وجهة نظر

جماليات الحكي عن المزامير

كلام لابد منه:

نعيش اليوم، عصر عولمة مادية بامتياز، هي عولمة تسعى إلى “تبضيع” كل مظاهر الحياة، وجعلها قابلة للبيع والبحث عن الربح. صحيح، فهي عولمة حملت للإنسانية بعض المنافع التواصلية والمادية والعلمية، الخ، لكن هذا على حساب كونها تسعى إلى “تعليب” ما تبقى لدينا من قيم إنسانية، مما يجعلنا نبحث دوما عما يمكن أن ينتشلنا من سيطرتها وهيمنتها، وإرجاعنا إلى جزء من المشترك الروحي والمخلخل لنا، في أفق أن نستمتع بالأجمل والأفضل.

ضمن هذا التوجه الجميل، ندرج، على سبيل التمثيل لا الحصر، النبش في ذاكرة القراء، وأي قراء أفضل من قراء كتاب، أنزل لإخراج هذه البشرية المتناحرة على مر الزمان، من جهلها نحو بر الأمان، إنه كتاب الله، جل جلاله. كيف تم، إذن، هذا النبش في ذاكرة هذه الفئة الروحية التي اهتمت وانشغلت، في كل مناحي حياتها، بقراءة كتاب الله، في أفق تحقيق متعة ولذة التجويد القرآني للذات القارئة وللمستمع، قصد التقرب منه تعالى؟.

عادة، ما نستمع ونستمتع بقراءة القرآن الكريم، من طرف قارئ، دون معرفة مساره وحكاياته، بل وقصصه المثيرة والمشوقة، والمساهمة في التأريخ لمسار علم إنساني يهم هؤلاء القراء. قصص هؤلاء القراء الحياتية، لها بعدها الروحي والاجتماعي والإنساني، الخ، مما استوجب تحويل جزء منها إلى لغة الصورة، في عصر هو اليوم يسمى بعصر الصورة، أي كيف من الممكن تقريب قصص هؤلاء القراء، بلغة لها جاذبيتها وقيمتها وأثرها النافع في المتلقي، وبنفس قد يندرج ضمن “الروبورطاج” أو الفيلم الوثائقي، أو ضمنهما معا، وبنظرة إخراجية جميلة وهادفة إلى استقطاب فئات عديدة، من عشاق تجويد القرآن الكريم، الذي هو حاجة نفسية وروحية، عبر كل العصور، لاسيما في عالمنا هذا الذي، أصبح “يتغذى” بلغة الحروب والدمار.

نحو حكي بنفس الوثائقي عن المزامير:

ما قيل، ينسجم على برنامج، ولد من رحم فكرة، مفادها، كيف نقرب لعموم الناس، مادة علمية/دينية، عادة ما تبقى رهينة المدرجات والأطاريح والرسائل الجامعية، أو المجالس العلمية النخبوية؟. يتعلق الأمر ببرنامج “مزامير” والذي أعده لتلفزيون الشارقة، الباحث والإعلامي الدكتور عبد العزيز الضامر، حيث كانت الصدفة قد قادتني للاطلاع على حلقته الأولى المتمحورة حول القارئ والشيخ محمد رفعت كأيقونة من أيقونات تجويد القرآن الكريم، ليس على مستوى بلده مصر، فحسب بل على المستوى العربي والإسلامي والإنساني ككل.

يبدو، أن أسلوب الحكي عن جميع القراء المشكلين لمتون هذه السلسلة، هو بنفس الطابع. ما المفيد، إذن، في هذه السلسة التي هي اليوم تمتح من لغة الصورة، وتحاول تقديم مواد علمية دينية تتعلق بتجويد كتاب الله ومن مناطق جغرافية متعددة، بلغة تجمع بين آليات “الروبورطاج” والوثائقي.؟.

سلسلة، فكرتها وإعدادها وإنتاجها، من توقيع، د. عبد العزيز الضامر والمتخصص في القرآن وعلومه، وفي نفس الوقت منشغل وعاشق لثقافة الفيلم الوثائقي، وهي قيمة، في اعتقادي المتواضع، لها ميزتها في هذا العصر، حيث نجد العديد من المتخصصين في مجال الدراسات الإسلامية، وبشكل عام، ولأسباب ذاتية وموضوعية، بعضها يتعلق بطبيعة تكوينهم، الخ، بعيدين كل البعد عن لغة الصورة وثقافة الفيلم الوثائقي، مما جعل الباحث هنا، أي د.عبد العزيز الضامر، وهو مقدم السلسة هنا، يتوفر على هذه الإمكانية، مما يجعلنا فعلا، أمام تجربة، شخصيا أدرجها ضمن رؤية تجديدية، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، ما قدمه عن الشيخ رفعت وقصصه الإنسانية المتعددة، مثل تنقلاته ومرضه وعلاقاته مع محيطه الاجتماعي والديني والسياسي والفني (مثل علاقاته مع الفنان محمد عبد الوهاب، الذي أعجب بصوته)، مادة خصبة وفنية مولدة لمتعة المتابعة، بل مادة نطل من خلالها على مصر الثلاثينيات والأربعينيات وإلى حدود سنة وفاته 1950.

الحضور الفني، لمحمد عبد الوهاب، كمثال، في حضرة صوت هذا الشيخ، يؤشر على رؤية تسامحية جديدة في برامجنا الدينية، بل أكثر من هذا، ونحن بين الفينة والأخرى نستمتع بقراءة هذا الشيخ الأعمى، نستحضر أيضا رؤية المخرج لهذا العمل الروحي/الفني، والمقدمة بطريقة تربوية وبيداغوجية سهلة وممتعة في الوقت نفسه.

احضار فوتوغرافيا الأبيض والأسود الخاصة بالشيخ محمد رفعت الأعمى ، وقصصه الاجتماعية، بما فيها قصة مرضه ورفضه لكل أشكال الدعم المقدمة له قصد العلاج قائلا قولته الشهيرة والقوية والدالة (قارئ القرآن لا ينبغي أن يهان)، بل كيف باع منزله وخصص ثمنه للعلاج، دون استغلال لمكانته المتعلقة بكونه قارئا محبوبا من لدن أهل السياسة والمال والفن، كل هذا ساهم في خلق تلك “السلطة” الروحية والقصصية المثيرة الجميلة، على متفرج متعطش لمثل هذا الحكي بلغة صورة تنهل مادتها من هذه الحقبة التاريخية الدالة.

قراءة في بعض مكونات هذا العمل الفني في السلسلة:

1/ البدء بثقافة الحديث النبوي الدالة:

يبدو، أن عنونة السلسة، قد ولدت من الحديث النبوي الشريف، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لأبي موسى الأشعري:” لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل دواود”، مسلم.
لفظة مزامير، هنا وكعنوان، تحيلنا على بنية تركيبية غير معرفة، مما يؤكد عدم ادعاء البرنامج، أن المقدم هنا، هي كل المزامير، بل تقديمها بصيغة نكرة، دالة على كون المقدم، جزء من المزامير العديدة وغير ممكن تقديمها هنا ككل، بل هي عينات مختلفة ومتنوعة. ضمن فكر التأويل، أيضا، من الممكن القول، أيضا، أن هذه السلسة، بنيت ضمن هدف سام، غايته التعريف بهؤلاء القراء، والذين عادة ما نستمتع ونتلذذ بقراءاتهم/أصواتهم العذبة، دون معرفة قصصهم ومحنهم، الخ. إذن، هي سلسة تعريفية لكلمة مزامير النكرة.

2/ أرشيفات وقصص جميلة دالة:

عديدة هي المكونات المحيلة على الأرشيف، في هذا البرنامج، حضور الأرشيف وتوظيفه بشكل بصري ممتع، جعلنا أمام عناصر مولدة لمتعة بصرية ( راديوات قديمة، صور القراء بالأبيض والأسود، مكبرات صوت قديمة، كانت تستعمل في المساجد لكي يسمع المصلون قر اءة القراء، شموع دالة على بقع ضوء، مكروفون قديم يحيلنا على فترة تاريخية سابقة، “البشتخته” كآلة استماع قديمة، كتب/مجلدات قديمة، مصابيح لها مدلولها المتوازي مع القراء، صندوق خشبي صغير، يحيل على تخزين أشياء ثمينة ما، وهي هنا هذه القراءات الجميلة لشيوخ لهم مكانتهم في خريطة القراءات القرآنية، ومن الممكن توليد العديد من الدلالات لتوظيف هذا الصندوق الخشبي التقليدي، الدال، من جملة ما يدل عليه، على الحكي والرغبة في البوح، أي البوح بقصص هؤلاء القراء الذين يرحلون في صمت، الخ)

المتابع لهذه السلسة، سيجد نفسه، في الحقيقة أمام، مادة توثيقية/وثائقية غنية ومفيدة، مثل كيفية بداية الإذاعات العربية سنة 1934، بل وكيفية اختيار، الشيخ محمد رفعت، ليفتتح الإذاعة المصرية، وهو كفيف البصر منذ صغره، بل وكيفية تلبية هذا الشيخ لدعوة الإذاعة البريطانية، بعدما تردد في البدء، معتقدا أن استجابة هذه الإذاعة قد يكون أمرا منافيا للإسلام، فطلب رأي مفتي الأزهر، فشجعه على الاستجابة لكون الدعوة قد تكون فاتحة خير عليهم، فاختار أن يقرأ من سورة مريم، لما لهذه السورة من دلالات دالة، وهنا، نستنتج ضمنيا، مدى تجذر ثقافة الانفتاح على الآخر، عبر هذه الحكايات الجميلة والدالة.

إذن، نحن أمام قصص إنسانية عديدة، بل وأمام صور فوتوغرافية وأرشيف من الصحف الورقية، وأقوال عديدة تؤكد عمق التسامح الذي كان يعم مصر وغيرها، لاسيما ما قاله الكاتب محمود السعداني عن هذا الشيخ محمد رفعت الذي أثرت قراءته في أقباط مصر، بل قراءته هاته كانت وعن بعد، سببا رئيسيا في جعل العديد من الأجانب يدخلون تحت راية الإسلام، دون عنف ولا تكفير، وهي رسالة ضمنية تحملها هذه السلسة القرآنية الروحية ذات الامتدادات الإنسانية والجمالية.

3/ حينما يتحول الصوت إلى شخصية فاعلة في المتلقي:

وأنت تستمع بين الفينة والأخرى، إلى قراءات هذا الشيخ، تشعر بالفعل، بهزات روحية تهزك من أعماقك، مما يجعلنا نتساءل أو ليس فقدان البصر لهذا الرجل، هو نعمة ساهمت في جعل تجويده للقرآن الكريم له خصوصية مؤثرة ودالة في مسار القراء؟
صوت الشيخ محمد رفعت جعل العديد من الوجوه ومن مرجعيات مختلفة، تحضر بيته، بما فيهم الفنان محمد عبده الذي كان يجلس تحت كرسي الشيخ وبين رجليه مؤكدا له، أن في حضرة القرآن الكريم، ليس هناك كبير. فنان ربط صلة ود ومحبة بينه وبين هذا المقرئ الكبير، مما يوحي لنا بالعديد من العبر والدروس، التي وجب استخلاصها اليوم.

صوت، فعل فعله في الجميع، داخل وخارج بلده مصر، ولازال مثيرا للكتابات وللعديد من الأعمال الفنية، مثل العمل، الذي نحن بصدد الكتابة عنه، بل أرى في حضور محمد عبد الوهاب لمجلس هذا الشيخ الأعمى، ذلك التسامح النوعي والذي نحن في أمس الحاجة إليه، في زمننا هذا الذي طغت عليه لغة التحريم والتكفير وتقديم صورة غير حقيقية حول ثقافتنا الإسلامية التي نهل علماؤها وفقهاؤها من زاد المحبة والتعايش والتساكن مع الجميع.

4/ تقديم بطعم التحكم في المادة المقدمة:

تمكن الدكتور عبد العزيز الضامر، وهو الآتي من رحم الدروس الجامعية والإنتاج الوثائقي، من “أسرنا” طيلة مدة حكيه عن هذه المزامير، بتقديم العديد من التفاصيل الزمنية والحدثية والتاريخية والقرآنية والإذاعية، الخ، مما يجعلنا وبكل صدق، نضمن فرجة مفيدة وممتعة، وبعيدة كل البعد عن التعقيد، بل تمكنه هذا، يوحي لنا بكون الرجل، هو ملم بتضاريس مادته وتخصصه، قادر على تبسيطها ومن تم جذب فئات عمرية متعددة، لاسيما ولغته هنا، تمتح من البساطة، والحكي القصصي الإنساني حول مرض الشيخ محمد رفعت الذي أصيب بمرض السرطان، وعلى الرغم من ذلك بقي يقاوم عنف هذا المرض، بل أكثر من هذا ظل الرجل مقدما لخدمات عديدة للناس، مثل تخصيصه لمبلغ دائم ليتيمة، تذكرها وهو يقرأ آية “أما اليتيم فلا تقهر”.

على سبيل التركيب:
في الحاجة، إلى مثل هذه الأعمال التي تنبش في ذاكرة الرواد، في علائقها مع مجال تجويد كتاب الله، لاسيما في زمن كهذا الذي نعيشه، حيث تزداد الرغبة في مثل هذه البرامج ذات النفس الوثائقي، بل فريق هذا البرنامج، بما فيهم مخرجه (….) وشاعر كلمات الجنيريك صلاح بن الهندي، الخ، قد وقع على متن سمعي/بصري، له جماليته المؤثرة في المتلقي، والمساهمة في تربية ذوقه الروحي.

أعمال، مثل هاته، من الممكن إعطاؤها بعدا عالميا، من خلال ترجمتها، إلى لغات أخرى كالإنجليزية والإسبانية والفرنسية، لكونها، وفي اعتقادي المتواضع، تقدم تجربة جميلة وحاملة في طياتها العديد من العبر، مما سيمكن، غير المسلم، أيضا أن يستمتع بمثل قصص هؤلاء القراء، ومن تم تحويلها إلى أداة جوهرية لتقديم نظرة راقية عن هؤلاء الشيوخ، بل هي فرصة لخلخة التمثلات الموجودة، بل المصنوعة لدى الآخر عن العديد من قضايانا الإسلامية.
د.الحبيب ناصري (أستاذ باحث)
المغرب
البريد الإلكتروني
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *