وجهة نظر

رشوة لا ورشة .. صفاقة لا صفقة

يبقى المرء حائرا حيرة لا أول لها ولا آخر حين يحاول استقراء حاضره الذي يعيش فيه. عناوينه واضحة جلية وتفاصيله متناهية التعقيد يصعب إصدار حكم مستسهل بصددها في عجلة من الأمر. ثم كيف له أن يأخذ مسافة موضوعية كافية تتضح معها الرؤية بخصوص وَاقِعٍ، الذاتُ منغمسة فيه وغارقة حتى الأذنين في تفاصيله، بل هي جزء منه بحلوه ومره، والأكيد أن مره أكبر. فكيف السبيل إلى ذلك ؟

هذا الصراع الداخلي الذي يَعْتَمِلُ كل ذَاتٍ مهمومة بواقعها، يتجدد في كل محطة مُرَّةٍ عصيبة. فما إن يَنْدَمِلُ جرحها من سابقاتها إلا وأتت بعدها من هي أنكى منها وأشد وطأة عليها. وآخرها، ما طبخ على نار هادئة لمدة ليست بالقصيرة، لتصفية القضية الفلسطينية بدءا وللأمة نهاية، ويتم تتويج ذلك وإعلانه رسميا في “قمة المنامة” تحت عناون “صفقة القرن”.

لا يخفى على كل متتبع أنه كلما أتى وافد جديد على البيت الأبيض إلا وأول ما يقوم به هو تقديم أوراق اعتماده للكيان الصهيوني على شكل هدايا تثبت حسن نواياه وأن ما جاء في حملته الانتخابية، التي هم في الغالب من يمولها، لم تكن مجرد كلام في الهواء لن تتبعه أفعال. بل بالعكس، يجتهد بالمزايدة على الذين سبقوه في الأعطيات والهدايا لِيَسْتَتِبَّ له الأمر ويطيب له المقام في البيت الأبيض، ويفتح شهية آخرين للمنافسة على المزايدة. فمعلوم أن ولوج البيت الأبيض يمر عبر تل أبيب.

فلم يكفيهم التوقيع على اتفاقية كامب ديفد مع مصر 1978م التي فتحت الباب للانبطاح أمام الكيان الصهيوني دولة عربية بعد أخرى. ولم تكفيهم اتفاقية اتفاقية أوسلو 1993م (ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي للسلطة الفلسطينية) ولا وادي عربة مع الأردن 1994م ولا قمة كامب ديفد الثانية سنة 2000م ولاالتنصل من قرارات الأمم المتحدة تحت استخدام حق الفيطو الأمريكي. فلم يكفيهم كل هذا وغيره، وما جنوه من مكاسب سياسية واقتصادية وتطبيعية مع الدول العربية على حساب الحق الفلسطيني.

لم يكفيهم هدم البيوت في فلسطين المحتلة وتهجير أهلها قسرا وتسهيل خروجهم إلى الشتات وإحلال محلها المستوطنات، لم يكفيهم الجدار العازل الذي أكل من الأرض الهكتارات وزاد فوق المعاناة معاناة تمعن في الإذلال، لم يكفيهم تطويق أكبر سجن عرفه التاريخ، غزة المحاصرة حيث تقطن أكبر كثافة سكانية في العالم (26 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد) والسكوت على تقتيل أهلها بإلقاء القنابل فوق رؤوس الأبرياء، اللهم إلا تنديدا منعدم المفعول والتأثير، هو أقرب إلى التواطئ منه إلى شيء آخر …الخ

الآن جاء الدور على الوافد الجديد للبيت الأبيض، ذو المواصفات الخاصة. جاء من عالم الأعمال للسياسة، جاء بعد مسار لم يكن بريئا ولا ناصعا وإن تغنى الإعلام الامريكي، الذي يملك هو نفسه جزءا كبيرا منه، بنجاحاته وتقديمه على أنه نموذج الحلم الامريكي. جاء الدور عليه ليقدم أوراق اعتماده للكيان الصهيوني. وكان أول قرار اتخذه، هو نقل السفارة الامريكية إلى القدس والإعتراف بها عاصمة أبدية لليهود. ثم دخل مضمار السياسة وهو موشوم بطباع عالَم الأعمال الرأسمالي المتوحش. لتبدأ الطبخة على نار هادئة لتصفية القضية الفلسطينية تحت مسمى صفقة القرن هذه المرة.

وتشمل : ضم القدس كلها للكيان الصهيوني، وإسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وضم المستوطنات بالضفة إلى دولة الإحتلال، كما تطرح السماح بحكم ذاتي فلسطيني على ما تبقى من الضفة، والسماح بكيان (كما سموه) على غزة وأجزاء من شمال سيناء المصرية، وبذلك يتم الإجهاز على أي مفاوضات حول أي حل نهائي لما كان يسمى نزاع. وأطرافها الرئيسيون أمريكا والسعودية والإمارات ومصر.

لا يمكن فصل هذه (الصفقة) عما اصطلح عليه بالخريف العربي بعدما كان ربيعا لفترة وجيزة. حيث زلزلت الأرض تحت العروش. وبات الكل يتحسس كرسيه وأولهم دول الخليج. فالتقى أَرْعَنَانِ : أرعن يسكن البيت الأبيض لا يتوانى، بوحشية رجل الأعمال، عن الابتزاز علنا مقابل منح الحماية، وأرعن يملك “الرز” لا يتوانى عن الدفع بسخاء يمنة ويسرة من أجل البقاء ولو على جثث الأبرياء وفقد المقدسات.

جزء من الصفقة تمهد بفض اعتصام رابعة وفرض السكوت العالمي على ديكتاتورية السيسي والتمكين له في أكبر وأهم بلد عربي ثم ليبيا وتونس والآن السودان ومحاولات للتدخل هنا وهناك. هذا هو الجزء الاول من الصفقة، أما الجزء الثاني المرتبط ارتباطا وثيقا بنجاح الجزء الأول هو جني ثمار كل ذلك بإعادة تشكيل القضية الفلسطينية تحت ضوء الموازين الجديدة للقوى العربية، التي لم تعد ترى في العدو الصهيوني عدوا بقدر ما ترى في إيران وفي كل مقاومة عدوا وإرهابا. وضم أكبر عدد من الدول العربية للتصديق على (الصفقة) وشرعنتها.

فتقدم لهم الحماية هم أيضا ويغدق عليهم من أموال ملكيات “الرز” تحت عنوان مشاريع إقتصادية تنموية.

حتى الدول التي تريد أن تنأى جاهدة بنفسها عن هذه (الصفقة) ليس بمقدورها أن تقول لا ولا أن تتمنع أو أن تتخلف عن المنامة. فلها ما يكفي من المثالب الداخلية لِلَيِّ دراعها واحضارها راغمة الى كل مأدبة تذبح فيها حقوق الإنسان ويجهز فيها على القضايا العادلة. وهذا من ضريبة التأخر أو التردد في الحسم في الإنتقال الديمقراطي الذي يعطي مناعة داخلية وصلابة في المواقف الخارجية.

إن ما يحدث اليوم أبعد ما يكون عن ورشة تقنية قطاعية ولا صفقة اقتصادية. وَلَعَمْرِي، كم هي الكلمات المنتقاة بعناية فائقة، سهر عليها محترفون في بناء الكلام، دليل على موازين القوى. إذ، لا تستطيع الدول الضعيفة وإن كانت تريد النأي بنفسها عما يحدث، لا تستطيع تسمية الأشياء بمسمياتها. فهي قطعا ليست ورشا ستناقش فيه مشاريع عقارية أو مشاريع تطوير بنية الصرف الصحي، ولا هي صفقة بالمفهوم التجاري للكلمة، عرضت بين أطراف متكافئة، حرة في اختياراتها، كاملة الإرادة لاتخاذ قراراتها، لتجني من الصفقة منفعة و أرباحا.

إسمحوا لي هي رشوة يراد دفعها، وصفاقة من دافعها. فشتان بين الرشوة والورشة وشتان بين الصفقة والصفاقة في اللغة.

فيا ترى من سيخلد اسمه في التاريخ مقاوما ممانعا ويورث للأجيال اللاحقة موقفه بالرفض لصفاقة القرن ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *