وجهة نظر

واقعة الاستحمام في الحافلة واستعجالية الوعي بخطر استمرار التحلل

يروج منذ ليلة الأربعاء، على صفحات التواصل الاجتماعي، فيديو لشابين اختارا الاستحمام وسط حافلة للنقل الحضري، و هي تجوب شوارع مدينة مغربية، فيما اختار أصدقاءهـما تصويـر “المشهـد الاحتفـالي” غيـر المسبـوق عالميـا. الصـور كـانت واضحة و أكدت بجلاء أن المشهد تـم أمام سلبية رهيبة لكـل المواطنين من ركاب الحافلة، ومن سائقها الذي واصل سيره، بينما كان المفروض أن يتصل بحراس الأمن الخاص لشركة النقـل، أو أن يقوم بتحويل مسار الحافلة إلى أقـرب مـركز شرطة ليتم اتخـاذ اللازم، و وقف المهزلة.

المهم، أن العبث حصل و السلبية طغت، لتتم بهـدوء فصـول إبـداع جديـد من إبداعات زمن “الضسارة” و “قلة الحياء”، و انعدام الخوف من القانون، و انعدام الأخلاق الحسنة، و التسيب و احتقار الأعراف المُجتمعية لهذا الوطـن الذي يتكالب عليه المغرضون و المفسدون من كل الأصناف. صورة أخـرى، إذن، تنضاف إلى ما نُغـرق تحـتـه مـن أمـواج عاتية في بحـر الـرداءة و تسفيه كل شيء، و هـدم الـذات المجتمعية الوطنية، دون أن تلوح في الأفق ملامح عزم على التحـرك لـوقـف هـذه المأساة الني تزحف على كل شيء جميل.

في الحقيقة، رغم كم التفـاؤل و تغليب حسن الظن الذي أحمله، إلا أنني وأمام مشاهـد مُحزنة كثيرة للأسف، تقع على مستويات مختلفة و في مناطق متعددة من الوطن، و تأخذ أشكالا غير مسبوقة، لا أجـد مبررا أقنع به نفسي أمام كل هذه السلبية و اللامبالاة التي تميز سلوك الناس، كما تطبع سلوك القائمين على تدبير الشأن العام، و المعنيين بتتبع و تقييم السياسات العمومية، سواء من موقع الحكومة أو من موقع هيئات الوساطة السياسية و المجتمعية. أتُراهم أنهكهم واقعنا الذي أصبح بئيسا جدا، وأصابهم من جراءه الإحباط فاستسلموا؟ أم هم لا يزالون مستمرين في سياسة “خليها تخماج… أنت مالك”؟؟

و إذا كان البعض لا يُـدركون دلالات ما يجري تحت أعينهم، و أثـر حفـل الاستحمام العمـومي في الحافـلـة، نموذجا، أنبههـم إلى أن تلك “الواقعة” ستتحـول إلى مـادة إعلامية في كل القنوات الإخبارية العالمية، و سيتم الحديث بإسهاب عن وجه من واقع “أجمل بلدان العالم”، كما لن تتردد الصحافة العالمية في البحث في كل الأبعاد المستترة للظاهرة، و سيقوم المهنيون بمزيد من الاستقصاء و الغوص في أوجـه أخـرى لـواقـع مجتمعـي مريض و مُخجل، لعلهم يجدون الأسباب و يحددون المسؤوليات في ما استجد من أوضاع في بلد “لا ينقصه خير” بحسب ما هو معروف و ما هو متداول لدى من لا يريدون رؤية نصف الكأس الفارغ في واقعنا.

كما أن مشهـد “الاستحمـام” سيـرتبـط بشكل استهـزائي بصورة وطـن ومواطنيـه، و ستنتـج عنه النكـث في كل بقاع الدنيا، و سيتسائل السُياح الذين تمنـوا زيارة المغـرب، عن حظوظهم في أن يصادفـوا لوحة “حضارية مُخجلة” كهاته التي تسربت في الفيديو، إن هم زاروا بلادنا. ولكي تتصوروا جيدا، و نحن في شهر يونيو، أثر هذه “المُـزحة” و هذه “الضسارة” على السياحة الوطنية، تخيلوا أسرة يحاول أعضاؤها الحسم بين اختيار الذهاب، هذا الصيف، إلى تركيا أو تونس أو مصر أو المغرب، ثم فجأة صادف أحد الأبناء هذا الفيديو و تقاسمه مع أسرته… ترى إلى أين سيختارون السفـر؟

ماذا يحدث لنا ؟ لماذا كل هذا التطاول الذي نسمع عنه هنا و هناك ؟ كيف يتجرأ البعض على الاستخفاف بكل الأعراف و التهجم على قوات الأمن العمومي و تحدي القانون ؟ أنحن فعلا إلى هذا الحد أصبحنا تافهين ؟ أم ترانا فقط مستهدفين بمن يريدون لنا أن نبـدو تافهيـن و يريـدون إقناعنا بذلك؟

لا شك أننا نرى كثيرا من الأحداث في حياتنا اليومية، تستدعي الأسـى والأسـف والتـذمـر، إلا أن فينا الخير الكثير، و لن نكون إلا ظالـمين لـذواتنا الفرديـة والجماعية، إذا لم نستحضر حقيقة أن الغالبية العظمى من نساء المغرب، ومن شبابه ورجاله، يثبتون قدراتهم بنضالية حقيقية، و يسعون للعيش بشكل كريم و يحترمون أنفسهم و الناس أجمعين. كما أننا سنظلـم أنفسنا إذا لم نواجه ما يروجه المغرضـون و أعداء مستقبل هذا الوطن، من أن النجاح والتفـوق ليس مغربيا و لن يكون مغربيا، و أننا عاجزون عن الإبداع والتميز، و لا ننتج سوى سلوكات شعبوية تافهة وخطابات متكلسة.

صحيح أن طغيان منطق الإعلام المرتكز على الإثارة و على نزوعات النفس البشرية و ميولها نحو المثير والخارج عن المألوف والتفاهة، يدفع إلينا كل المعلومات التي تُغـرقنـا و تحبط عزيمتنا وترمي بنا في حالة من انعدام الثقة في النفس وفي الآخر، مما لا يساعدنا على بناء الذات المجتمعية، ويجعلنا عرضة للهشاشة بمفهومها الإستراتيجي. لكن، علينا ألا ننسى أن في واقعنا أيضا شباب مغاربة، ونساء ورجال، كثيرون يحققون نجاحات، داخل الوطن وخارجه، في الحواضر الكبرى وفي البوادي المعزولة، و في القطاعين العام و الخاص، و في فروع الهيئات السياسية والمنظمات والجمعيات المدنية، و في الثقافة والاقتصاد والابتكار والرياضة والإدماج الاجتماعي والتضامن. أم هو ذنبهم أننا لا نسمع عنهم بالقـدر الكـافي ؟ أم تراه ذنبنا نحن لأننا لا نجتهد و لا نواجه مروجي التفاهة بالصرامة اللازمة؟ أم أن المشكل يكمن في أن “النجاحات” لا يتم تسويقها إعلاميا، نظرا لظاهرة الأخبار المختلقة أوالزائفة (Fake news)، و “تقنيات التسويق الإعلامي” لكل ما فيه الإثارة و السعي إلى إحداث “البوز Buzz” عبر الأخبار الغرائبية و الخارجة عن المألوف، ومخاطبة الحواس والرغبات و الشهوات أكثر من مخاطبة العقل والأفكار والقيم ومنطق التحليل المتزن ؟

المهم، أننا أمام كل هذا الواقع، مطالبون ألا نخطئ التحليل، وعلينا أن لا نثق في أصحاب “جبهة العدمية و الإحباط”، و علينا أن ننتبه إلى خبثهم ومكر مسعاهم وهم يحاولون إغراقنا في نبذ الذات و جعلنا نستعر من أنفسنا و من أبناء جلدتنا. تأكدوا أنهم عندما ينشرون “فضائح الواقع”، لا يفعلون ذلك لأن الوطن و صورة الوطن تهمهم. أبدا… والله لا يهمهم لا تغيير واقع الفوارق الاجتماعية الكبيرة والمستفزة، ولا واقع تهميش فئات واسعة من الشباب وتحييدهم عن أي أفق مشجع، و لا تستفزهم حالات سوء تدبير مجموعة من المؤسسات العمومية، و لا حالات انعدام التوازن في المجال بين الغنى الصارخ و مظاهر العزلة والفقر القاسٍي، في عدة مناطق.

ما يهم البعض، في المقام الأول، هو أن يستغلوا ما ليس على ما يرام في واقعنا، و يقوموا بالترويج له بكثافة، بدون أفق إصلاحي، حتى نظل مصدومين و شاردين وهائميـن، و نحتقر هويتنا و انتماءنا، و تتزعزع ثقتنا في أنفسنا، ليهنئوا بالغنائم والمواقع التي يحتلون هنا وهناك، بدون استحقاق و لا كفاءة وبكثير من الزبونية ومن تشجيع لمنطق الولاءات الضيقة، عوض معيار الانتماء للوطن والولاء له، و اعتماد الكفاءة قبل كل شيء.

أما واقعة “الاستحمام العمومي في الحافلة”، و ما سواها من مناظر أخرى بئيسة، فهي للأسف حلقة جديدة ستزيـد مـن التذمر والقلـق الجماعي الذي يشتكي منه الغالبية تقريبا، نتيجة لتراكم الإحساس بالفشل و”التفاهة” من كثرة ما يتم الترويج للفشل والفاشلين، و محاربة النجاح والناجحين.

لذلك أعتقد أنه لم يعد ممكنا قبول أن يستمـر هـذا الانحـدار القيمي دون تدخل حـازم و راشـد و غيور على الوطن. و على من قد يعتقدون أن ما حمله فيديـو “الاستحمام”، مجرد مُزحة أطفال أو شباب يلعبون في يوم رمضاني طويل، أن يتوقفوا عن الوهم. ما رأيناه ليس سوى تجل بسيط من استراتيجية متكاملة الأركان تستهدف تسفيه وطـن عـريق، وتشويه شعـب مجيـد، و تـدميـر تاريـخ عظيـم.

وبالتـالي، فإن المطلـوب، بصورة استعجالية، وأكثـر مـن أي وقـت مضى، هو تغييـر اتجـاه الدينامية المتسارعة لاضطراب الأوضاع، والقلق الذي يتقاسمه الناس وتـدل عليه حالات الانتحار المتكررة في عدة مدن، وحالات العنف المجاني المستجد، واستمرار نشر خطابات العدمية والتبخيس لكل شيء.

ولن يتسنى وقف النزيف إلا من خلال اتخاذ خطوات حازمة تعيد الهيبة للقانون بالقانون و بالصرامة اللازمة، و من خلال تفعيل المؤسسات المختصة لتلعب دورها كاملا في النهـوض بأوضاع الشباب وحمايته و تأطيره واسترداده من براثن التهميش و الإحساس بالدونية و بالحكرة، و جعله هدفا أساسيا لكل استثمار عمومي. كما يتعين العمل بقوة لتضييق المساحات الفارغة حتى لا تستغلها بعض الخطابات التي تُروج “حقا يُراد به باطل”، تحت يافطة الحق و الحرية، بينما تسعى في العمق لتتعـزز فوضى التسيب في الشارع العام، ومنطق “خليها تخماج”، و تحلل الوظائف الطبيعية لمؤسسات تدبير الشأن العـام.

وعلى من لهم سلطة الفعل، بقوة القانون و شرعية المؤسسات، أن يتدخلوا لأن الوطن أرقى وأعرق و أقدس و أهم من أي اعتبار آخر. عليهم أن يتدخلوا لأن الأخطر في هذا الواقع إذا استمر هكذا، هو أنه قد يقتـل كل حظوظ النهوض المجتمعي، يـوم سيكـون من الواجـب علينا ومن مسؤولياتنا، أن ننهض من أجل الدفاع عن قضية ما، أو يوم سيُراد لنا أن ننهض.

كما عليهم أن يتدخلوا لنحافظ على المقومات الاستراتيجية التي تُبقي على تنافسيتنا و تحمي قوة مؤسسات دولتنا الوطنية، في عالم شرس لا يرحم من يترك بذور الهشاشة تنمو في كيانه، أو يتردد في اتخاذ القرارات اللازمة أمام تحديات واقع يفرض الحزم في الاختيارات.

ولأن في وطني، رغم كل شيء، آلاف الأشياء والأحوال والأماكن، والمكتسبات المجتمعية الراسخة في عيشنا المشترك منذ عشرات السنين، و الإنجازات والأفكار المتميزة والإبداعات، والكتابات الرصينة والمواقف الصادقة، والأشخاص المحترمين جدا والنزهاء الأوفياء لقيم وطنية ومبادئ إنسانية عالية، و من الثوابت المقدسة و من القيم العالية الشيء الكثير، سأبقى شخصيا أؤكد و أدافع عن فكرة أن الاستسلام لليأس و الانهزام أمام مظاهر التفاهة، غير مُجد بتاتا، ولا يخدم إلا أجندة من يريدون كسرنا و يسعون إلى أن أن يعُـم العزوف عن كل شيء يُعطي لهذه الحياة معنى، وكل مبدأ يعزز قدرتنا على تقليص دائرة السوء والتفاهة، وعلى توسيع دائرة الخير والقيم، و يحد من رغبة الناس في المساهمة و إبداء الرأي و تتبع تدبير الشأن العام، واختيار الأنسب من أطر وكفاءات لإنتاج السياسات العمومية والبرامج وتدبير المرافق والمؤسسات المسؤولة عن تنزيلها. والأكيد أن مثلي كثير من الطاقات تؤمنبأن إبقاء شعلة الأمل ضرورة مجتمعية استراتيجية، و أن هذا الوطن يستحق الأفضل، لكنها طاقات تحتاج لرؤية تدخلات تعطي لهذا الأمل معنى و تجعل له أفقا منطقيا رصينا… و الله يجيب الخير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *