وجهة نظر

مـسـرح الـجـريـمـة ولعبة الـحـوت الأزرق

ربـمـا مـع التطـور التكنـولـوجـي ومـع ارتفـاع معـدل الـجـريـمة سواء علـى الـمـستـوى الوطنـي أو الـمستـوى العالـمـي، قـد يـتـحتـم ابـتـداع بـعـض الأمـور غـيـر القـانونيـة التـي يـتـرتـب عنـها البطـلان بصفـة تـلقائـية.

ومن بيـن هـذه الأمـور التـي صارت بفعل حبـكـتـها وتشويـقـها تـهـوى إليـها القلوب وتتطلـع إليـها الأنفس وتـنـتظر فـي كل وقـت وحيـن بـثـها من جـديـد، خاصة لدى نوع خاص من الجمهور(…)، ما بـات يعـرف بـمـسرح الـجـريـمـة التـي يـسهـر عـلـى إعـداده الضابطة القضائية. لكــن ولأنـنـا فـي دولـة الـمؤسسات ودولـة القانون، فلـو قـمنا بـبحـث فـي جـميع القوانـيـن لـمـا وجـدنـا أي إشـارة ولـو صغيـرة إلـى جـواز مثـل هـذا الإجـراء الـذي يعتبـر غيـر صـحيـح بصفة نـهائية إن علـى الـمستوى القانونـي أو حتـى علـى مـستويـات أخرى ارتـباطا بالتأثيـرات السلبيـة التـي يـمـكن أن تنتـج عنـها، ولـمـا وجدنـا قد سبقنـا إليه أحد من دول العالـم أجـمـعيـن.

فـمـا إن يصل إلـى علـم الضابطة القضائية خبـر ارتـكـاب جريـمة، تكون بـالـضـرورة جـنـايـة، تقشعـر لهـا الأبـدان، مـن الـممكـن أن تـحقق نسـب مشاهدة عاليـة علـى مستوى وسائـل الإعلام، ومـن شأنـها أن تـثيـر الرأي العام حتـى تـستنـفـر كـل مـكونـاتـهـا للبحـث عـن مرتـكب ذلـك الفعل الذي يـتعـرض فور العثور عليه إلى تشنيـع كبيـر علـى الرغـم مـن أن القانون يـمنع ذلـك بشكل مـطلق. هذا عكس بـاقـي الـجرائـم كـجرائـم الأمـوال مثـلا التـي يـكون موضوعها مـاليـة الـدولـة، فإن مثل هذه الجرائـــم لا يتعدى حسيسها مـخـافـر الشرطة ذاتـها ولا تتطلب كاميـرات مـتـطـورة ولا إلـى مسرح الجريمة !!!

يـنص الفصل الأول من قانون الـمسطرة الجنائية علـى أن الـمتـهم بـريء إلـى أن تـثبـت إدانـتـه بـمقتضـى حكـم قضائـي حائـز لقـوة الشـيء الـمقضـي بـه، وهو نفس الـمقتــضـى الـمنصوص عليـه فـي الفصل 119 من الـدستور. والفصل 115 من ذات القانون أي قانون المسطرة الـجنائيـة، ينص على مبدأ سريـة البحث والـتـحـقـيـق فـي مرحلـة التـحقـيـق الإعـدادي، مـخـصصا لـه شـروط مـحـددة ومـتعـرضا لـمن خرقها بعقوبات قاسية. لكن حينـمـا نـجـد هـذا الـخـرق السافـر للقـانـون عنـد القيـام بتـلـك (الفضيحة) التـي تـكون منقولـة علـى الهـواء مباشـرة يشاهـدها الكبيــر والصغيـر، الـعليل والسليــم . . دون أدنـى اعتبار لـمـا هو مـنصوص عليـه فـي القانـون، عـندها قـد تـطرح العديد من عـلامات استفهام حول هـذا التعـدي الصارخ ليس علـى مـن يفتـرض بـراءتـه وحسب وإنـمـا علــى من يشاهد مشاهد الرعب هذه بـمـا فـي ذلـك أهل الضحايـا الـمفتـرضيـن.

مـن خـلال هـذه الـمشاهد الـمحبوكـة والاعتـرافـات القـاطعـة لـهـذه الـجريـمة الـمفتـرضـة التـي يـتـم نـقلهـا مـباشـرة عـلـى وسائـل الاعـلام بـمـا فيـهـا العموميـة، يـتبادر إلـى ذهـن ونفسية الـمتتبـع العـادي بالـخصوص، الـحق فـي إمكانية إعطاء أحكام جاهزة تـديـن مرتـكب الفعل الـمُـجـرم، أي أن الانطباع الذي يتوفر لدى الكل بـاستثناء من هو مـختــص فـي القانون ولـه إلـمـام به، عـلـى أن الشـرطـة الـقضـائيـة أو بـصيغـة أدق أن مـن يـسهر عـلـى إنـجـاز (مسرح الـجـريـمـة) هو من لـه الكلمة الفصل فـي إصدار القرارات القضائـيـة وليـس القضـاء؛ أي أن الأمر لا يـحتـاج بـعدئـذ إلـى قضاة أو إلـى مـحـاكـم أو إلـى مـحام . .

لكن الفصل 291 مـن قانـون الـمسطرة الـجنـائـيـة وبـاقـي الفصول التـي تتعـرض إلـى ما يقوم به ضباط الشرطة القضائية وغيـرهـم مـمن لـه الصفـة فـي إنـجـاز الـمـحاضـر، كيفمـا كـان نوعها وشكلها، يطلعنـا (أي الفصل 291 من قانون المسطرة الجنائية) على أن الـمحـاضـر التـي يقـوم بإنـجـازها ضبـاط الشرطـة القضائيـة فـي الـجنـايـات، تعتبـر مـجرد بيانـات يـمكن الاستئنـاس بـها؛ وهو الامر الذي يفيـد علـى أن ما يتـم اعتباره حقائق فـي مسـرح الـجريـمة ما هو إلا بيانـات عاديـة قابلـة لإثبات العكس أو حتـى عدم الأخـذ بـها بصفـة نـهائيـة.

ثـم إنـه وبصـرف النظر عـن الهدف المتوخـى من كل هـذا، رغـم أنـه إجـراء غيـر قانونـي، فـمن وجـهـة نظـر أخرى قـد يـكون لـه تـأثيــر سلبـي فـادح على النشأ بصفـة خاصـة وعلـى الـمجتـمع بصفـة عامـة. نسب الـمشاهدة التـي تـبلُغهـا فيـديوهـات ما يسمـى مسـرح الـجريـمة هـي نسب جـد مرتفعـة حتـى تـكـاد تـكون الـفيـديـوهـات الـمفضل مشاهدتـها لـدى غـالبيـة الـمغاربـة، علـى الرغـم مـمـا تتضمنـه مـن مشاهـد جـد قاسيـة. الإعتياد علـى مشاهدة أمور كـيفمـا كانـت درجة قسوتـها تصبح أمـرا عـاديـا جـدا، وإن اقتضـى الأمـر تـقليده والاستعانـة به. وهو الأمر الذي يوجـد لـه مـثـيل فـي العديد من البـرامـج أو الألعاب الإلـكتـرونـيـة التـي رغـم خطورتـها تـجـد إقبالا مـهمـا، خاصـة مـن قبل الأطفـال؛ ولعل أصـرخ مثال وأشهره على الإطلاق ما يـعرف بلعبـة الـحـوت الأزرق.

والأخطر من هذا كله، هو الألــم الـذي يـطـال أهل الضحية الـمفتـرض؛ فـبـدل أن يتألـمـوا مـرة واحـدة وينتـه الألـم بشكل مـن الأشكال، يصبحون في ألـم نفسـي دائـم بـفعـل رؤيتـهم على وسائل الاعـلام للطريـقـة التـي قضـى بـها قريـبـهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *