وجهة نظر

الملكية الدستورية هي الحل

تتسارع وتيرة التفاعلات السياسية بالمغرب ، و تتسارع معها وقائع ذوبان أقراص المنظومة الحزبية الفوَّارة. لذا نستفتح وجهة نظرنا – كاختيار حداثي شعبي – بالتأكيد على ضرورة إعتماد مبدأ فصل الذات عن الموضوع عند محاولات إيجاد حلول جد واقعية لأزمة المنظومة الحزبية التي تغرق مُخْتَنِقة بين ظلمات يَمِّ الفشل في الاضطلاع بمهامها الدستورية و العجز عن تحقيق الإنجازات الموعودة.

و إسمحوا لي بداية ، أن أختصر عبارات هذا التقديم المقالي لكي أنطلق من مُحْكَمِ الأَحكام الواردة ضمن الميثاق الأسمى للأمة المغربية. لأن المملكة المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة.

و حيث أننا أمام سَيْلٍ شَفَهِيٍّ عَرَمْرَمٍ ، يهذي خلف أجراس الشعارات الرنانة ” الملكية البرلمانية ” ، و يتحدث بِلِسان تَسْيِيس مفاهيم العلوم الدستورية وفق رذيلةِ تحريفِ المصطلحات عن مواضعها العلمية القانونية .

فلابد – أيضا- من توضيح طبيعة نظام الحكم بالمغرب بالرجوع إلى فيصل الإرادة الشعبية التي صادقت بأغلبية كاسحة على التعاقد الدستوري الجديد ، و من خلال عملية ديمقراطية إنبنت على الاختيار الحر المنبثق من صناديق الإقتراع العام ، و ذلك بشهادة المراقبين من الداخل و الخارج.

و بالتالي ، فإن نظام الحكم بالمغرب هو نظام ملكية دستورية ، ديمقراطية برلمانية واجتماعية. و يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة.

و هنا وجب طرح التساؤلات الآتي بَسْطُهَا : هل نُخْبَوِية اليسار الفوقي اللاَّشعبي لم تستوعب – بعدُ – طبيعة نظام الحكم الدستوري بالمملكة المغربية ؟! ، أم أنها تحاول -فقط- إثارة الجَلَبَة الفارغة من خلال تحريف مفهوم الملكية البرلمانية العريق ، والقيام بالتغطية على فشل فيدرالية اليسار في جَرِّ الارادة الشعبية نحو الوقوع في شِراك مشروعها السياسوي القاصر ، المنفوخ بشعارات تضليلية تحاول ضمان استمرارية مغشوشة دون شرعية إنتخابية غالبةٍ ، بل .. عبر سياسة ” أكذب و أكذبي حتى يُصَدِّقَ الناس كذبَتَنا ” ؟!.

و كيف لِمَنْ لم يستطع قبول حقيقة عدم حصوله على ثقة الإرادة الشعبية أن يُصَدِّقَنَا حين نَضعُه ضمن خانة اليسار الفوقي اللاشعبي.؟!
هكذا – أيضا – ، نكتشف خطر الصراع الدوغمائي بين الجماعات الكهنوتية و التكتلات الحداثوية ، لأن أطروحاتهم السياسوية تَنسِف ثوابت الإرادة الشعبية التي تستند عليها الأمة في حياتها العامة ، و هي ثوابت جامعة حسم فيها الإستفتاء الدستوري بتاريخ 1 / 7 / 2011 .

و تتجسد هذه الثوابت – تبعا لِمُحْكَمِ فصول الدستور – في الدين الإسلامي السمح ، والوحدة الوطنية متعددة الروافد ، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي. بالإضافة إلى التنظيم الترابي للمملكة من حيث أنه تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة.

و لأن الحديث قد كَثُرَ عن مطلب ” الملكية البرلمانية ” ، و الذي نلحظ أنه أصبح يجمعُ ” تقدمية ” نبيلة منيب ب” رجعية ” عبد العالي حامي الدين رغم أن بَيْنَهُما برزخ لا يبغيان !

فقد يكون من فرائض القول أن النخب الحزبية الحاملة لهذا المطلب تتوزع بين قيادات حزبية تصنف نفسها ضمن خانة اليسار المُتنافِر ( اتحاد لشكر و فيدرالية منيب اللذين يعارضان نفسيهما تحت قبة البرلمان ) ، و بين قيادات البيجيدي التي كانت محسوبة على تيار عبد الإله بنكيران قبل أن يصدِمَها بِمَقُولَتِه الأخيرة ( ملك يسود و يحكم ) إثرَ حصوله على راتب المعاش الجديد.

كل هذا ، دون ذكر تلك التنظيمات المعارضة المُتطرفة التي لا تملك مشروعاً بديلاً سياسياً و اقتصادياً ، بل تنتظر فقط أضغاث قومة/ثورة شعبية تُغْنِيها عن كل مجهود مدني فكري ثقافي عقلاني ديمقراطي مُجدد . هذه التنظيمات التي تنام و ترقد ، و تحلم باستثمار الأخطاء المجانية ِلبلوغ أهدافها العبثية ، مع تأجيج شروط الفوضى الهدامة التي تتنظرها بمنتهى الجمود و التقليدانية.

و دون حياء سياسي ، نجد أن دين و دينونة مكونات المنظومة الحزبية هو صراع عقيم يدور داخل محور الأغلبية حول صفقات الدخول و الخروج من الحكومة و التحالفات داخل المؤسسات المنتخبة ، و اقتسام كعكة التعيينات في المناصب العليا للدولة.

في حين أن أحزاب المعارضة البرلمانية تَوَقَّفَت عقارب ساعَتِهَا عن الدوران الفكري العقلاني ، و إقتصر دورُها على تقديم الأراء الاستشارية الترقيعية . أو الإختباء وراء شعارات ظاهرُها المطالبة بالديمقراطية ، و باطنها إخفاء معالم كذبتها الكبرى المتجسدة في الإدعاء بأنها حاملة لمطالب شعبية رغم أن الكتلة الغالبة من الأجيال الصاعدة لم تُظْهِر لَهَا – قَطُّ – مساندةً انتخابيةً أو سياسيةً واسعة.

و لعل مختصر التحليل يفيد – الجميع – بأن المرحلة الراهنة تستلزم تقديم جواب ثقافي/سياسي جديد قادر على إستعادة صفات الواقعية و المصداقية . فالتطلع إلى ولوج عالم الدول الصاعدة ديمقراطيا يستوجب استيعاب أحداث اللحظة ، و مسايرة حَرَكِيَّتِها بالدفع باستراتيجية نضالية شبابية و جمعوية من أجل إحقاق الحكامة المؤسساتية التشاركية ، التي تنطلق من عمق المجتمع قصد تنوير الحاضنة الشعبية للاختيار الديمقراطي الدستوري . عوض التيهان في ثنايا أجوبة الماضي أو الإختباء وراء رفع شعارات الاستهلاك الإعلامي دون قدرة على توفير الحاضنة الشعبية لها .

كما أن متطلبات الحاضر و المستقبل تفرض على الأحزاب الجادة طرح أفكار جديدة ، و تقديم برامج متكاملة و مخططات تنموية قابلة للتطبيق . تَهُمُّ في المقام الأول : مسألة الولوج الكامل لمكتسبات الدستور الجديد فيما يتعلق بالحقوق الثقافية، السياسية ، الاجتماعية والاقتصادية للمواطنات و المواطنين، و إحقاق مطلب المساواة و المناصفة ، وتوفير مقومات الحرية من أجل الإبداع الذي يخلق الثروة قبل التفكير في توزيعها العادل، وتقليص الفجوة بين فئات المجتمع، وإصلاح القطاع العام وإعادة تفعيل أدواره في التنمية الاجتماعية و الاقتصادية، وتوفير فرص العمل للشباب، ومحاربة الفساد المالي والإداري، وإنجاز الإنماء المتوازن للمناطق والجهات، و رفع التهميش والعزلة عن العالم القروي، وإعادة الاعتبار للقطاعات المنتجة.

لذا يستمر الأمل في الشباب و جمعيات المجتمع المدني و الأحزاب الجادة لمواكبة الزمن الدستوري المتقدم ، عبر العمل الوطني الصادق قصد إستكمال تنزيل و تفعيل المكتسبات الدستورية العالقة ، و ضمان حق الولوج لها و إليها . و ذلك وفق إستراتيجية مندمجة ترتكز بالأساس على ضرورة العمل والتعبئة والانخراط الشبابي و الجمعوي الفعال في ترسيخ المكتسبات المتقدمة للإختيار الدستوري الديمقراطي التشاركي الساعي نحو استكمال بناء مغرب الوحدة و الإستقرار و المواطنة ، مغرب الحداثة و التطور و الطفرة الاجتماعية و الاقتصادية . مع مواصلة تدعيم وتحصين مكتسبات دستور التجربة الديمقراطية التشاركية المُواطِنَة وتنقيحها من الشوائب ، و تتبيث تماسك بنيتها الاجتماعية الشبابية من خلال تشبع ثقافتها وسلوكها بالقيم الكونية السامية.

كل هذا يستلزم توظيف التراكم الثقافي العقلاني المغربي لتحقيق الوثبة الحداثية بما يتماشى مع طبيعة زمن الثورة الصناعية الرابعة القريبة و الذكاء الإصطناعي المعاصر . بشكل يساعدنا على الحفر في أعماق مشترك ” الأصالة ” و إستخراج كنوزها المعرفية المطمرة لتحرير الحس النقدي بما يخدم خصوصية المجتمع المغربي ذي الروافد الثقافية المتعددة ( العربية ، الأمازيغية ، العبرية ، الأندلسية ، الإفريقية ، الحسانية و المتوسطية ) ، و بما يؤدي إلى صيانة و تحديث تنوعاتها المجالية المحلية.

و كذلك بما تتطلبه المرحلة من ضرورة التحليق العقلاني فوق سماء ” المعاصرة ” بهدف تنمية الشخصية المغربية القائمة بذاتها ، و بما تستلزمه الديمقراطية التشاركية المُواطنِة من أرضيات حداثية شعبية لثقافات محلية ترفض أشكال العنف و التطرف و الإرهاب و العدمية، و أساليب الوصاية و الحجر المنغلق ، و تناضل من أجل المساواة و العدالة باعتماد نهج العمل المحلي الجاد ذي النفس الديمقراطي التشاركي المُنْتِج و المُنفتح على الآخر و مستجداته العلمية و المعرفية و التواصلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *