وجهة نظر

ظاهرة الشرود في فراغ الزمن‎

من المؤكد أن الجلوس لفترا ت طويلة لتصفح كتاب ما مهمة ليست باليسيرة ،بل هي قمة المتعة التي لم يدركها الكثير من الناس في زمن الديجيتال ،حيث أن حصر القراءة في عملية التزود بالمعلومات يبقى قصورا ذهنيا في استيعاب وظيفة القراءة والذوق الراقي الذي تخفيه.

فادا كانت الثورة المعلوماتية قد لعبت هدا الدور بشكل متفان ،وان الذكاء الصناعي قد يسر جوانب مهمة لتوفير هذا الكم من المعلومة ،فإنها في الجانب المقابل كرست السطحية في التعامل مع الظواهر الثقافية والمعرفية بصفة عامة .

بكل صراحة لقد افتقدنا روح التركيز ، ودفنا كل قدراتنا الدماغية سواء في دلالات التفاعل و إنتاج السؤال ،حيث أصبح دور الإنسان مستجيبا ومفعولا به أكثر منه مؤثرا في واقعه، وبالتالي غابت عنه كل غرائز البحث العميق في مابين سطوركل فكرة وأخرى وفك شفراتها.

لقد سبق أن نبه الفيلسوف سقراط إلى مثل هذه الظاهرة عندما تهكم من عملية اختراع الكتب، فاعتبرها عملية تكرس النسيان، بدل اعتماد الذاكرة و تحفيزها كما هو الدور اليوم علي وسائل الإعلام السمعية البصرية، و التي كان لها دور في غرس الكسل في هذا الإنسان المتمدن وحرمانه من جانب كبير من متعة الثقافة سواء الشفهية أو التحصيل من الكتب.

فالقراءة في حد ذاتها غنوصية و ليست بالفطرية كما يعتقد البعض بل مكتسبة، فإذا كان دماغ الإنسان مجبرا على التكييف مع وسائل الإنتاج متوفرة له ومحدثة في دائرته أو عصره، فان ثقافة الإنسان المعاصر قد أصبحت قاب قوسين أو ادني من تلك الفوضى الخلاقة .

فهل نحن من يؤثر في عاداتنا وسلوكاتنا ؟ أم أن هذه الأخيرة هي المؤثرة فينا ؟ وهذا يستدعي الوقوف عند هذه المعادلة.

فإذا كانت مهمة الإنسان قد حددت في استخلاف الله في الأرض بمعنى تمثيل وانتصار لقوى التغير الايجابية، فان هذه المتغيرات أصبحت نتاج فوضى غيرت ملامحه ونمط تفكيره وحولته إلى آلة سطحية فارغة ثقافيا ومعرفيا ، فعملية الغوص في بحر الانترنيت تعرض صاحبها للغرق ،إذا لم يتسلح بمجاديف الدهاء تساعده في العودة لبر الأمان ،وتعفيه من أمواج عاتية تفقده التوازن و حتى لا يصبح ضحية للتيه ، ففي غياب التركيز تبقى هذه السباحة والسفريات وتعدد المهام لها تأثير سلبي على الفعالية والانجاز والمحافظة على وحدة الموضوع.

إن الاستمرار بشكل لا واع في تعمد هذا السلوك يصبح إدمان بالقوة وانشطار فكري بالفعل، فالسباحة والنط من موقع لأخر، ومن فكرة لأخرى يجعلك عرضة لغزارة من الأخبار المتفرقة والأفكار تطل عليك من وقت وحين وهذا من الناحية السيكولوجية هو تفعيل لما يسمي في علم النفس بالجدول المتغير أي أن الانترنيت يكافئك بمعلومات جديدة، كأنها قطعة من الحلوى مقابل الاستمرار في النط وهذا إدمان متعمد بالضرورة ،لان هذا التأثير يتعداه إلى تأثير في السلوك وفي العلاقات الإنسانية

لاشك أن مخادعة هذا الواقع الافتراضي ،حرم الإنسان من التفاعل بأحاسيس إنسانية حقيقية نظرا لغياب ذلك التفاعل المباشر،فالإحساس المقلق بزحف هذه السلوك، وانتشار هذه الظاهرة هي الدافع وراء التنبيه إلى خطورة هذا الاختراق ، بان كل الروابط العصبية أعيد برمجتها ولم يعد الإنسان متحكم فيها ، وان الذاكرة فقدت مساحتها والعقل تحور فتغير.

في زمن صارفيها العقل صناعة ثقيلة فهل من المنطق توريته هذه العطالة ؟

فهل هذا الشرود في فضاء الفراغ نزوة أو متعة ملازمة ؟

أو نحن نمارس تمرينا لتأمل هو محض لوم صدفة ؟

انه بدون مراوغة قتل رحيم وتعجيل وفاة الإنسان على وقع الزر واللمسة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *