونزيد من جودته، ونرفع من وتيرته، ونسير في اتجاه تطبيق أهداف البرنامج الحكومي والإجراءات التي يتضمنها بطريقة ناجعة”. وأكد الرئيس أن “الهدف المبتغى في 2019، هو النجاح في الوصول إلى الأهداف، ولانتظارات الملك من الحكومة، من أجل ولوج البلاد دائرة الدول الصاعدة، وهذا أمر يحتاج إلى عمل مكثف ومتواصل”.

وبعد أن نوّه بكل القطاعات الحكومية، اعتبر الرئيس أن “نجاح كل وزير في قطاعه هو نجاح لكافة الحكومة، وعلى كل عضو في الحكومة أن يشعر بأن نجاح عضو آخر هو نجاح له”، مشيرا إلى أن “ما أنجز خلال السنة الماضية يبقى مهما، لأنها كانت سنة الإصلاحات الكبرى”.

ثم تحدث الرئيس عن أن الحكومة أخرجت “عددا من المشاريع، بعضها مازال في البرلمان، وبعضها نشر في الجريدة الرسمية، من قبيل “ميثاق اللاتمركز الإداري” الذي صدر في الأسبوع الأخير من شهر دجنبر، و “ستبدأ لجنة القيادة فورا عملها بوضع خارطة الطريق للتنزيل على أرض الواقع والشروع في ذلك”.

ولبيان طبيعة هذه “المشاريع والإصلاحات الكبرى لسنة 2019″، أوضح المتحدث أنها تتعلق أساسا ب “مشروع القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، ومشروع قانون المراكز الجهوية للاستثمار، المعروضين حاليا على البرلمان، والخطة الوطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان التي صادق عليها مجلس الحكومة، ويضع حاليا وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان اللمسات الأخيرة لتنزيلها، إلى جانب مشروع تطوير منظومة الحماية الاجتماعية التي تشتغل الحكومة حاليا على وضع تصور متكامل بخصوصها”.

في رأيكم، أي رد فعل وأي تفاعل يستوجبه كل هذا الكلام “المبشر” بالخير الآتي ؟

أنا في حيرة من أمري. أحاول ترتيب أسئلة عديدة، و ليست لدي أجوبة في مستوى يحترم ذكائكم.

المهم، سأتقاسمها معكم، كما هي، لعلني أجد لديكم أنتم أجوبة أو بدايات أجوبة.

أول الأسئلة بشأن الإيقاع الذي تدير به هذه الحكومة الشأن العام. فكما تعلمون، عمر الولاية التشريعية خمس سنين. مـر منها النصف، وبقي أقل من النصف. والآن فقط ينزل وعد الحكومة بأن تكون “سنة 2019 سنة بدء تنفيذ الإصلاحات الكبرى وإخراج مجموعة من القوانين”. طيب بالله عليكم أخبرونا أولا في أي شيء أضعتم نصف الولاية الحكومية؟

آه… وجدت الجواب. كانت الحكومة تُعد مشاريع القوانين التي ستضبط “الإصلاحات”، وتفصل في أجزاءها وبنوذها. ولا يهم أن ذلك قد أخذ وقتا طويلا، وتم بتكلفة سنتين أو أكثر. لا حرج في ذلك، لأن في فهم البعض، ليس لدينا أرخص من الوقت فيما يبدو. وأظنهم يعتقدون أنه متوفر حتى فاض علينا وغرقنا تحت مياهه الراكدة. وهذا خطأ كبير في حق الوطن الذي يواجه جملة تحديات كانت تستوجب أن تتحرك آليات تدبير الشأن العام بسرعة كبيرة واحترافية عالية، لأننا في منافسة شرسة مع المحيط. ولو لم نكن بالضرورة راغبين في تلك المنافسة، إلا أننا لا نملك خيارات أخرى غير الصمود والمواجهة دفاعا عن الوطن وثوابته ومصالحه العليا. هي هكذا ديناميكية الجيوستراتيجية و”تجاذب الأقطاب”، تفرض نفسها على كل الكيانات الوطنية، ولا عزاء لمن لم يستوعب ما يجري.

وخلاصة الأمر، بطبيعة الحال، أن هذه الوعود التي يقدمها السيد رئيس الحكومة، هذه المرة أيضا، ليس فيه شيء يدل على أنها ستتحقق. ورغم أنني أكره سوء النية و الحكم على السرائر، لإيماني أن الله يتولاها، ولكنني مضطر أن أشك. وكيف لا، وقد رأينا جميعا سنتين مرت ولم تنفذ الحكومة كل برنامجها “الجميل” الذي قدمته أمام نواب الأمة للحصول على ثقة المشرعين؟

وكيف لا نشك ونحن نرى أسلوب تدبير، أقل ما يقال عنه، أنه يتسم بالبطء الشديد والتوجس والارتباك، حتى لا أقول الخوف من أخذ أي مبادرة خارجة على المألوف، يمكن أن تتحرك على إثرها أمور شباب هذه البلاد وتستقيم أحوال العباد؟

سؤال ثان. ما دام المنتظر هو فقط إخراج “سلسلة جديدة من النصوص القانونية والمشاريع” التي ذكرها السيد رئيس الحكومة، كما بينت أعلاه، فكم سيلزمنا من الوقت، نحن المواطنون، لنرى أثرها على الأرض وفي حياة الناس؟

سنة أخرى إذن قد تمر ونحن مطالبون أن “نفرح” بذلك “الجهد الكبير” الذي تبذله الأغلبية الحكومية لإعداد نصوص قوانين وإيصالها للبرلمان. المهم أن الحكومة تشتغل والبرلمان يتفاعل ويشتغل، وللناس البسطاء والمعوزين، وللطبقات المتوسطة، وللأساتذة المتعاقدين، ولمهنيي الصحة، ومهنيي النقل، وللمستثمرين، وغيرهم من فئات هذا المجتمع أن يصبروا لأن “الناس دايرة اللي عليها…!!!”.

و إذا لم تجد كل تلك الفئات قدرة على للصبر، فيمكنهم الاحتجاج. وليتحملوا، بين الفينة والأخرى، بعض تدخلات “تعينهم على مغادرة الفضاء العمومي”، خصوصا من أمام البرلمان، لكي “تعود السكينة” وتنخفض الأصوات ويتمكن نواب الأغلبية من شحد الهمم والتركيز على “نصوص المشاريع” القادمة من رئاسة الحكومة، و دراستها بمهل، والاستعداد للتصويت عليها، حتى يتمكن السيد الرئيس، خلال آخر اجتماع لمجلس حكومته، نهاية دجنبر 2019، من أن “يثمن الحصيلة والمجهودات الكبيرة التي بدلها الفاعل الحكومي وأغلبيته” خلال السنة.

حينها سندخل سنة 2020، وستلوح في الأفق رائحة الانتخابات، الجماعية والتشريعية، و من المنتظر أن تتغير “النغمة والخطاب”، و يعود “التقلاز والتشكيك والتسفيه”، و يتم البحث عن “شماعات” تعلق عليها الأغلبية فشلها في إخراج شيء آخر غير قوانين، جميلة ربما، ولكنها خارج سياق الزمن السياسي وراهنية التفاعل الذي يستوجبه.

المهم مرة أخرى، يبقى أن للحكومة إنجازاتها ولنا واقع الأزمة والبؤس الاجتماعي.

واسمحوا لي قبل أن أترككم تحاولون إيجاد أجوبة عن التساؤلات التي طرحت، أخبركم بخبرين التقطتهما، يوم أمس الخميس 3 يناير، لعلهما يسهلان فهم دلالات الأسئلة و حتى تركزوا جيدا في الجواب.

أول خبر أوردته وسائل الإعلام بشأن دعوة وزارة الداخلية النقابات والشركاء الاجتماعيين، للاجتماع يوم 9 يناير لمتابعة الحوار الاجتماعي الذي فشل مع رئيس الحكومة و مع وزيره في التشغيل، وبعض وزراء آخرين.

وليس من باب المجاملة، القول أن وزارة الداخلية تبقى من أكثر القطاعات قربا من نبض الشارع ومن حديث المجالس والمجامع، و هي بالتالي تعي أن توقف الحوار واستئناف الإضرابات، وآخرها إضراب الأساتذة وإضراب تجار سوق القريعة هذا الأسبوع، وغيرها كثير في الأفق، كلها مؤشرات مقلقة، لمن كان في قلبه غيرة وطنية وحرص على استمرار السلم الاجتماعي والطمأنينة، و إدراك لما لذلك كله من أثر على دينامية التنمية التي ننشدها ونستحقها، والتي يدعو عاهل البلاد جلالة الملك، في كل خطبه، الحكومة إلى تيسيرها والتسريع بوضع شروط تحقيقها وتمكين الوطن من النهضة التي ينشدها.

وبقدر ما أتمنى لهذا الاجتماع مع النقابات كامل النجاح، بقدر ما أنا مستغرب من إصرار البعض على تعسير الحوار الاجتماعي وإيصاله إلى الباب المسدود، حيث كانت عدد من التنظيمات النقابية قد أعلنت عن خوض أشكال احتجاجية تصعيدية ابتداء من هذا الشهر، رافضة العرضَ الحكومي القاضي بزيادة 400 درهم، موزعة على ثلاث سنوات، واصفة إياه بـ”الهزيل و”غير الواقعي”، وبأنه يستثني مجموعة من السلالم في الوظيفة العمومية، إضافة إلى عدم شموله أجراء القطاع الخاص. أما الاقتطاع من الأجور نهاية هذا الشهر، فهو حسب الحكومة لتتميم برنامجها المسمى “إصلاح التقاعد”. والمضحك أنه خرج بعض “الوجهاء” من الحزب الأغلبي، يحملون مسؤولية الاقتطاع للنقابات لأنها رفضت “العرض الحكومي” في ما يسمى “الحوار الاجتماعي”.

مصيبة حقا أن يتواجد بيننا عقل يفكر بهذا المنطق الذي يبحث دائما عمن يتحمل مسؤولية الفشل نيابة عنه. والمصيبة الأكبر أن يستمر بعض الناس يثقون في ذلك الخطاب، و ينتظرون من أصحابه “تنمية” البلاد والنهوض بأوضاع الناس.

وأنا أسوق لكم هذا الخبر، أتمنى بصدق ألا نسمع مجددا “خطابات” تستهجن، نفاقا وكذبا، “تدخل” وزارة الداخلية في ملفات تتجاوز “وظيفتها الأساسية”. وحتى إذا حصل وقيل هذا الكلام، وأنا متأكد أنه سيقال، ليس لي إلا أن أقول لبعض مكونات الفاعل الحكومي والله لو أنكم “تديروا شغلكم، وتغيروا أساليبكم في العمل، وتنفتحوا على كل فئات الشعب وعلى كل الحساسيات، و تيسروا ولا تعسروا، و تكفوا تضييقكم على أرزاق المواطنين”، والله لن تتدخل الوزارة في الأمر لأنها ستعتبر أنكم قد قمتم بمهامكم، وانتهى الكلام.

ثاني الأخبار، أن المصالح المعنية بتدبير الأمن العمومي قد توفقت بشكل كبير في إنجاح ترتيبات ضبط الأمور ليلة رأس السنة، بإحترافية عالية المستوى صفق لها المواطنون، وانخرط فيها الناس بتلقائية الحرص الوطني الخالص والذي لا يمكن أن يسمح لأحد بالنيل من مكتسبات هذا الوطن، ولا بأمنه وطمأنينة مواطنيه. و قد مر كل شيء على ما يرام، وحققت الوحدات الفندقية كل انتظاراتها تقريبا، في جو طيب. وليس لنا إلا أن ننوه بهذا النجاح والتوفيق، خصوصا بعد تخوف الجميع من أثر محتمل للحادث الإرهابي الغاشم على صورة المغرب كوجهة سياحية آمنة. فتحية للجميع.

و لي اليقين أن دلالات هذه الأخبار واضحة وجلية. فهي تبين إلى أي حد نمتلك في المملكة المغربية كل أسباب التفوق والنجاح، و لنا من الكفاءة اللازمة لذلك ما يكفي. وفي نفس الوقت نحن ضحايا لمنطق تدبير للشأن العام من طرف فاعل حكومي لا يستطيع السير بالسىرعة اللازمة، ولا بإمكانه خلق أجواء الثقة بين مكونات النسيج المجتمعي الوطني. ولذلك يعكس واقعنا تناقضات بين أسباب إحباط حقيقي، يراد له أن يترسخ ويزداد أثره يأسا في نفوس الناس، وبين مقومات الإحساس بالأمل بأن مكان المغرب الطبيعي هو نادي العشرين اقتصاديات الأولى في العالم، إذا ما استثمر النبوغ المغربي وفق مقومات الحكمة والرصانة والحس الاستراتيجي.

لذلك نبهت في مقالات سابقة إلى فكرة أن التأهيل الشامل لتدبير الشأن العام ببلادنا، يحتاج إلى الكفاءة و إلى تسريع الوتيرة، و إلى اعتماد النفس الوطني، بما يبقي جذوة الأمل مشتعلة، وبما يحمي الدولة الوطنية ويعزز ثوابتها.

اغادكم بكل توقير، وأتمنى أن إجاباتكم عن الأسئلة أعلاه، ستعزز لديكم اليقين أنكم لا تستحقون أن يستبلدكم بعد اليوم أي تواصل سياسوي، ولا أي قهقهات مستفزة ومستهزءة بمقام المسؤولية العمومية. والله ولي التوفيق.

* فاعل سياسي ومتخصص في الحكامة الترابية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *