سياسة، مجتمع

“رواء مكة” لحسن أوريد .. تجربة روحية تنبعث سجالا إيديولوجيا بالمغرب

لم يكن يدور في خلد المفكر الإسلامي أبو زيد المقرئ الإدريسي وهو يتحدث في مقطع فيديو داخل تجمع صغير من الدعاة والمفكرين في البرنامج التلفزيوني “سواعد الإخاء”، أنه يقدم إعلانا غير مدفوع الأجر لكتاب أصدره الكاتب المغربي حسن أوريد، موثقا رحلة حجه قبل سنوات بأبعادها الروحية والتأملية.

“رواء مكة” الذي صدر قبل عامين أصبح فجأة الكتاب الأكثر طلبا لدى كبريات المكتبات المغربية، ونسخته الإلكترونية تتجول بكثافة عبر صفحات التواصل الاجتماعي، يرافقها جدل ساخن لعله ينبع من خصوصية الكاتب أولا، المثقف العصري داعية العقلانية الذي أمضى سنوات في أعلى هرم السلطة السياسية بالمملكة، قبل أن ينتقل إلى ضفة ناقد جذري للنظام السياسي في البلاد.

ويعزى الأمر كذلك لشخصية الشاهد (الإدريسي)، وهو مفكر وناشط سياسي وأحد قادة حزب العدالة والتنمية (الإسلامي)، والذي سبق له أن أثار الجدل بمواقفه الفكرية، ولعل آخرها محاضرته التي يبخس فيها من “ذكاء” الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينز، في معرض تفنيد دعوته الإلحادية.

جاء حديث أبو زيد في سياقٍ ممجد للكتاب الذي يمكن تصنيفه سيرة روائية، مثنيا على القيمة الفكرية للكاتب ولغته وسعة آفاقه، لكن أسلوب المديح والترغيب في قراءة النص ارتد عليه في صيغة مواقف متضاربة، بين من رأى فيه تعريفا إيجابيا بأثر أدبي وفكري يتناول رحلة الحج -الروح والمكان- ومن عده قراءة أيديولوجية اختزلت الكتاب في صك توبة من فكر عقلاني علماني إلى روح متشبعة بالإقبال على الله، خصوصا أن الشاهد يتحدث عن رجل كان “منحرفا”، يشرب الخمر ويشكك في الإيمان وينفر من الطقوس والشعائر.

ومن اللافت في خضم السجال الفيسبوكي الواسع حول كتاب كان يمكن أن يظل محدود التداول بين نخبة معينة، أن الاستقطاب الأيديولوجي والأحكام الجاهزة بدت سيدة الموقف في ظل غياب قراءات تحليلية من داخل النص تسائل صنعته وجمالياته وتخضعه لمعايير نقد الفكر والأدب.

وبخلاف شهرته ككاتب، كان أوريد مستشارا في سفارة المغرب بواشنطن، قبل أن يعين عام 1999 كأول ناطق رسمي باسم القصر الملكي حتى يونيو 2005، وتم تعيينه لاحقا واليا على جهة مكناس قبل أن يصبح مؤرخا للمملكة في نونبر 2009 وظل في ذلك المنصب لمدة عام واحد.

وفي الإبداع الأدبي، صدر لحسن أوريد “الحديث والشجن” وهي رواية أقرب إلى السيرة الذاتية، و”الموريسكي”، و”صبوة في خريف العمر”، ورواية “سيرة حمار” التي أثارت جدلا بخصوص رمزيتها السياسية، وديوان شعري بعنوان “يوميات مصطاف”، وديوان “فيروز المحيط”؛ وغيرها من الأعمال الفكرية.

الرحلات الحجازية

وتكرس “رواء مكة” تقليدا عريقا في التاريخ الأدبي المغربي الذي حفل بتدوين “الرحلات الحجازية” من قبل أحفاد ابن بطوطة، لكن الكتاب يختص بالانتماء إلى نخبة متأخرة من النصوص المغربية ذات النفَس النقدي التأملي الفكري التي تتجاوز أفق التدوين الوصفي التاريخي لتجربة الحج.

ويستدعي الكتاب بهذا المعنى كتابا مفصليا أصدره عالم الأنثروبولوجيا المغربي عبد الله حمودي حول رحل حج بحثية بعنوان “حكاية حج: موسم في مكة”، صدر بالفرنسية ونقله إلى العربية عبد الكبير الشرقاوي (دار الساقي، 2010) كما ترجم إلى أكثر من 14 لغة.

ويحرص أوريد مبكرا على تبيان مظهر من مظاهر تفرق السبل في ما أفضت إليه الرحلة التي غمرته روحا بينما “الحج والمظاهر التي عاينها (حمودي) ما زادته من الإسلام إلا نفورا” (ص 13).

كما يمكن استحضار كتاب الأديب أحمد المديني “الرحلة إلى بلاد الله.. يليها الرحلة إلى رام الله” (الرباط، 2014) الذي استعاد فيه “رحلة بحث يبغي المخلوق أن يستقصي فيها أرجاء روحه، فيما هو يتقرب إلى أجواء خالقه بطلب الثواب ورغبة الاستغفار”، وهو يقاسم أوريد نوازع السؤال والتطلع إلى تجربة روحية تخوضها نفس عاشت مقبلة على متع الحياة، مولية ظهرها للطقوس والشعائر التي كانت تبدو مجافية لسلطان العقل والفكر التقدمي.

غير أن العَلم الأكثر حضورا في إحالات كتاب أوريد يظل المستشرق النمساوي محمد أسد -واسمه الأصلي ليوبولد فايس- اليهودي الذي أسلم ودوّن أجواء رحلته الحجازية في كتاب “الطريق إلى مكة” الذي صدر عام 1954.

من الغواية للهداية

يتساءل حسن أوريد الذي يكتب في العلوم السياسية والرواية والشعر والتاريخ: “هل قدرت يوما أني سأشد الرحال إلى الديار المقدسة وقد نفرت عما كنت أراه رسيس تربية ومختلفات ثقافة.. هل هي مصالحة مع الإسلام، أم هي قطيعة نهائية تأخذ شكل سفر للوقوف على وجه من وجوهه؟” (ص 12).

الكتاب سيرة تحول. يعرف أوريد جيدا من أين أتى، ويغيب عنه المآل بعد تجربة، لا يتحقق عمقها بحكايات الآخرين، بل بشرط عيشها. يكتبها أوريد بمراوحة بين حرارة اللحظة الوجدانية في البقاع المقدسة، وتدفق الذاكرة الشقية لذات ولدت في حضن بيت متدين على فطرة الإنسان الأمازيغي المسلم في بلدة بالجنوب الشرقي للمملكة، قبل أن تتمرغ في متاهات اللذة المادية من جهة والبيعة المطلقة للعقلانية التي تسطر حدود ملعبها في دنيا الناس.

“قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطو من رحمة الله..”؛ يختار أوريد الآيات 53-55 من سورة الزمر استهلالا لكتابه، يوائم الرهان الروحي المصاحب لرحلة الحج، باعتبارها تعقبا لرحمة تفك الكرب الوجودي والتيه الروحي وتلبي الرغبة في التحرر من قيود الدنيا وبطش الهوى.

وهو يهدي كتابه للوالدين، وللجدة التي كان يسمع وردها الصباحي وتهجدها بلهجتها الأمازيغية “إليهم الفضل على بدء النشأة تحت ظلال القرآن، وهذا العود لنبع الإسلام”.. الكتاب إذن توثيق لرحلة إلى المكان، في طيها عودة إلى الروح التي كادت تضيع.

يكتب أوريد عن رحلة محددة في المكان والزمان، لكنه يحولها باستطراداته التأملية وإحالاته الفكرية واستدعاء ذاكرته البعيدة والقريبة، إلى ديوان زمن مفتوح بين الماضي والحاضر والمآل، من خلال حوار جذري مع الذات وهي تبحث عن الإشباع وتطارد تحقق المعنى.

البحث عن اليقين والروحانية

فالرجل يعود من بعيد، من عوالم العقلانية التي بشر بها الغرب، والوجودية التي أغوته في كتابات سارتر وكامي، ولا سيما بعد الرحيل المأساوي لشقيقه في مقتبل الشباب، وعوالم فرويد الغائرة في النفس البشرية؛ معتبرا أن هذه المشارب التي تشبع بها تؤدي للتحرر من قيود الدين، فقد كان ينصت للمعري يقول لا إمام سوى العقل، بينما يقول هو “لا هادي سوى الغرب” (ص 26).

ويستدعي الكاتب ضمور شعلة الإسلام في ذاته، قائلا: “لم يعد الإسلام في حياتي إلا ذكرى، وإلا حنينا يستدر مني التوقير، لأنه دين آبائي وأجدادي، ودين المجتمع الذي أضطرب به، ولكني لم أكن أرى نفسي مطوقا به. كنت أراه إصرا، ليس علي وحدي، فحسب، بل على المجتمع كله” (ص 35).

إنها رحلة فكرية وفلسفية متقلبة الوجوه من أجل العودة إلى إرث تلك الجدة بروحانيتها الصافية التي وجد فيها ما تمنع في أعمق المرجعيات والمدارس، لأن السؤال هو: “هل يمكن أن تصرف الحياة بالعقل وحده؟ هل حياة الإنسان مقولة تخضع لمنطق الربح والخسارة والحساب الدقيق؟”.

وفي فناء المسجد الحرام، ها هو مسار المجاهدة يؤذن بتحرير الروح والوجدان: “أما ما وقع فهو نور يقذفه الله في قلب المؤمن، كما يقول الإمام الغزالي، أو هو طائر يحط على عرش نفس الإنسان، كما في تعبير القطب سيدي عبد القادر الجيلاني…”.

نقطة التحول إذن: “وتحولت، أصبح لحياتي معنى، أدركت المعاني الدقيقة لنداء: لا إله إلا الله محمد رسول الله”. آن له إذن أن يصف حاله، ما قبل الوقفة وما بعدها: “كنت منقبضا فأصبحت منشرحا، كنت أخشى الحياة وصروفها، وأضحيت أهزأ منها ومن أحابيلها…كنت أهوى نفسي، وأأتمر بهواي، وأضحيت أضبط جماحها أو أسعى لضبط جماحها” (ص 93).

لا تفتن اللذة الروحية صاحبها عن تسجيل مشاهد سلبية من تصرفات تناقض روح التعبد في المكان القدسي. كما يلاحظ أن الجانب الخلقي ممزوج بالاعتبارات السياسية، ومنها أن “أيدولوجيا الوهابيين حاضرة”، وأن “المرء يلمس تواجد جيش من الدعاة يبثون رؤيتهم ويصدون ‘خطر’ رأي مغاير أو توجه آخر لا يتلاءم وأيديولوجيتهم. لم يحدثنا من الوعاظ غير السعوديين” (ص 119).

بل لم تخل الرحلة من أسئلة باطنية تناوش السلام الروحي للحاج، بمراودات شيطانية “وهل ينفي الحج نداء الحياة؟… ولكن لا تزال شابا ممتلئا برواء الحياة، ودفق العاطفة… وهل تريد أن تصبح ناطقا باسم الإسلاميين، وأنت من أبعد الناس عنهم..؟” ( ص 148)، لولا أن الكتاب لم يصدر إلا عقدا كاملا بعد الرحلة المكية. لعل اليقين توطن، وتبدد قلق الاختيار وانزاحت وحشة الطريق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *