إلى تلميذي، لم انتحرت؟

– أين؟
-….
– حسنا.
ذاك بعض ما تلقاه عون السلطة عبر الهاتف، جالسا في مقهى إيناس بإيمينفري، حيث النادل الحسين بشعره الأشيب، يستقبلك بابتسامة دائمة تحبط كل المؤامرات التي تحاك ضده، يضع أمامه كوب بن، بعد ذلك تمنعه المكالمة من شربها… تلك ضريبة الانتماء إلى السلطة.
بعد الانتهاء من قراءة ” شهيا كفراق” للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، عدت من مقهى إيناس محملا بقطرات مطر ونشوة بُن وخبر صاعق. لم أكن أعلم أن قراءة رواية عن الفراق ستنتهي بخبر مفجع كهذا. هي الصدفة؟
علمت و أنا أرى عون السلطة مغادرا أن حدثا ما وقع، ولأنني أعرف أن السلطة في بلادنا لا تتحرك إلا في أمر جلل جبار، حينها استنتجت أن أمرا ما جللا قد وقع.
دخلت دمنات، تلقيت الخبر، علمت أن أحد تلاميذي السابقين انتحر…أحسست أنني فشلت في هذه الرحلة التدريسية التي استمرت خمس عشرة سنة، علمت حينها أن المدرسة التي لا تعلمك ألا تنتحر، والتي لا تعلمك أنك أغلى شيء في الكون، والتي لا تجعلك تحس أنك مركز الكون…مدرسة فاشلة.
لم أقل لك يا بني وأنا أملأ دماغك بالترهات، أنك أغلى من كل ما يُدرَّس. لم أخبرك وأنا في يم المقررات الزائفة أنك من يهب الحياة للأشياء، و أن الأشياء لا تهبك الحياة، نسيت يا بني، و أنا مثقل بهموم امتحان السنة الثالثة إعدادي الذي سيُقبل عليك أن أهم امتحان ألا تجعل العابثين بالوطن يدفعونك نحو الاستسلام، شُغلت عنك يا بني بتصحيح أخطائك النحوية ولم أنتبه يوما إلى ما قد يعتريك من غضب مكتوم، من صمت ملغوم، أو حتى من حب مكلوم قد يجعلك فريسة السموم الفنية.
نسيت و أنا أستخدم هاتفي الغبي أن أحذرك من هاتفك الذكي الذي قد يحملك إلى مشنقة تعدها بنفسك يوما بعد يوم، ليلة بعد أخرى، ساعة ساعة، دقيقة بعد أخرى، تفتل الحبل بيد واحدة، تضع بصمتك عليها كأنك تحميها من القرصنة، ألم أخبرك يوما أن من الذكاء بعض الغباء؟
نسيت أيضا، أننا في بحر النقط والفروض، لم ننتبه إلى أن الأرزاق بيد الله، و أن تلك النقط ليست إلا صورة مشوهة لحقيقتك، وأن الامتحانات والفروض تُبنى بشكل يجعل الجميع لا يحصل بكل بساطة…على المعدل. لم أحدثك عن أصدقائي الذين كانوا لا يحصلون على نقط جيدة في المدرسة، لكنهم صاروا بين عشية وضحاها من أغنى الأغنياء، لم أحك لك عن ” الكسالى ” الذين صاروا يُشَغلون أولئك الذين كانوا “مجتهدين”، لم أكلمك عن بيل غيتس، هل تعرفه؟ أكيد أنك تعرف استخدام الهاتف الذكي، لكن هل تعرف أنه من ساهم في تطويره، هل تعلم أنه قال: “درست كل شيء، لكنني غادرت الجامعة دون إنهاء دراستي، الآن أنا أوظف مَن كان مِن أذكى الطلاب”.
هل كلمتك عن الشعر؟ هل قلت لك اُكتب الشعر؟ هل قرأت لك شعرا؟ هل ملأت فؤادك بالأحاسيس التي تطرد عنك الأحلام الفاسدة؟ هل مددتك بالمصابيح التي تنير لك دروبك المعتمة؟ هل أعطيتك مفتاحا من مفاتيح هذه الحياة البائسة التي قال لها صديقي و أخي ” عبد اللطيف أمغار” أستاذ اللغة الفرنسية:” الحياة قاَلْبْ”. هل علمتك كيف تتفادى هذا ” القالْبْ”؟
لم أنتبه وأنا أحاول أن أقلم مظهرك، من تلك الأظافر، ومن ذلك الشعر النافش، أن روحك أهم، وأن نفسيتك أهم، لذلك صرت أصرخ وأزمجر، أنظر إليك نظرات غضب، قد تمتد يدي لتصفعك، أو تمسك بقميصك لترفعك…وترفع بك تقريرا إلى السادة الحراس العامين، لم أنتبه إلى أنني أيضا أفتل معك ذلك الحبل. لم أنتبه إلى أننا بإلباسكم ذلك اللباس الأبيض الموحد نعدكم للموت لا للحياة، نلبسكم الأكفان يوما بعد يوم، ثم نستغرب بعد ذلك لانتحاركم…لم أنتبه أن تلك الأكمام الممزقة، والوزرات الضيقة، والأوساخ التي ترفضون إزالتها منها، بل حتى تلك الكتابات التي تدونونها على ظهوركم وصدوركم هي نياشين الانتصار على تلك الأكفان، لم أنتبه – إلا متأخرا – أنني كنت حفار قبور.
إلى التلاميذ الأحياء أقول، روحكم أغلى من كل الترهات الذي ذكرت ُوالتي نسيت، روحكم أجمل من كل القوانين الجائرة بل حتى العادلة، روحكم تأمين حياة أمك وأبيك، فماذا تتركون لهم بعد فقدانكم غير الريح النكد؟ كيف يخرجون؟ كيف يدخلون؟ كيف يبتسمون؟ كيف يصلون؟ كيف يصومون؟ كيف ينحرون الأضاحي وذكرى انتحارك لا تفارقهم؟
إلى التلميذ الذي يفكر في الانتحار، إلى كل الذين يفكرون في الانتحار، إلى الرجال، إلى النساء، إلى الشباب والشابات…إلى التلاميذ الذين مازالت عيناي ترى بريق عيونكم، تذكروا قول أحلام من رواية ” الأسود يليق بك”: ” إن الذين تريْنهم في الأمام لاهثين دوما خلف الأشياء، ليسوا السادة بل الكلاب. السادة لا يلهثون خلف شيء بل تأتيهم الأشياء لاهثة. لكن الكلب، وهو يركض سعيدا أمام سيده، يعتقد أنه سيد، إنه لا ينتبه أن من ينتظره حبل سيعيده إلى بيت الطاعة يظل كلبا”(ص: 272).
تعليقات الزوار
مشاء الله 🥰
قد لا نتفاجىء بانتحار الراشدين ولكن بروز ظاهرة الانتحار عند الأطفال، هذا خطير وخطر عميق يعاني المجتمع سرطان إجتماعي شديد، والمجتمع غافل،والإعلام يكتفي بنقل الخبر ...أين من يدعي الحرص على الأرواح. ..والاعتناء بالطفل....
أحسنت النشر. و رحم الله تلميذك هذا فعلا مع كل كلمة لم أنتبه انتبهت كذلك أنني لم أنتبه بعد لكل ما جئت به في مقالك هذا.