وجهة نظر

كيف يمكن أن يقودنا الفايسبوك نحوالمرض العقلي؟

بشكل شبه يومي، اعتاد الجلوس أمام كاميرا الهاتف، يدخل حسابه على الفايسبوك ليبدأ اللايف live، ينتظر قليلا بينما يلتحق المتابعون عشاق الفرجة: يناقش كل شيء، الدين، الفلسفة، الفلك، نظرية التطور، السياسة، الأخلاق، الاقتصاد… ويجيب عن كل الأسئلة، بأسلوب لغوي وجسدييميزه عن غيره، وجد فيه الكثيرون فرصة للاستمتاع والسخرية وخلق الضجة وتمضية وقت الفراغ وقتل الملل المهول الذي نعيشه. هكذا أصبحت مهمة سعيد بن جبلي بعد أن انتقل من الانتماء لجماعة العدل والإحسان ثم خوضه تجربة 20 فبراير، إلى الهجرة من المغرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية ومن الإسلام السياسي، ليصبح “ملحدا” متخصصا في التهكم والسخرية وانتقاد كل ما له علاقة بالأديان، لينتهي به المطاف إلى ادعاء النبوة وأنه تلقى الوحي وكٌلف بمهمة تأسيس نظام عالمي جديد يحقق السعادة للبشرية، ثم يٌقدم بشكل هستيري، يوم السبت 25 ماي على الذهاب إلى مكتب FBI ليخبرهم أن بوش الابن هو منفذ هجمات 11 سبتمبر. كان متابعوهفي “اللايف” مستمتعين جدا بهذا المشهد، لأنها فرصة- لا تتكرر كثيرا- لتمضية الوقت ومواجهة الملل ومشاهدة الجديد.

ليس بنجبلي الوحيد الذي يعكس “لعبة” الفيسبوك للإيقاع بنا في وهم الشهرة والتأثير والبطولية، لكنها لعبة مخيفة جدا لأنها قد تحولنافيما بعد إلى مجانين فعليا.إننا أمام ظاهرة تزداد حدتها مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي وتزايد نسبة مستعمليها. إن هذا الواقع يذكرنا بتوقعات الرسام الأمريكي “أندي وورهول AndyWarhol” في الستينيات القرن الماضي حين قال: “في المستقبل، سيتمكن الجميع من أن يصبحوا مشاهيرعالميين خلال 15 دقيقة فقط” .

يعتمد الفايسبوك، وكل وسائل التواصل الاجتماعي، على جعلنا متصلين أكثر، ولهذا ينوع من وسائل التعبير والمشاركة والانخراط، لدرجة تحس بأن وجودك اليومي “متصلا”(connecté) أمر ضروري لإشباعحاجاتك المختلفة، منالفسيولوجية، ثم الأمنية، مرورا بالرغبات الاجتماعية، وصولا إلى تقدير الذات وفي أعلى القمةالحاجة الذاتية إلى التميز والتفرّد والأفضلية: أي الرغبة في “أن تصبح ما لا يقدر أحد أن يكونه “(adesire “to become the mostthat onecanbe) كما يوضح هرم ماسلو) (Maslow. مع الوقت تصبح سجين شبكة من العلاقات والرموز والاختيارات التي تمنح لحياتك معنى معين وتتحكم فيك في نفس الوقت.

يعتمد الفايسبوك على رغبتنا في البحث المستمر عن الاعتراف والإحساس بمتعة أن يكون لنا تأثير في أفكار الآخرين وحياتهم والمشاركة في صناعة التاريخ. هكذا أصبحنا أمام هوس أن نكون مؤثرين ومشهورينولدينا متابعين (Followers) ومعجبين(Fans)، وسواء كنت من المعجبينأو من غير المعجبين فأنت تساهم بشكل أو بآخر في بناء هذه الشهرة وتحويل صاحبها إلى نجم ساطع في سماءالسوشل ميديا mediaSocial. ولكي تحقق هذه الشهرة فأنت مستعد لتخالف الجميع وتفعل وتقول أي شيء يمكن أن يجلب المزيد من المتابعين ويحافظ على نسبة المشاهدة والضغط على زر الإعجاب والبارطاج.

تؤكد الدراسات الكثيرة عن علاقة الفايسبوك بالبحث عن تقدير وحب الذات، فوفقًا لأبحاث UGA المنشورة في عام 2012 في مجلةComputers in HumanBehavior، فإن الفيسبوك يجعلنا نشعر بالرضا عن أنفسنا ،وكأن الفايسبوك يتحول إلى مكان نذهب إليه لإصلاح الأنا المحطمة وطلب الدعم الاجتماعي. لكن سرعان ما يتحول من وظيفة ترميم الذات هذه، إلى صناعةنرجسية وتقدير مفرط للذات مع ازدياد عدد اللايكات والمتابعين، لأن ذلك يعمل على نقلك من وضعية”لاأحد”(Nobodies)إلى “شخص ما”(Somebodies)يمكن أن يؤثر في أفكار وحياة الآخرين. لقد وجدت دراسة أجريت في يونيو 2013 في جامعة ميشيغان أن وسائل التواصل الاجتماعي تعكس وتضخم مستويات النرجسية في ثقافتنا. لكن على الرغم من أن الباحثين لم يتمكنوا من تحديد ما إذا كانت النرجسية تؤدي إلى زيادة استخدام وسائط التواصل الاجتماعي، أو ما إذا كان استخدام هذه الوسائط يعزز النرجسية، أو ما إذا كانت هناك عوامل أخرى تفسر العلاقة. لكن الدراسة هي من بين الدراسات الأولى التي قارنت العلاقة بين النرجسية وأنواع مختلفة من وسائل التواصل الاجتماعي في مختلف الفئات العمرية.

يبدو أن رواد الفايسبوك في أغلبهم لا يبحثون عن المؤثرين فكريا أو ثقافيا أو فنيا أو اجتماعيا بالمعنى الذي يطور مجتمعاتنا، وإنما يبحثون عن الممتع والمضحك والأقدر على خلق الفرجة والبهرجة الإعلامية، لهذا تنتشر الفضائح والصراعات الشخصية والآراء والتجارب المثيرة والساخنة والمسلية أكثر مما تنتشر الأفكار العلمية أو الفلسفية أو الفكرية.

من الصعب تشخيص حالة بن جبلي بكليتها لأن الأمر يحتاج إلى تفاصيل كثيرة ومداخل متعددة، لكن من المؤكدأن شخصيته- كما يؤكد من عرفه عن قرب- كانت تحمل علامات لهذا الذي حصل، ثم لعب الفايسبوك دورا كبيرا في شهرته وتضخيم أناه،في البداية، ثم دفعه بشكل سريع جدا نحو الانهيار العقلي. ومن المؤسف أنه بينما يصارع المسكين في المستشفى ليعود إلى رشده سيستمر نفس المتابعين والمعجبين في البحث عن “لا أحد” جديد ليحولوه إلى “شخص ما” ويصنعوا منه مهرجا يضحكهم من وقت لآخر، إلى أن يسقط هو أيضا في مشهد مأساوي/مضحكفوق خشبة المسرح (المستشفى، السجن، الانتحار، المرض العقلي…).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *