وجهة نظر

عبدالاله بنكيران ..السياسة للحاضر والمعادلة للأبدية.

أختلف مع بنكيران مثلما يختلف كل مهتم بالسياسة وشؤون البلاد. إنه ليس مجرد اختلاف عادي، مادام المنطق يفرض وجود ما يمنحني الفرصة لإبداء وجهة نظري فيما يخص تفكيك العديد من قضايا المجتمع وسياسة تدبير مرفقه الحكومي، الذي كان بنكيران جزءا من نظامه ومكونا أساسا في سلمه التنظيمي.

مبدئيا يمكن القول إن بنكيران مثله مثل باقي الفرقاء السياسيين ليس رجلا خارج مجرة واقعنا السياسي. وليس حالة مبتعثة من نظريات جاهزة، كمن يجدون في ذلك مآلا نظريا للركوب على موجة الشعبوية، أو ما يصفها البعض بالبهلوانية السياسية.

إنه رجل سياسة خرج من جبة اليسار الراديكالي “23 مارس” ذي التوجه الماركسي اللينيني، مرورا بمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي ثمانينيات القرن الماضي. وبعدها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم الاستقلال، قبل أن ينظم سنة 1976 لتنظيم الشبيبة الإسلامية. والقصة بعد ذلك معروفة.

لا أريد هنا الحكم على الرجل من موقع خطابه، الذي يجب أن نعترف باستثنائيته وخروجه عن النص السياسي التقليدي المتعارف عليه. وهي نقطة خطيرة في باراديجم التحولات السياسية والفكرية المعاصرة. من حيث كونها تثير الفضول وممارسة النقد. وقد شدت انتباه المغاربة وأعادت المتتبعين للمشهد السياسي بشكل لم يسبق له مثيل.

لكنني أستحضر خلال هذه الكلمة مجموعة من البديهيات الفكرية التي يمكن تسجيلها خلال تحليلي للظاهرة السياسية بالمغرب والعالم العربي. أولها أن حدود التماس بين النظام والببجيدي خلال فترة حكمه، ابتداء بأول حكومة بعد الربيع المغربي التي ترأسها بنكيران واستمرت إلى الخامس من أبريل عام 2017 أضحت أكثر قربا ومواجهة. بل إنها سجلت مناطق صمت كان يكرس أحيانا اختلافا في الأولويات ـ على الأقل ـ واحتداما في المرجعيات الدستورية وطريقة تدبير الإدارة في العديد من الملفات.

علاقة شذ وجذب بين بنكيران والقصر تلك خلقت مساحة ظل بتأثيرات مجتمعية وسياسية لم يسبق إليها في تاريخ مرعيات الحكم ورمزية السلطان. وهو ما يجعل من بنكيران ظاهرة كلامية شعبية في ظرفية مليئة بالمشاحنات السياسية والتجاذبات الإعلامية المثيرة.

يكفي فقط أن نذكر بمواقف جديرة بالقراءة المتأنية حينما يعمد إلى مخاطبة الملك بمجموعة من الرموز والعلامات التي يحللها أهل الاختصاص أنها “رسائل مبطنة” و ” ووسائل ضغط” وردود أفعال أحيانا”. ومن أمثلة ذلك كثير نذكر بعضها:” جلالة الملك عينني وأعفاني جزاه الله خيراً”، “أنا مجرد موظف في حكومة الملك”، “لا يقال لا لجلالة الملك”،  “الملك يغضب علي مرة وجوج. عادية راه سيدنا هذاك”، “الملك أحضر لوالدتي هدية من أمريكا”، “الملك جعل لي أربعة حراس يرافقونني أينما تحركت”، أنا ما مطلوبش مني رضا جلالة لملك”، “أنا مطلوب مني السمع والطاعة فيما هو واجب للدولة أو النصح من قبلي لجلالة الملك”..إلخ.

لا يمكن لمتابع سياسي أو إعلامي أن يتجاوز هذا الحس الأنطولوجي الكامن خلف ستار شخصية مركبة وعنيدة، دون أن يلاحظ وجود نسق سياسي بخلفيات أيديولوجية واضحة. فبنكيران يعرف ما يقول، ويدرك ما يريد فعله!

إن عفوية بنكيران وتلقائيته ليست بالضرورة نوعا من السذاجة العقلانية، وليس انغمارا تهريجيا كما يحب الكثير تسميته به، بل يمكن تصنيف خرجاته المثيرة والملتبسة بنوع من كسر الأعراف وتغيير الخطاب التقليدي المتعارف عليه، والواجب مراعات آدابه بين الجالس على العرش وموظفي الحكومة. وهي على أية حال أعراف غير مكتوبة تقضي بتفادي الخوض في شخص الملك وفي قراراته في الفضاء العام.

قبل ما كان يصطلح عليه الإعلام بالبلوكاج السياسي، هناك نزعات قوية لتحليل حالة التدبير الغامض الذي شاب العديد من القرارات الحكومية خلال ست سنوات من رئاسة الحكومة من قبل عبدالاله بنكيران. فقد حمل البيجيدي شعارا براقا تحت يافطة محاربة الفساد والاستبداد ولم يفعل. ضحا بحليفة حزب الاستقلال دون أسباب استراتيجية. بالإضافة إلى غياب منهجيةواضحة للتفاوض لدى بنكيران. كما وأن الأخير التجأإلى قرار الزيادة في الأسعار لحل الأزمة المالية عوض ابتكار الحلول واستقطاب الاستثمارات الدولية وتشجيع الاستثمار الوطني لرفع نسبة النمو للخروج من الأزمة. بالموازاة مع ذلك فشل في الحد من مشاكل دعم المواد الأساسية التي كان يراهن فيها على عملية إصلاح صندوق المقاصة، وأغلق باب الحوار مع الفرقاء الاجتماعيين النقابات،وبالتالي تم فتح الباب أم المجهول وتأجيج الاحتقان الاجتماعي. وانحدرت ميزانيات التعليم والصحة إلى أرقام غير مسبوقة، ما انعكس على صحة المواطنين وتعليمهم وقوتهم اليومي.

هذا بالإضافة إلى عديد مشاكل كانت بالأساس تسبب للمغرب حرجا كبيرا إقليميا ودوليا، من بين ذلك تدهور وضع حقوق الإنسان وتضييق الحريات ومحدودية الالتزام الحكومي بالبرامج المعلن عنها تنمويا وثقافيا ومجاليا.

عموما فإن بنكيران جاء في زمن انتقالي، لم يكن فيه الفراغ الديمقراطي أقل شأنا من مدبريه. فالرجل الذي كان يمثل حزبا سياسيا إسلاميا لم يخبر متاهات الحكم سابقا، ولا كان ممن يؤول إليهم العقد لولا مشيئة أقدار الربيع العربي، الذي اصطفى تجربة احتضان الطوبيا الإسلامية، قبل أن ينبذها أو ينقلب عليها.

إنه أخطأ فيما أخطأ فيه جميع مع سبقوه، راهن على أحصنة خاسرة، وخرج من الحكومة ولم يخرج من القرار الحزبي الذي لا زال يديره من خلف الستار.

بنكيران يمثل شريحة ليست باليسيرة في شعب كان يحتاج لمن يقود أول حكومة بعد دستور 2011 أعطى هامشا لا بأس به لأجل إصلاح ما تبقى من أحلامنا، لكنه فضل التعايش المتردد المسلوب مع ساكني القصر، وهو بذلك يفوت عليه فرصة قراءة الحكمة التي تقول:” ما لا تنجزه اليوم لن ينجز غدا، ولا يجوز للمرء أن يفرط في أي يوم. إن العزم ينبغي عليه أن يمسك بالممكن من ناحيته بشجاعة وعلى الفور. إنه لا يريد أن يفر منه، بل يواصل العمل لأنه ليس منم ذل بد”.

وهو ما وقع فعلا !!

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *