وجهة نظر

من التنبيء بالأسماء إلى نظرية النشوء والارتقاء عند داروين

سيكون من الجيد ، لو ثم البدء هنا في هذا المقال ، ببعض ما جاء في التقديم الذي وضعه الأستاذ ” سمير حنا صادق ” للنسخة المترجمة للعربية ، الصادرة عن المشروع القومي للترجمة ، لمجلد داروين في ” النشوء و الارتقاء ” . و ذلك لأخذ فكرة شبه عامة ، عن حجم الزخم الكبير ، الذي أحدثته هذه النظرية ، و ما نتج عنها من تغير إيجابي على مستوى العيش الإنساني ، منذ صدورها في القرن التاسع عشر إلى حد الآن .

فعند قراءة هذا المجلد الشيق و الممتع ، و عند الأخذ بالاعتبار ما وصل إليه اليوم ، العقل البشري ، و بتقليب الفكر و لو بشكل قليل ، لا محالة سيحصل اتفاق ضمني حول ما قيل عنها في التقديم ، بأن سفينة ” البيجل ” – السفينة العلمية البريطانية ، التي انطلقت في رحلة حول العالم ، امتدت لخمس سنوات ، لغرض البحث العلمي و كان على متنها شارلز داروين -، يدين لها كل مريض تجري له عملية في القلب ، و كل مريض يتعاطى أنسولين بشري لعلاج السكر ، و كل مريض يتعاطى أنترفيرون : بروتين تنتجه خلايا لمفاوية ، لمنع انتشار و تكاثر الفيروسات في الجسد ، و كل مريض تنقل له كلي أو كبد أو قلب أو رئة . ثم يضيف ، و هكذا يكون حب الإنسانية و التفاني في خدمتها .

هذا العبارات المقتطفة من التقديم ، تبرز بوضوح ، المزايا الطبية التي جلبتها هذه النظرية ، كما أنها في نفس الوقت ، إشارة يجب أن تلتقطها كل حضارة ، لكي تجعل البحث العلمي و التشجيع عليه ، في أولويات اهتماماتها . و فضلا عن ذلك ، فإن هناك مزايا أخرى عديدة ، لا نهاية و لا حصر لها . فقد نستطيع من خلال الكم الكبير من المعلومات و الأفكار و المعارف التي تتضمنها ، أن نمسك تاريخ الكون من خصره ، و ننظر إليه بعدسة مجهرية مكبرة ، ليظهر لنا عندئذ ، الوضوح التام ، و تنجلي الغشاوة عن نشأة هذا الكون العجيب الغريب ، الذي كان قبل هذه النظرية و حتى بعدها ، مبني على الخرافات و الأساطير .

شارلز داروين ، مثله مثل العديد من الفلاسفة ، و علماء التاريخ الطبيعي ، يكادوا يتفقون ، على أن جل الكائنات الحية ، خضعت خلال الملايين من السنين، إلى نشوء ثم ارتقاء ، أو ما يسميه البعض ، بالبقاء للأصلح ، أو الانتقاء أو الإنتخاب الطبيعي . فعندهم ، كل الكائنات الحية ، و كذلك النباتات بجميع أنواعها و أصنافها ، إنما هي في بحث دائم و مستمر ، عما يمكن أن يضمن لها القوة في البقاء . و طبعا ، هذا لن يتأتى لها ، إلا باختيار بعض العناصر القوية ، بواسطة التعضية ، حتى تتكيف مع الأجواء ، و مع ما يمكن أن ينافسها و يغالبها على البقاء .

و يعطي هنا ، مثال بالزرافة ، و هو مثال في منتهى البساطة و الوضوح ، في تقريب و فهم معنى مبدأ النشوء و الانتقاء . حيث يقول ، إن الزرافة كونها تتغذى فقط على أوراق الشجر ، و لكون الأشجار غالبا ما تكون مرتفعة و سامقة ، فإن الزرافة ، لكي تضمن لنفسها البقاء ، وتتجنب الانقراض ، وجدت في مبدأ الانتقاء ، الوسيلة المثلى لذلك ، عبر اختيار التزاوج مع الأفضل منها ، المتمتع بقوائم و أعناق طويلة ، تمكنه من الوصول إلى أوراق الشجر المرتفع . فصارت بذلك عبر الزمن ، على الشكل الجميل ، الذي نراه اليوم ، بأعناق و قوائم عالية طويلة .

و إذا كان هذا حال الكائنات الحية ، من نباتات و حيوانات ، فإن داروين أسقط نفس القانون على البشر ، و قال أن البشر كان في الأصل ، قرد . فالشكل الحالي الذي نراه اليوم ، لدى القردة ، خضع للتطور بسبب الحاجة ، ليصير عبر الزمن ، الإنسان الذي نراه اليوم . و قد لاقى ببحثه هذا ، استهجان كبير من قبل العديد من الرجعيين ، الذين لا يؤمنون بالعلم . لكن المشكلة التي لم يوجد لها حل لحد الساعة ، و التي اعتبرت الحلقة المفقودة في النظرية الداروينية ، هو ذلك العقل البشري . فإذا كان جسد و شكل القردة قد تطور عبر الزمن ، و صار من الشكل المعقوف إلى الشكل المستقيم عبر مراحل تطورية معينة ، فكيف تطورت غريزة ( عقل ) القرد ، إلى هذا الحد الإعجازي الذي يوجد لدى البشر ؟ ثم ما الذي منع غرائز (عقول ) باقي الحيوانات الأخرى ، رغم اختلاف تعضيتها عن البشر و القردة ، من التطور العقلي/ الغرائزي ، لتصل إلى ما يتمتع به البشر من مميزات العقل و التفكير ؟

غير أنه باستخدام التفكر قليلا ، نجد أن في الدين الإسلامي كما في باقي الأديان الإبراهيمية الأخرى ، هناك اتفاق تام ، على أن الله سبحانه و تعالى ، حينما أراد أن يخلق البشر ، أجابته الملائكة ، بأن هذا البشر ، سوف يتسبب في سفك الدماء و الفساد .. لكن الله تعالى أجابهم بعكس ذلك ، و خاطبهم بأنه سبحانه و تعالى ، يعلم ما لا تعلمه الملائكة و لا غيرها من المخلوقات . و قد اتضح هذا ، عند الاختبار الذي نجح فيه الكائن المجادل عليه ( البشر ) . عندئذ ، علمت الملائكة بالعلم المطلق لله سبحانه و تعالى ، فقالت سبحانك لا علم لنا ، إلا ما علمتنا .

هذا الاختبار الذي خضع له البشر ، لم يكن منصب على القوة الجسدية أو غيرها من القوة التي يمكن أن تتمتع بها كائنات أخرى ، فمن الواضح كما هو ظاهر من المحاورة و المجادلة التي تمت على إثره ، و كما هو متفق عليه لدى جميع المفسرين ، أن قوة البشر تكمن في عقله و فكره ، و ليس في أي شيء آخر، سواه.

و ما يعطي لهذا الاتجاه تصديقا أكبر ، هو ما يمكن ملاحظته اليوم ، لما وصل إليه العقل البشري . فبعد أن كان من قبل ، منذ ملايين من السنين خلت ، يتلمس عبر العديد من الاختبارات ، سبل التوصل إلى ما يمكن أن يعتبر نجاته من آفات الطبيعة ، ها هو اليوم ، قد استحكم بقوته على جميع عناصرها ، و صار يعرف متى ستقع الزلازل ، و متى ستتساقط الأمطار ، و صار على دراية تامة بالأمراض ، بل صار يعرف حتى منشأ الكون . و في الحقيقة ، لم يكن هذا ، إلا استرسالا في الاختبار الأول ، لكنه في كل مرة كان ينجح في الاختبار . و لم يكن هذا برمته و مجمله ، سوى تطورا للعقل البشري .

العالم الفيزيائي ” ستيفن هوكينغ ” ، يقول في كتابه ” تاريخ موجز للزمن ” ، إنه من المستحيل تفهم علم الفيزياء الآن ، دون أخذ تطور المخ البشري و خواصه الأساسية و مقدراته التي تكونت خلال ملايين السنين من الانتخاب الطبيعي بالاعتبار ” . كما أن هناك من يقول ، على أن العقل البشري سوف يبقى في تطور دائم ، إلى الحد الذي سوف يكون معه بالإمكان ، الحصول على بشر طائر( سبايدرمان ) . و هو لا يعني بهذا ، نمو أجنحة لدى البشر ، و إنما يقصد التطور الفكري إلى أقصى حدوده ، على الرغم من عدم وجود حدود للفكر . و لعل هذا ، كل المؤشرات الموجودة الآن ، تدل على جوانب حقيقية فيه ، كما أنه سوف لن يكون إلا تحقيقا للنبوءة التي كان بمقتضاها البشر .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *