وجهة نظر

هالة وردي .. أو حينما تنطق “التفاهة”

الرجعية غير مرتبطة بتوجه، أو مذهب، أو أيديولوجيا، أو فكر، بل هي عقلية قد تنسحب على كل هذه المجالات والقناعات الفكرية والتصورية. فلقد ظلت التيارات التي سميت بالتقدمية تسحب هذا التوصيف الإديولوجَوِي على التيارات الإسلامية، والأنظمة العربية، باعتبارها تيارات وأنظمة تمتح فكرها، ورؤاها وتصوراتها من الماضي، وتعتبر هذا الماضي، بحمولته الأيديولوجية والفقهية، المستند والمصدر لكل اجتهاداتها في تدبير شأن حياتي معاصر يستشرف المستقبل، وينهض على مؤسِّسات الماضي، وخلفياته.

بيد أن الصراع الفكري والأيديولوجي الذي تعيشه الساحة الفكرية اليوم، والذي تفتعله التوجهات التقدمية، في عز الصراع الوجودي مع التوجه الإسلامي، المكتسح للساحة الشعبية، لم يُبْقِ لهذه التيارات الفكرانية، المدعاة بالتقدمية، أي مجال لاستشراف مستقبل الأمة بأدوات وآليات اجتماعية حداثية. إذ تحول الخطاب التقدمي إلى خطاب رجعي لم يجد من سبل لمواجهة قوة الحضور الإسلامي، إلا بالرجوع إلى الماضي، والبحث في التراث عن مؤيدات فكرية وسياسية لطرحه المبني على التشكيك، وحرب التسفيه، والتكذيب الذي يخوضه، هذه الأيام، بعض بني علمان من التيارات اليسارية، والليبرالية الجديدة، التي رضيت أن تستأجر أقلامها، وخطاباتها، لخصوم تيار الإسلام السياسي، عندنا هنا في المغرب، ممن تشكلوا في الأحزاب المعلومة، التي لم تسعفها المواجهة المباشرة للتيار الإسلامي عبر صناديق الاقتراع فاختارت الإثارة عبر صالونات الفكر، والرأي، وعبر مهرجانات التطرف الفكراني، التي تُعقد برعاية وتمويل منها، ويُستدعَى إليها كل من عفا عنه زمن الصراع الفكري العاقل، والهادئ، من التافهين والتافهات، ممن يُحسَبون على طبقة المثقفين العرب، وما هم منهم .. جماعة ممن خانهم عقلهم وفكرهم، وقتل الغيظ نفوسهم فاختاروا مخالفة الأمة، بل العالمين في قضايا، وأمور حسمها التاريخ، وتجاوزها نقاش الزندقة الذي كان يثار في الزمن الأول ويتصدى له دراري المسلمين، فضلا عن علمائهم، ويأتون عليه من القواعد؛ براهينَ، ومُحاجَجاتٍ، وحِجاجاً.

وليست مناسبة هذا الكلام وفصُّه، سوى ما أصبحنا نقرأ عنه، ونسمع به، من هجوم كاسح وغير مسبوق على توابث الأمة ودينها من طرف جماعة من المتساقطين على ساحة الفكر والثقافة ممن يحسبون على قبيلة المثقفين العرب، والذين تم استغلالهم من قبل تيارات سياسية خصيمة للتيار الإسلامي، لنشر فكر الزندقة والتطرف العلمانوي، وسط الشباب، والمتعلمين. وليس آخرهم المدعوة هالة وردي الجامعية التونسية المتغربة التي استُضيفت في ندوة فكرية بطنجة تحت رعاية أحد الأحزاب المغربية المتياسرة. حيث تجاوزت، المدعوة إياها، كل الحدود حين شككت في وجود الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وشككت في اسمه ونسبه ومكان وفاته، …هكذا !!، مما أثار الكثير من اللغط ، وأسال الكثير من المداد عبر المواقع الاليكترونية، والورقية، وعبر وسائط التواصل الاجتماعي، والتي وصل فيها خنق بعض المتحمسين إلى حد مطالبة السلطات بالتدخل لطردها من المغرب، أو محاكمتها !. وهو الرأي/المقترح الذي عارضناه بشدة، كما عارضنا كل التهم والأحكام التي صدرت في حقها، واعتبرنا حرية الفكر والرأي، مهما تطرَّف، خط أحمر، لا يحق لأحد أن يصادره كيفما كانت سلطته، ما لم يكن دعوة إلى الفوضى، أو القتل، أو زعزعة الأمن العام. كما اعتبرنا المواجهة السليمة لهكذا فكر شاذ ومستفز ، يجب أن تكون بفكر هادئ، وعقل ناضج، يرد الحجة بالحجة ، ويقرع الدليل بالدليل، كما دأب على ذلك علماء الأمة أيام تحرر العقل، وانطلاق الفكر. وأعقل ما تُواجَه به التفاهات التي لا تحترم عقول الناس، وتبغي الإثارة والتسميع من أجل التشويش؛ تجاهلا عاقلا، يُسقِط في اليد، ويَحصر “بروباغنداهَا” الرخيصة في حدودها الدنيا، كما هو شأن حالتنا. وهذا هو المنهج “الصح” الذي يناسب التعامل مع هكذا حالات. فقد ذَمَّ الكفار والمشركون الرسول صلى الله عليه وسلم في عشرات القصائد، لكن لم يصلنا منها شيء. لأن المسلمين تعاملوا معها بتجاهل، حتى انمحت، ونسيت، ولم يبق لها أثر. وقد كان الفاروق عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يقول:” أميتوا الباطل بالسكوت عنه، ولا تثرثروا فينتبه الشامتون”.. !.

فحسْبُ المتتبع لمثل هذه الإثارات التافهة، أن يعلم أن الهدف منها، أو لا وأخيرا، هو خلق زوبعة في الأوساط الفكرية، لنشر التشكيك وزعزعة إيمان الناس، وتقليص نسب المؤمنين المزعجةِ أعدادُهم الهائلة والتي تزداد كل يوم، بل كل ساعة بالمئات، مما يهدد المشاريع اللادينية، المناوئة لمشاريع الإصلاح المواطنة، التي تحملها التوجهات الإسلامية، والوطنية في الوطن العربي والإسلامي.

فليس من رد علمي وعقلاني على مثل هذه التزندقات الماضوية، والتي يستدعيها من يدعون التقدمية، لإثارة الشكوك، وزعزعة المبادئ، إلا التجاهل المطلق لها، وعدم الالتفات إليها. فحسْبُ تهافتِها أن يأتيَ عليها من القواعد، وحسْبُ غمورها أن يَرْمِي بها في مزبلة التاريخ، كما رمى بمثيلاتها خلال قرون العز الإسلامي، حينما كان الزنادقة يجادلون العلماء، فيردونهم بالدليل والدليلين.

لقد عمل اللبراليون الجدد طيلة أزيد من ثلاثة عقود، سيرا على خطى التيار اليساري الإصلاحي في بدايته الأولى، بعد طلاقه المرحلي من التيار الماركسي اللينيني المتطرف (دعوة الدكتور الجابري للتصالح مع عقيدة الأمة واتهامه بالإصلاحية 1979)، على البحث قي التاريخ والتراث الإسلاميين عن التناقضات المسعفة له لتأسيس أطروحته في التشكيك، لخدمة مشروعه اليساري/ العلماني المتطرف الذي يقوم على قاعدة فصل الدين عن الحياة، بل فصل الله عز وجل عن الحياة، وتركين القٍرآن والدين زاوية التقديس. مع الاشتغال على نشر سموم التشكيك في أوساط المثقفين والطلبة وبعض النخب الشاردة وغير المحصنة، لتشكيل قاعدة من المؤمنين بالألحدة كمنهج حياة بديل عن خرافة الله، والدين، والتدين.. !!.

ولقد نجح هذا التيار في تنزيل بعض من أطروحاته الأيديولوجية والفكرية بالحديد والنار، في واقعِ مجتمعات تحكمت فيها قوى سلطوية تبنت هكذا طرح، لكنها، وهذا هو الأهم، لم تستطع أن تنتزع إيمان المؤمنين من قلوبهم، أو تقنعهم بالعدول عن عقلهم الديني، وإيمانهم الوجداني. فلم يزحزحوا من إيمان الناس شيئا، ولم يستطيعوا، ولن يستطيعوا !.

فهالة مراد، والعفيف الأخضر، وهدى سلطان، … وغيرهم من الليبراليين الجدد، لا حول لهم ولا قوة أمام ما يأملون. كما لا خوف منهم، ولا حزن، أن تؤثر خربشاتهم في أضعف الناس إيمانا، وأقلهم فقها، والتزاما. وإلا، كم ارتد من المغاربة المسلمين عن دينهم، بعد ندوة التفاهة بمهرجان تيويزا الذي شككت فيه، المدعوة إياها، في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم؟. وكم من متدين حضر الندوة إياها ، أو تابعها عبر الليف، أو قرأ عنها؛ ترك المسجد، وتوقف عن أداء الشعائر، لأن الدكتورة المحترمة جدا أقنعته بهلوستها الشاردة، بأن نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم – مشكوك في وجوده فقرر التوقف عن هذا التدين حتى يثبت العكس، أو يختار اللادين منهجا جديدا؟؟. بل كم ممن تأثر بما كتبته قبل ذلك في “الأيام الأخيرة لمحمد” عن مأساة الرسول التي أقامت له شأنا، وانشغال الصحابة بصراع الحكم عن دفنه صلى الله عليه وسلم، وهو ذات الرسول الذي شككت في وجوده بالندوة إياها، في ارتباك فكري واضح !!، أو عن صراع الصحابة في “الخلفاء الملعونون” (عنوان أحد كتبها)، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتواطؤ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بالسم. في استدعاء لأقوال من نسْجِ خيالها باعتبارها نصوصا من التراث الذي تقول بأن كتبه غير موثوقة وأنها كُتِبت متأخرة عن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تعتمد منها كتبا مصادرَ لادعاءاتها، وفي نفس الوقت تكفر بنصوص تواترت حدَّ اليقين من ذات التراث تؤكد خلاف ما تزعم،…في لخبطة وتناقضات لا يمكن أن تستقيم بين ناظري كل ذي عقل سليم !.(ليس غرضنا من هذا المقال الرد على ما يورده هؤلاء الشاردون من تفاهات، لأنها هي أصلا تفاهات لا تأثير لها ولا وقع، وتجاهلها أولى وأعقل. وإنما أوردناها لننبه إلى أن الرد السليم عليها هو تجاهلها).

قلت: كم من واحد من هؤلاء حاد عن الحق، واختار اللادين على أن يبقى رهين الأفيون والخرافة؛ زعموا ؟ !. بل كم تابع من المغاربة المسلمين تفاهاتها؟… حتى نثير كل هذا اللغط، وهذا النقاش الفارغ، حول تفاهات أول من يكفر بها قائلتها.

أكاد أجزم أن 99.99% من المغاربة لا يعرفون سعادة الدكتورة، ولم يسمعوا بها قط. كما أجزم ألا أحد تأثر بما قالت، أو ارتاب قيد أنملة مما قالت، ممن قرأ لها، أو تابع زعيقها الأخير، حتى ممن ناصرها عبر مواقع التواصل ضدا على خصوم أيديولوجيين لو نزل الشيطان الرجيم لتحالفوا معه ضدهم كما قال احدهم.

ولقد عشنا حتى سمعنا من اليسار التقدمي نصرته لفرنسة التعليم، في عز النقاش الدائر حول القانون الإطار 15-71، والمادتين 2 و31 ، وهو الذي ظل يبني معاركه التاريخية على مواجهة الفرانكفونية ويعتبرها صنو الامبريالية ورديفتها. ليس اقتناعا منه بهذا الموقف الجديد، كما قال أحدهم، ولكن رغبة منه في مخالفة خصمه الأيديولوجي، الذي لا يمكن أن يجمع بينهما طريق، ولو كان طريق الحق، والصلاح.. هكذا!!..

ولنا أن نتساءل أخيرا..

هل الإيمان الذي استقر في قلوب المغاربة لقرون، بهذا الضعف، والهشاشة حتى تؤثر فيه تصريحات خرقاء لأستاذة شاردة، فتستنفرنا لإثارة كل هذه الضجة، والردود، خوفا عليه أن ينهَدَّ ويذهب ريحه؟ !!!.

لا، ثم ألف لا .. !. فإيمان المغاربة المسلمين جبل لم ولن يهزه ريح، ولن يستطيعوا أن يحركوا فيه أنملة، مهما، شككوا، وسفهوا، واستدعوا سحرتهم، وفلاسفتهم، ومؤرخيهم، لحجب الحقائق، وطمس العقول، ونشر الأراجيف،…لن يستطيعوا !.

ثم إننا إنما سمينا هذه الإثارات “تفاهاتٍ” لأنها عبارة عن طلقات فارغة في الهواء، لن تصيب أحدا، ولن تحقق هدفا. فلاهي برؤى سياسية، ولا هي باستراتيجيات اقتصادية، ولا هي بمناقشات ديمقراطية، ولا هي بمطارحات فلسفية، قد نتفق حولها أن نختلف، إنما هي ادعاءات أقرب إلى السباب، واستثارة المسكوت عنه، وإثارة الفتنة من أجل الشهرة، والتسميع، منه أن يكون شيئا آخر. وليس هؤلاء أول من يثير هذه التفاهات لأجل هذه الأغراض؛ فقد سبقهم، خلال تاريخ المسلمين المآت، دُرِس أثرُهم، وانمحى ذكرهم، ونفقوا ليُرْمَواْ في مزبلة التاريخ. وظل الدين قويا ساطعا، ممتدا عبر القرون، بحفظ الله تعالى ورعايته. وسيستمر كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وللأستاذة وأمثالها ومثيلاتها، وكل من يجهدون أنفسهم بخوض معركة التشكيك، والتشويه، والتأليب،… سخط الناس، ومزبلة التاريخ .

فرجاءً، ثم رجاء، لا تحولوا التافهين إلى أيقونات، وتُدخِلوهم التاريخ، فقافلة الحق تسير، ومزبلة التاريخ موعدهم.. !!

دمتم على وطن.. !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *