لنا ذاكرة

قصبة الأوداية .. أسوار تحكي قرونا من تاريخ المغرب

كطاووس ينفش ريشه متباهيا بجماله، تنتصب قصبة الأوداية، في أقصى غرب العاصمة الرباط، شامخة على صخرة كبيرة مطلة على مصب نهر أبي رقراق في المحيط الأطلسيي. هدوؤها وأسوارها العالية وبوابتها الكبيرة وأبراجها العظيمة وإطلالتها العجيبة على النهر والبحر، تجعل الزائر يحس برهبة المكان.

“أجد صعوبة كبيرة في اختصار تاريخ هذا المكان للسياح في دقائق.. هنا، مر الرومان والمرابطون والموحدون والمرينيون والسعديون والأندلسيون ثم العلويون.. هنا شيدت حضارات ونشبت حروب”، هكذا قال المرشد السياحي عمر الذي صادفته “العمق” رفقة وفد من السياح الأسيويين، بقصبة الأوداية التاريخية.

من الرومان إلى العلويين

تواجه القصبة الوافدين من السياح المغاربة والأجانب بسور فيه فجوات من الأعلى وتتخلله أبراج، وتستقبلهم بباب وبوابة من الجهة الجنوبية، حيث تقود البوابة الكبيرة، التي تعد من بين آثار الموحدين، إلى شارع تتفرع منه أزقة ضيقة بالكاد تسمح لشخص واحد بالمرور، فيما تتزين الجدران باللونين الأزرق والأبيض. ويؤدي الشارع إلى ساحة كبيرة تطل على النهر والبحر. أما الباب فيقود إلى فناء كبير تتوسطه حديقة، ثم باب يقود إلى مقهى عبارة عن شرفة تطل على النهر، يقدم لرواده الشاي بالنعناع وبعض الحلويات المغربية التقليدية.

 

في الوقت الذي تؤكد فيه بعض المصادر أن القصبة شيدت في أواخر دولة المرابطين (1143- 1145) لرد هجمات البورغواطيين، تشير مصادر أخرى إلى أنها بنيت في عهد الرومان كحصن دفاعي، وهو ما أكدته آثار تم العثور عليها بالقرب من المكان قبل سنوات قليلة.

في هذا الصدد يقول الباحث في تاريخ المغرب هشام الحرش، إن قصبة الأوداية اكتسبت أهمية كبرى في عهد الموحدين، وفي عهد الهرناتشوس الأندلسيين، وكذلك في عهد الدولة العلوية، مشيرا إلى أنها استعملت في الجهاد البحري وحتى في القرصنة.

بناء القصبة اليوم يحمل آثار من عمروها، خصوصا؛ المرابطين والموحدين والهرناتشوس، إذ كانت أصغر من حيث المساحة في عهد المرابطين، لكن الموحدين عملوا على توسيعها حيث بنوا سورا يحيط بها من جهة الغرب والجنوب، وسورا من جهة النهر، كما أضافوا بوابة كبيرة وعددا من الأبراج.

عرفت قصبة الأوداية لما شيدها المرابطون باسم قصر بني تاركة، نسبة إلى إحدى فرق قبيلة صنهاجة الأمازيغية الموالية للمرابطين، واتخذت رباطا عسكريا ودينيا، كما استعملت لمواجهة هجمات البورغواطيين.

وفي بداية القرن الثاني عشر ميلادي قصد القصبة مؤسس الدولة الموحدية محمد بن تومرت رفقة ثلة من أصحابه، وبعده عمل خليفته عبد المومن بن علي على توسيعها بعدما استتب له الامر، إذ أجرى إليها الماء من عين تسمى “غبولة” التي تبعد عنها بعشرين ميلا في اتجاه الجنوب، عن طريق قناة جوفية.

عام 1608 ستستقبل الرباط مكونا أندلسيا سمي “الهرناشيون” أو “الهرناتشوس”، نسبة إلى بلدتهم هرناشو، ومن رافقهم من بعض المكونات الأندلسية بعدما طردهم الملك الإسباني فيليب الثالث، وكان عددهم نحو 3000 مهاجر، فسكنو القصبة وشيدوا بها الدور والقصور والحمامات.

في السنة الموالية، سيلتحق بهم أبناء عمومتهم المورسكيين، الذين قدرت بعض المصادر عددهم بحوالي 5000 نازح، ليستقر عدد منهم داخل القصبة، والباقي في مدينة الرباط في الجهة المقابلة للقصبة، ما أدى إلى بروز مركزين منفصلين، لكن القصبة حملت منذ البداية مركز الصدارة الادارية والسياسية.

في هذه الفترة سيعتني الهرناشيون بأسوار الأوداية ويزودوها بفجوات المدافع تحسبا لأي هجوم بري،  كما عززو دفاعاتها من جهة الواد والمرسى، فبنوا برج المجاهدين. فيما ترك الجزء الشمالي الأقصى  سطحا مكشوفا جهزوه بالمدفعية، ناهيك عن السراديب والأنفاق التي بنوها.

جمهورية أبو رقراق

عام 1627 سوف يعلن الأندلسيون الذين يسكنون قصبة الأوداية الاستقلال عن السلطة المركزية في مراكش زمن السلطان السعدي زيدان ابن أحمد المنصور الذهبي، وتأسيس “جمهورية أبو رقراق”، التي اعتمد اقتصادها أساسا على القرصنة البحرية، قبل أن تعرف القصبة حربا بين المكونين الأندلسيين.

وفي هذا الصدد يقول الباحث لحرش، الذي رافق “العمق” في جولة داخل أسوار الأوداية، إن مجاهدا مغربيا يدعى محمد بن أحمد العياشي، انحاز في صراع الأندلسيين إلى “الهرناتشوس”، لأن المورسكيين رفضوا مواجهة الاسبان الذين كانوا يحتلون “المعمورة” (مدينة القنيطرة).

وتابع لحرش أن المورسكيين استعانوا بالزاوية الدلائية، وبعد مقتل العياشي وطرد الهرناتشوس، دخل الدلائيون القصبة عام 1641 لأنهم كانوا يبحثون عن منفذ بحري، وظلوا بين أسوارها  الى حدود عام 1660، وبعد ست سنوات دخلها السلطان العلوي المولى الرشيد.

وفي عهد الرشيد، حازت القصبة أهمية كبيرة، حيث بني برجا بالقرب منها لحمايتها، كما بنى برجين بحريين دفاعيين في الجانب المطل على المرسى، كما وسع القصبة ببناء أسوار جديدة متصلة بزاويتها الجنوبية- الغربية.

من جهته بنى السلطان العلوي المولى اسماعيل، إقامة سلطانية بالقصبة مجهزة بمسجد وحمامين خاصين، وذلك من أجل إعطاء دفعة جديدة للجهاد البحري، وكسبت القصبة أهمية اجتماعية عندما آوى فيها المولى اسماعيل جيش عبيد البخاري.

اليوم تشكل الأوداية متنفسا يقصده سكان العاصمة في نهاية كل أسبوع، كما تشكل محجا  يقصده السياح من مختلف دول العالم، حيث تشدهم هندستها، وقصرها الذي بناه السلطان العلوي المولى إسماعيل، ومسجدها العتيق، وأزقتها الضيقة التي تنعررج كيفما اتفق، بل وحتى قططها الوديعة التي ألفت الزوار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *