وجهة نظر

“قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم”

يسكنون في منطقة خضراء آمنة وارفة الظلال.. لا يسمع فيها صوت القنابل والانفجارات ( الشعبية) ولا يصلها ضجيج التمرد والشكوى والحرمان ….يقطنون في مجال يحيط به غلاف جوي وأرضي لا يتأثر بالهواء المزعج الذي يغزو أسوار القلعة…يقيمون في مربع مسيِّج بالإهمال واللامبالاة ..ساكنون ربما نائمون لاتسمع له صوتا ولا ركزا،لايخرجون إلا في مناسبات موسمية حين يضطرون إلى التجول في الحقول المنبسطة والممتدة بين السهول وعلى ضفاف الأنهار ..إذا مرو بقرية تركوها عجفاء خالية على عروشها من الموارد والكلأ والمياه …ووعدو سكان القرى والمدن بموسم مزهر ومثمر …يتكلمون بأسلوب لبق لايخلو من مبالغة وبريستيج مفضوح، لايجد أمامه أهل القرية إلا التسليم لأنه “ليس بعد قول الفْقيه كلام” …هو”فْقيه” من نوع أخر، درس في المدارس العصرية…وتلقى لغة “المتعلمين بتوع المدارس”…ولبس “عباءة السياسة” التي نقضت وضوء الكثير من احترف هذه المهنة .

هاهو “مول الشكارة” يتكلف بالبوادي. يتجول بـ”شكارته” على الأهالي كي يخطب ودهم…أما “المثقف” يتكلف بالمعاندين من أهل المدن….حتى إذا مرت ‘‘سيمانة الباكور’’ و‘‘القصاير’’ و‘‘الولائم’’ السياسية التي تجعل سكان الدوار سعداء و”ناشطين” …عادو إلى حالة ” الاستقرار” بعد العصف السياسي الذي أزعج قطيع غنم كان يرعى في الجوار.. ودجاج شارد …وباقي حيوانات القرية التي كانت تنعم بالسكون…حتى طيور القرية غيرت ‘‘خطوط طيرانها’’ خوفا من جشع هذه ‘‘الكائنات السياسية’’ …أما طير اليمام فقد هجر مياه القرية العذبة بعدما تلوثت بسبب مرور حملات مجنونة وانتشار أوراق مزينة بخطوط ولغة لا يفهمها طير اليمام المسالم…يسمونها ‘‘شعارات’’..

…في المدن تتخذ طريقة الاٍقناع أشكالا أكثر تقدما……فيلبس أحدهم لباس ‘‘الزهد والتقوى’’ ولا يشتري ود السكان بالمال أو الزاد …وإنما يشتري الضمائر بعملية أخلاقية فريدة تتناقض مع نجاسة السياسة. …ومنهم من يحمل شعارات زاهية تخطف الألباب لكنها لا تخفى على أولي الألباب….في هذا الموسم يكثر الحب …ويزهر التسامح ويتم توزيع الابتسامات بالمجان ….ويظطر معه بعض ‘‘السياسيين’’ إلى دخول مدن الصفيح…وبعض الأزقة التي تنتهي إلى باب مسدود…وممرات حلزونية تنتهي إلى عالم بئيس… وفقر مدقع يحكي هشاشة مجتمع يعاني في صمت…كل هذا التعب والنصب من أجل توفير صيد ‘‘انتخابي’’ يفتتحون به الموسم الجديد.

فاصل اشهاري: يقول عمي العربي الذي يسكن في احدى الأزقة المجهولة : ‘‘اذا كنت تريد أن تكون سياسيا…يجب عليك أن تكون وقحا…وتتقن الدور…وتصدقه…وتمسك ب ذيل الكلب حتى تعبر النهر …وتغازل وتنافق وتجامل حتى تصل الى ضالتك المنشودة على الطريقة المكيافيللية’’ انتهى كلامه .لا أدري كيف عرف هذا الرجل البسيط ‘‘مكيافيللي’’ ..لا يهم .

انتهى موسم جني الغلال وغاب الهلال،ورجعت القوافل محملة بالأحمال… وتركو الأهالي موثقين في الأغلال …عادوا إلى ‘‘ المنطقة الخضراء’’ سالمين غانمين يحتفلون بالنصر المكين …يعبرون البحر إلى الضفةالأخرى.. حتى إذا وصلو القلعة الحصينة أحرقوا السفن…وتناسوا” الوصايا العشر” التي أقسمو عليها… وكسرو ‘‘الألواح’’،واتخذواعجلا ذهبيا له خوار بديلا عن مبادئهم التي اتخذوها ‘‘قاربا’’ للوصول إلى مآربهم…وأشعلو الحطب نارا كي يحتفلو ويشربو نخبا ضاع فيه ” الناخب” وتحول فيه ” المنتخب” إلى نخبة متعفنة مَثَلها كمثل ” الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها “. لبسو جلود النمور وشربوا حليب السباع،فاستأسدو واستنمرو واستوزروا وزوروا…وحملو سيوف الهند مشهرة في السماء…إذا قالت رياح التغيير هكذا…قالو بسيوفهم هكذا..حتى سالت شعاب ” مكة” أنهارا ووديانا من المذلة والتخادل والسلطوية بعد ان كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها من كل مكان بإذن ربها…

هاهم يسوقون الإبل محملة بالغنائم الى القلعة- التي تشبه قلعة زعيم الحشاشين في القرن السادس تعانق السحاب والتي استعصت لسنوات على السلاجقة-..ويعطون للأهالي عشبة مخدرة تدخلهم الى جنة النعيم حتى اذا استيقظو وجدو انفسهم لا يملكون ” شسع نعل” بالية ..في صحراء اليأس والبطالة والظلم الاجتماعي والحكرة…

هاقد وصلو إلى قبة حمراء ….علامات الزهو تكسو وجوههم …كل منهم كسب مقعدا …منهم من يحمل حقيبة…ومنهم من لا يحمل أية حقيبة…وأناخو جمالهم في واحة وارفة الظلال في خيلاء وضلال…ثم جلسو على كراسي مصطفة باتقان على شكل دائري كأنهم في حلبة رومانية يشهدون صراع الديكة أو تحارب مصارعين من أجل لقمة خبز ” حارة” يحصلون عليها بعد يوم ماراطوني …منهم من ينتزعها من فم”السبع” …بعدها يطرحون الأسئلة التي تبقى دون جواب ..وفور انتهاء مساجلاتهم يستقلون عربات تشبه ” الرحال” يسمونها سيارات فارهة مثل ” خيل مطهمة” في خيلائها ورونقها …ينظرون إلى العالم من نوافذ السيارات المدرعة أو من شرفة بيوتهم البعيدة …فيظهر لهم العالم صغيرا بعيدا ..يرون الناس من بعيد يتراءون لهم مثل نمل يتنقل بين الشوارع والأزقة زرافات ووحدانا…يخاطبون الناس من وراء ميكرفون قديم بخطاب ” جلف” ولغة “خشب”مهترئة لا تخلو من أخطاء….يقولون مالايفهم….ولايفهمون مايقولون ..المهم أنهم قالو وقيل لهم ….وصفقوا وطفقو يوزعون السلام على انجازهم العظيم .

يرون الإنسان البائس من خلال مرايا سياراتهم العاكسة…فيظهر ذلك ‘‘الكائن’’ يسمونه المواطن كأنه يرقص فرحا ونشوة …بل هو مثل ديك يتلوى من الألم فوق رماد مشتعل …يرقص رقصة الموت من الوجع…صراخه يصطدم بـ زجاج السيارة السميك …تنطلق سياراتهم في بهاء تتبعها كلمات من قبيل ” الكرش الشبعانة لاتحس بالكرش الجيعانة”…

في هدأة الليل…يرون المدينة البعيدة من شرفات منازلهم العالية تتلألأ نورا وبهاء . ثم ينامون ملء أعينهم بعدما استذكروا خطاب الغد، وكذبة جديدة يشغلون بها الناس…بينما قلب المدينة ينبض بشدة والأرض ترجف من تحتها رجفا…تستنكر الأكاذيب والأراجيف وتخاريف سكان المنطقة الخضراء…يتنقلون مابين أسِرتهم( جمع سرير) مباشرة إلى سياراتهم التي تعبر بهم إلى أسِرة من نوع خاص داخل حلبة القبة …لا يحبون المشي في أزقة المدينة كي لاتتسخ أحذيتهم الجديدة…كي لايسمعوا صوتا ‘‘نشازا’’ يفسد مزاجهم …ولا يرو مشهدا يلوث شبكية عيونهم التي تكسوها نظارات سوداء سوادا قاتما …وعندما يخرجون يتسللون من الباب الخلفي يحملون ماخف حمله وغلا ثمنه من الحلوى إلى سياراتهم التي تعبر بهم شوارع المدينة …وصولا إلى منازلهم …كي يكملو أكل الحلوى ” على راحتهم” هروبا من أعين الصحافة الفضولية التي تقلق راحتهم .

يمر الشتاء قاسيا على أهل القرية …قد يتبعه موسم الثلوج التي تحاصرهم فيضطرون إلى الاختباء داخل منازل الطين يستدفئون قرب مدفأة وفية تنسيهم قساوة المناخ وقساوة المسؤولين….يصارعون البرد والعزلة، غير أنهم مرتاحون من زيارة هؤلاء الذين يعتبرونهم من سكان “مغرب غير نافع”إلا حين يحين موسم جني الثمار …حينها يحجون إلى هذه المناطق يخطبون ود الأهالي ….على الاقل سوف يرتاحون من ضجيجهم قليلا في هذا الموسم البارد….جزى الله الثلج خيرا كما قال أبو تمام…

في المدينة يعيش السكان في مرحلة “الركود” ..حالة من الكساد ‘‘ السياسي’’ تغيب فيه تلك الأطياف السياسية …لاتظهرإلا في المواسم مثل ” الحريرة” كما يقول “مول الزريعة” -الذي يمثل لسان حال شعب مكلوم- في حي يوجد في أعماق المدينة ..الذي يستأنف كلامه قائلا : ‘‘أحيانا يظهرون…نعم…يظهرون على شكل ” ضرائب” مجحفة تتربص بالجيوب السمينة وحتى المنهكة…وأحيانا يتشكلون على صورة “قوانين “فئوية …وعند اقتراب موسمها المعتاد تظهر على شكل ” ملاك” منقذ …يفرشون الارض ورودا كما ملئت شوكا ….وأحيانا يظهرون على شاكلة ‘‘ نار” تشتعل فيها الأسعار ويصطلي بنارها المواطن البسيط …وحين تكون هناك علامة فارقة لتغيير قادم…يتشكلون على صورة ” شيطان” آدمي يشبه تاجرا نجرانيا يخطب في دار الندوة أمام ملأ من صناديد قريش…كي يكلفو شابا من كل قبيلة يتكلف بقتل “التغيير” القادم بضربة سيف واحدة حتى يتفرق دمه بين القبائل… ولا يُعرف من أعدم ‘‘ التغيير’’..ومن تسبب في هذا الاندحار السياسي..إنهم متحولون ربما جاؤوا من الفضاء.’’.انتهى كلام مول الزريعة.

‘‘ولبثو في كهفههم سنين عددا’’ ….يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال..كي لا تصيبهم شمس الحقيقة فتُفصح عن سرائرهم ودفائنهم …حتى إذا استيقظوا تساءلوا فيما بينهم…كم لبثثم ؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم…ونحتاج إلى مئة سنة أخرى كي نستكمل بناء القرى وتشييد المدن…بل تكديس الثروة…فجودو علينا بالكيْل الوفير وسوف نعدكم بموسم أحسن حالا من الذي قبله…فقد مرت علينا سنوات عجاف… تأكل ماقدمناه لها من زرع وقوت وزاد…وبعدها ‘‘ سوف يأتي عام يغاث فيه الناس وفيه يعصرون’’ …نكون نحن المشرفين عليه…والحاملين مشعله …فاجعلونا على مخازن الأرض…نستكمل مابدأناه إنا لكم لناصحون…لكن…لما دخلو سوق القرية لم يعرفهم أحد…فقد مضى على غيابهم في” الكهف” زمن طويل…طويل ….

مرو في طريقهم إلى المدينة بـ راع غنم… أطل عليهم من على ربوة عالية..فأجاب على خطابهم المضلل قائلا…‘‘تعدوننا بالخيرالوفير و‘‘فتح قريب ’’… وتلعبون دور النبي يوسف…غير أنه كان صائبا في تفسير الرؤيا….وأنتم كاذبين في رؤياكم….وكان صادقا في وعده على هدى من ربه…وكنتم كاذبين في دعواكم…فلا تلبسو لباس النساك …وتتكلمو مثل الحكماء…فقد ملأتم القبة أغلاطا ولغطا ونعيقا… وأزعجتم سكان المدينة حتى احتجو حول القبة ففرقوهم بالعصا تفريقا….وأصحاب الكهف كانو مؤمنين…ولم يكذبو أو يُزيفو…وغابو مضطرين ..ولكنكم غيرتم وبدلتم ونسيتم فنسيكم الناس.وغبتم عن الساحة مختارين ومضيعين.

فبُهت الذين كذبوا…ورجعوا إلى أنفسهم…و بعدها… اتهموه بالزور والبهتان…وقالو إن هذا إلا رجس من عمل الشيطان …فسرقو غنم الراعي وصادروها…قالو ليس لديك ” تراخيص قانونية” للرعي…وغنمك تعدت على الكلأ الذي ليس من حقها…وجريمتك ‘‘جنائية وليس سياسية’’…فتركو الراعي دون غنمه تحت الشمس ويده صفراء يُقلبُها …وراحوا يجمعون ثمار الأشجار ومحصول الحقول كي يبدأو الموسم الجديد وسط أهازيج بعض الأهالي وفرح البعض….لكن المشكل أن أغلب السكان لم يخرجو من بيوتهم ذلك اليوم …لكن ياترى…من هم الذين خرجو لاستقبال هؤلاء؟ …منهم من قال هذا هراء….ومنهم من قال بل هذا ضروري من أجل ضمان ثمن الغذاء….ومنهم من جاء بسبب الفضول …المهم هو أن تنتهي هذه ” العجاجة” وبعدها يرجع الساسة إلى قلعتهم الحصينة في المنطقة الخضراء الآمنة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *