وجهة نظر

عنف “الدولة”.. بين السترات الصفراء والوزرات البيضاء

“الدولة، ذاك الكيان البشري الذي يحتكر الاستخدام الشرعي للعنف” هكذا عرف عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر الدولة في كتابه (العالم والسياسة). وجعل من العنف المادي (الشرعي) المحدد الجوهري لتعريف “الدولة”، فتحتكره لنفسها ضمن صلاحياتها، أو تفوض جزءا منه وفقا للقانون، فلا يحق لأي كان، فردا أو جماعة ممارسته إلا بتفويض من الدولة حتى لا تعم الفوضى.

ليس صدفة ولا اعتباطا ولا ترفا فكريا ينعم به كاتب هذه السطور داخل برج عاجي، صنعه لنفسه، وبقي حبيسه، بعيدا عما يدور حوله أن يتناول ماكس فيبر وتعريفه للدولة. لكن الذي جعله يستحضره هو التفاعل الوجداني والفكري الذي يعتمله جراء مشاهد العنف المفرط، الموغل في عنفه، لطرف يحتكر هذا العنف باسم (القانون) ويمارسه بقساوة شديدة ضد من لا يملكه ولا يملك سوى سلمية حراكه وصوته ومعهما هاتفه الذكي ليدافع عن مطلبه.

وهو مشهد لا يعبر عن خصوصية دولة دون غيرها، ولا قطر دون آخر. دولة من الجنوب كانت أو دولة من الشمال. لكنه من الموقع الذي نعيش فيه نحن، ونستقبل منه الأحداث باهتمام أكثر، بحكم القرب الجغرافي والتبعية الثقافية، لازال مشهد حراك السترات الصفراء يفرض نفسه بقوة على النقاش هناك، لا يقل سخونة عما يخلفه حراك الوزرات البيضاء هنا.

وبعيدا عن جدل صوابية هذا الملف المطلبي أو ذاك، بين من يدعمه ويدعم نضالية أصحابه وبين من لا يدعمها ويبخسها هي وأصحابها أو لعله يعمل جاهدا بكل الوسائل الشرعية وغير الشرعية لإحباطها وتسفيه مساعي أصحابها. بعيدا عن كل هذا وذاك، يتساؤل المرء في بلد يتلمس طريقه نحو نور الديمقراطية، هل كل هذا العنف وهاته العصي التي تهوي على الرؤوس فتهشمها وتسيل دمها وخراطيم المياه التي تطرح الأجساد أرضا وكل هذا الركل والرفس الذي تطأ صوره على ضمير الإنسانية، هل له ما يبرره، هل له ما يضبطه أو سلطة فوقه تلجمه، فيُقْدِمُ ويُحْجِمُ والفَيْصَلُ كرامة الإنسان من أن تمس أو تهان؟

إن الاشكال العميق، في نظري، ليس في احتكار هذا العنف وممارسته باسم القانون، فكل بلدان الدنيا، متقدمها ومتخلفها، يلجأ إليه ليحفظ الحقوق ويحفظ الممتلكات ويحفظ الأنفس ويحفظ الدولة التي تؤوي الجميع من الفوضى. ليس هنا الإشكال. إذ، ما اختار المحتجون ادفاع عن ملفهم المطلبي بشكل سلمي حضاري إلا وعيا منهم بذلك وعيا تاما لا يزايد عليهم فيه أحد. الإشكال، كل الاشكال، يكمن في غياب “الثقة”. وعلى مستويين اثنين بالغي الأهمية في اعتقادي. غياب الثقة في اللعبة السياسية وغياب الثقة في القضاء.

إن الذي يرقب هذه الدينامية الاستثنائية للمجتمع وهذا الغليان المعلن وغير المعلن، الذي يتخذ شكل احتجاج في شارع أو شكل نقاش مُتَذَمِّرٍ من كل شيء في مقهى، يلحظ بغير كثير من الجهد، أن الثقة ما فتئت تتناقص يوما بعد يوم وتخسر مساحات تلو الأخرى في النفوس إزاء من يدبرون الشأن العام على مختلف مستوياتهم وكذلك على اختلاف مواقعهم. إذ اللعبة السياسية طرف أصيل في تزكية مزيد من “اللاثقة” من خلال ماتفرزه من هجين فقير من الجرأة والإبداع في إجياد الحلول، وأول ما ينتج عنه هو العزوف عن الفعل السياسي ثم هدم الوسائط الطبيعية داخل المجتمع وعلى رأسها الأحزاب (هدم ذاتي داخلي وهدم خارجي) فيكون الخروج الى الشارع للتعبير والمطالبة بالحق الملاذ الأخير. فإذا غابت الثقة عن السياسة كأصل أصيل، فإنها بالتبع، تنعكس على كل المؤسسات وكل السلط، فتغيب عنها الثقة بدورها، بدءا بالسلطة التنفيذية ووصولا إلى “القضاء” الذي يحتكم إليه المواطن لطلب حق أو إنصاف من ظلم. وما رفع شعار إصلاح منظومة القضاء في هذا الصدد إلا إقرار بفسادها، فلا يمكن إصلاح ما هو صالح بدءا. والتقارير الحقوقية خارجيا أو داخليا تؤكد ذلك كما يؤكده الشعور العام الذي لا يلمس تقدما في (إصلاح هذه المنظومة) أو لعله يشعر بتراجعها.

إن تعزيز الثقة في هذين الأمرين مهم للغاية في تقويض عنف الدولة، إذ الثقة في اللعبة السياسية ومن خلالها في المؤسسات يشعر الفرد بالارتياح والامتلاء إِزَاءَ حقوقه (على الأقل في حدودها الدنيا) فيُقْبِلُ على الواجبات بِنَفْسٍ منتجة. لهذا غياب الثقة المقرون على أرض الواقع بفوارق وتفاوتات في التعامل بين قلة مستفيدة وأغلبية تصارع قدرها، قلة تنعم في نعيم الاعفاءات والامتيازات وأغلبية أُثْقِلَ كاهلها بالضرائب، كما أُثْقِلَ ب(شبه إصلاحات) تدفع كلفتها من جيبها، يجعل المرء يشعر بالعنف الرمزي (الحكرة) من مؤسساته، فيخرج للاحتجاج فيذوق العنف المادي. واهتزاز ثقته في القضاء تجعله لا يستطيع طلب إنصاف لا من العنف الرمزي للمؤسسات ولا الانصاف من تجاوز ممكن للعنف المادي للسلطة.

إن “السترات الصفراء” عندما خرجوا ليعبروا عن مطلبهم، عبروا عن فقدانهم الثقة في الوافدين الجدد على الإليزيه، لكنهم أبدا لم يفقدوا ثقتهم في الديمقراطية واللعبة الساسية ومختلف مؤسساتهم، بل يعتزون بها ويعتزون بما أنتجته من حرية ومساواة وإيخاء (Libérté-Egalité-Fratérnité) كما ويعتزون بقضائهم لأنهم متؤكدون من أنه أعمى لا يفرق بين مواطن و وزير، بين محتج من السترات الصفراء وبين “ماكرون”، فهو يكفل أخذ الحق للسترات الصفراء إن كان هناك تجاوز من سلطة ما و أخذ الحق من السترات الصفراء إن تجاوزوا وخربوا ومارسوا العنف.

إذا كان ماكس فيبر قد جعل من الاستخدام الشرعي للعنف المحدد الجوهري للدولة فإن الفيلسوفة الفرنسية جاكلين روس جعلت من الحق والقانون جوهر الدولة، حيث يُحْتَرَمُ الأفراد فيها باعتبارهم مواطنين وليسوا رعايا، لذلك وجب عقلنة ممارسة السلطة لضمان العدالة والمساواة بين جميع المواطنين داخل دولة الحق والقانون. لكن شتان بين الوضع الاعتباري ل “السترات الصفراء” هناك ومثيله ل “الوزرات البيضاء” هنا. يبدو أننا مغرمون بالنموذج الفرنسي (لغة و سياسة ونموذجا…الخ) ما دامت تضمن مصالح وامتيازات معينة، لكن أن نغرم بجاكلين روس ومفهومها للدولة فذلك منال لازال بعيدا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *