وجهة نظر

لماذا يدفعوننا إلى الهروب ؟

الهروب أو الهجرة أسلوب احتجاجي جديد للنخب السياسية والثقافية ببلادنا، لا يحتاج لتأويل نوعي أو مقاربة معرفية استثنائية. يكفي أن نضع النظر المنطقي العقلاني على اللوح الشفاف ليظهر المعنى الحقيقي للهروب الدراماتيكي المتتالي للأصوات المناضلة الغاضبة، دون أن نقوم بمزايدة أيديولوجية أو سياسية أو أخلاقية، تعكس حالة الانسداد التي أضحت تخيم على جزء شاسع من سيكولوجية المجتمع المقهور.

عديد من الأسماء مرت من نفس المحنة، يمكن استعادتها ها هنا لمساءلة أسباب اصطفافها ضد إرادة الاستمرار في العيش فوق التراب الوطني، بعد سلسلة محاولات للفهم والاستيعاب وضبط النفس، ما خلف مظاهر استمرار نزيف الهاجس الحقوقي وتنامي الاحتقان بين المخزن والمتتبعين ونشطاء المنظمات المدنية، لم يعد لها قوة الصبر نفسه، ولا حلم التجلد واستدبار حرائق الامتهان والاحتقار المتواصل وضرب أدنى حق من حقوق الدستور. فالشدائد توالت وأعوام جفاف العدالة الاجتماعية والقضائية والعيش الكريم تراكمت وخلفت وراءها ندوبا عميقة وجراحات لا تندمل.

إن قراءة منصفة لهروب محامي نشطاء حراك الريف عبد الصادق البوشتاوي وناشطة الحراك نوال بنعيسى، وقبلهما عديد أسماء مرت دون أن تحدث ضجة، يستدعي تفكيك منظومة متكاملة من سياسات الهروبالمجحفة ضد القانون والدستور.

لن تكون بلاغة الصمت أقوى حجة من استمرار تهريبنا جميعا نحو مستقبل مجهول وانتظارات من الخوف والترقب المهيمنان على الأوضاع السياسية والاقتصادية والحقوقية التي تزداد ترديا واختناقا يوما بعد يوم.

وكل ما عدا ذلك يخفي مأزقا خطيرا في إدارة الدولة والمجتمعلإقدام النخب المثقفة على قرار الهجرة من البلاد بعد أن ضاقت عليهم سبل العيش. وهو مأزق حقيقي يعني من ضمن ما يعنيه، استعادة الحماس الوطني والإحساس بالمسؤولية تجاه قضايا إصلاح الإدارة ومحاربة الفساد والاستبداد ووقف نزيف هجرات العقول والكفاءات. والأخطر تآكل آمال وأحلام النزهاء والشرفاء من حاملي بدلة القضاء في إصلاح منظومة العدالة التي يقوم على أساساتها الحكم وتتقوى برهاناتها بناء وتنمية الإنسان والعمران.

لماذا تفكر النخب المغربية في الهروب من كنف الوطن؟ كيف تختار بديلا غامضا تحيق به المخاطر والاهوال من كل جانب، وتستبيح فيه القيم السياسية ومبدئية الانتماء والهوية وتقاطعات المصالح في البلد المستقبل وانعدام رؤية ضامنة لحد أدنى من الحياة والحرية.
التضاربات المهولة والاختلافات الأيديولوجية والسياسية.

في بداية العشرية الأولى الأخيرة استدعى انتباهي هذا النوع من النفور الذي بدا يتسرب لأنفسنا شيئا فشيئا؛ حاجبا ووراءه جملة من العلامات والإواليات التي ترصد بغير قليل من التحيز والمواجهة؛ أصناف التردي وهبوط أسباب الإرادة والمشاركة في عملية الانتقال الديمقراطي المزعوم.

شباب هائم لا يلوي على شيء. قصور في رؤية التحولات العالمية التي تشهدها مساحات جبارة من التكنولوجيا ومجالات تدبير المعلوميات وإدارة المدن الذكية وانخلاق مجتمعات المعرفة وطفرات التحرر الثقافي وتعدد مجالاته وتأثيرات كل ذلك على العلوم والتربية والتكوين والبحث العلمي. .. الخ

دعاني الكاتب عمر أوكان صاحب (الكتاب الأسود) للمشاركة في ندوة بمدينة سطات عن ” مآلات الثقافة وأسئلة الانوجاد ” ، حيث كان الصراع على أشده، في فتنة الهوية الثقافية والوطنية ومأزق الاختلاف بين المثقفين.

لكن الصادم بعد اللقاء بزوغ فكرة “اللجوء الثقافي” من قبل عمر أوكان، الذي أبلغ في بيان له نشر ببعض الصحف الوطنية أنه ضاق درعا بالاستبداد الممارس عليه، معتبرا وجوده الاعتباري ككاتب مغربي مجرد كومبارس للعبة منتهية الصلاحية.

كانت فعلا فكرة الهروب الآخر من الوطن ليست مجرد بروباجندا عابرة، فقد أصدر بعد ذلك كتابا هجائيا آخر تحت عنوان ( باراكا ) يعني (كفى) يسرد فيها أحوال وأوحال السلطة، وتجذر الفساد وتعاظم الاستبداد.

والأكيد أن خبر تقديمه طلبا رسميا لإحدى السفارات الغربية بالرباط خاص باللجوء الثقافي ساهم في إعادة حلحلة المواقف غير المعلنة للعديد من الأسماء الثقافية البارزة. وأضحى محور السجال بعدئذ إقدام مثقفين وفنانين على عرض ذواتهم للبيع، لأجل تغطية وضعيتهم الصحية والاجتماعية المكارثية. والرواية المأساوية الطويلة عن سقوط الكثير منهم ضحية الأمراض الفتاكة وقلة ذات اليد ليست بخافية على أحد.

أما بعد، فالأسئلة الملحة تركب بعضها بعضا، لكنها تعيد صياغة همها القديم الجديد: لماذا تقسو السلطة على معارضيها؟ ولماذا تنمو ذاكرة الحقد عند المخزن، بعد أن بدت وهي تدخل قفص الزجاج الوهمي للمصالحة والإنصاف غير قادرة على التناغم والانسجام مع التزاماتها الرمزية بخصوص تصحيح انتهاكات الماضي الأليم وانحرافاته الخاصة بالاستبداد والفساد والقهر والاستعباد؟

أليس من الضروري طرح هذه الأسئلة الشائكة وأخرى غيرها من أجل إعادة انتقاء محددات سوسيولوجية وتاريخية عميقة للأدوار الاستهلاكية التي ما فتأت السلطة كنسق اقطاعي كومبرادوري تراكمها وتقايضها لأجل تحقيق قطائع وسيرورات مقاومة للتطور الفكري والتأسيس لمتغيرات جديدة بحجم تلك التي تراهن على مواكبة نظم وبنى العصر وطفراته الكونية المتداخلة..؟؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *