وجهة نظر

كليات رمضانية.. كلية الصبر (الحلقة 2): الصبر من المقلوبات إلى الفضائل

مع الصبر:

إذا رجعنا إلى مادة – صبر- فإننا سنجدها بمقلوباتها كلها إلا (برص) تدل على مكوث الحبس وامتداد زمانه، فالصرب هو اللبن الماكث أياما حتى احمض، والصبر الحبس والنصب ونقيض الجزع، والبصر توجيه العين إلى الشيء وحبس النظر عليه، وربص بالشيء ربصا وتربص به انتظر به خيرا أو شرا وتربص به الشيء كذلك وفي التنزيل {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} ولي على هذا الأمر ربصة أي تلبث. (1)

وقد حصر ابن فارس الصبر في ثلاثة معاني:

1- الحبس يقال: صبرت نفسي على ذلك الأمر، أي حبستها. ومن هذا المعنى الكفالة والقيادة والإلزام والالتزام تقول صبير به كفيل به وصبير القوم مقدمهم، فهو إعداد للكفالة والقيام بالمسؤولية وتحمل أعبائها وتبعاتها، وإنما سمي ذلك صبرا لأن المتصف به يصبر على الغرم.

2- أعالي الشيء: صبر كل شيء: أعلاه. قالوا: وأصبار الإناء: نواحيه.

3- جنس من الحجارة (2)

ومن معاني الصبر، النخل والتنقية تقول: يصبرون طعامهم والصبرة من الطعام، المنخول.
ومن معاني الصبر العصارة وهي عصارة شجر مر
ومن معاني الصبر الشدة يقال: صبارة الشتاء شدة البرد
ومن معاني الصبر التريث وعدم معالجة الانتقام ومنه اسم الله عز وجل الصبور ومعناه قريب من معنى الحليم، والفرق بينهما أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم. (3)

وإذا جمعنا بين هذه المعاني فيمكن أن نقول بأن المكوث وحبس النفس والتريث، يصاحبه شدة وينتج عنه نخل لها وتنقية تخرج عصارة صافية تصل بالإنسان إلى معالي الأمور.

والصبر عند علماء التزكية والتصوف والتسليك حبس النفس على الطاعات ، ولزوم الأمر والنهى ثم على ترك رؤية الأعمال ، وترك الدعوى مع مطالبة الباطن بذلك وعلى مقاساة مقامات البلايا ، حتى يصير كل بلاء ومحنة بتلك الرؤية عطاء ومنحة ، ويصير وظيفة السالك ومقامه شكرا بعد أن كان صبرا ، فالصبر عندهم يشمل جميع المقامات والأخلاق والأعمال والأحوال ، فإن جميع ذلك لا يتحقق إلا بحمل النفس على الثبات فى التوجه إلى تحققه ، وعلى مقاساة الشدة فى تصحيحه. (4)

والصبر حبس النفس على مكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص فى تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته. وهذا فى طريق الخاصة تجلد ومناوأَة وجرأَة ومنازعة، فإن حاصله يرجع إلى كتمان الشكوى فى تحمل الأذى بالبلوى. وتحقيقه الخروج عن الشكوى بالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى. (5)

وللصبر باعتبار الحركة ثلاثة أحوال:

إيجابي: وهو الفعلي وهو الثبات والاستمرار على العمل الصالح موافقا لمقصوده الذي من أجله شرع. ويدخل تحت هذا النوع ما كان واجبا كالفرائض العينية والكفائية وما كان مندوبا كنوافل الأعمال.ويدخل تحته الصبر على قول الحق وقبوله ممن جاء به من الناس ودعا إليه بالنصيحة فيقبل منه ، لأن الحق رسول من الله جل ذكره إلى العباد ولا يجوز لهم رده ، فمن ترك قبول الحق ورده فإنما يرد على الله تعالى أمره . (6)

قال أبو طالب المكى: الصبر يحتاج إليه العبد قبل العمل ومعه وبعده:

1- الصبر قبل العمل ، أن يصبر على تصحيح النية وعزم العقود والوفاء بها حتى تصح الأعمال ، لأن النبى – صلى الله عليه وسلم – قال : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ) (7)، وقال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلا ليَعْبُدُوا اللهَ مُخْلصِينَ لهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } (8)، وحقيقة النية الإخلاص ، ولأن الله تعالى قدم الصبر على العمل ، فقال تعالى : { إِلا الذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلوا الصَّالحَاتِ أُوْلئِكَ لهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } (9).

2- والصبر مع العمل ، التأنى فيه حتى يتم ويعمل ، لقوله تعالى : { نِعْمَ أَجْرُ العَامِلينَ الذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلونَ } (10).

3- والصبر بعد العمل ، هو الصبر على كتمه وترك التظاهر به والنظر إليه ليخلص من السمعة والعجب ، فيكمل ثوابه كما خلص من الرياء ، كما قال تعالى : { أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَلا تُبْطِلوا أَعْمَالكُمْ } (11)، وقال تعالى فى مثله : { لا تُبْطِلوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى } (12). (13)

وسلبي: أو تركي وهو في ترك المعاصي والسيئات والمؤذيات كبيرها وصغيرها، مع موافقة القصد من الترك، ويدخل تحت هذا كل المفاسد معقولها ومتعبدها دنيويها وأخرويها مع الثبات على ذلك الترك.

التوقفي: وهو التسليم لأقدار الله وابتلاءاته كالأمراض والمصائب والكوارث، مع القيام بالممكن والمشروع من الأسباب المزيلة أو المخففة أو المغيرة المادية والمعنوية والتأمل والنظر فيها، ووسمته بالتوقفي لأن الإنسان في تلك الحال كأنه متوقف لا يقوم بفعل اعتراض أو استنكار، وفي نفس الوقت لا يترك سببا يمكن أن يعين على التخفيف أو الإزالة إلا فعله.

قال سهل التسترى: ( الصبر تصديق الصدق ، الصالحون فى المؤمنين قليل ، والصادقون فى الصالحين قليل ، والصابرون فى الصادقين قليل ، وأفضل منازل الطاعة الصبر على المعصية ، ثم الصبر على الطاعة ، وقال تعالى : { اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا } (14)أى استعينوا بالله على أمر الله ، واصبروا على أدب الله ) (15)

وذكر عن الجنيد أنه سئل عن الصبر ؟ فقال : ( هو تجرع المرارة من غير تعبيس ) (16)
إذن فالصبر الثبات على مراد الله، سواء كان ذلك الثبات فعليا أو تركيا أو تسليميا.

من فضائل الصبر:

• الصبر ميزة الإنسان عن الملك والحيوان:

قال الشيخ الغزالي رحمه الله : اعلم أن الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة ، أما في البهائم فلنقصانها ، وأما في الملائكة فلكمالها ، بيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات ، وليس لشهواتها عقل يعارضها ، حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً ، وأما الملائكة فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية والابتهاج بدرجة القرب منها ولم يسلط عليهم شهوة صارفة عنها ، حتى تحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر ، وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة ، ولم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه ، ثم يظهر فيه شهوة اللعب ، ثم شهوة النكاح ، وليس له قوة الصبر البتة ، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر ، قام القتال بينهما لتضاد مطالبهما أما البالغ فإن فيه شهوة تدعوه إلى طلب اللذات العاجلة ، والإعراض عن الدار الآخرة ، وعقلاً يدعوه إلى الإعراض عنها ، وطلب اللذات الروحانية الباقية ، فإذا عرف العقل أن الاشتغال بطلب هذه اللذات العاجلة ، عن الوصول إلى تلك اللذات الباقية ، صارت داعية العقل صادة ومانعة لداعية الشهوة من العمل ، فيسمى ذلك الصد والمنع صبراً. (17)

• الصبر بطاقة الدخول في زمرة أحباب الله {والله يحب الصابرين} (18)

• الصبر سبب معية الله {إن الله مع الصابرين} (19)

• الصبر بريد الإمامة في الدين، قال تعالى (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) (20) .

• الصبر كله خير قال تعالى: (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) (21).

يتبع..

1. المحكم والمحيط الأعظم (8/313)
2. مقاييس اللغة (3/329)
3. لسان العرب (4/437) / المحكم والمحيط الأعظم (8/313)
4. لطائف الإعلام (1/457) / المعجم الصوفي (799)
5. طريق الهجرتين وباب السعادتين (264) والتعريف للإمام ابن تيمية رحمه الله.
6. المعجم الصوفي (800)
7. أخرجه البخارى فى كتاب بدء الوحى برقم (1) 1/15.
8. [البينة/5]
9. [هود/11]
10. [العنكبوت/59:58]
11. [محمد/33]
12. [البقرة/264]
13. قوت القلوب(1/329) .
14. [الأعراف/128]
15. قوت القلوب (1/326)
16. الرسالة القشيرية (1/322)
17. موسوعة فقه الابتلاء
18. سورة آل عمران (136)
19. سورة البقرة (153)
20. [السجدة: 24]
21. [النحل: 126]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *